سأجتهد لأبين بعض الأفكار الرئيسية التي يدور حولها الكتاب الذي وضعته مؤخرًا عن الجنس ومعناه الإنساني.. موضوع الجنس مطروح بحدة في أيامنا، والآراء حوله متباينة، فهناك من ينادي بتحرير الجنس من كل قيد، وهناك بالعكس من بطلب اخضاعه للتقاليد باسم الأخلاق والفضيلة.
وينطلق الموقنان من افتراض مسبق واحد، وهو أن الجنس طاقه غريزية وحسب، فيطالب البعض باطلاقها على سجيتها، ويطالب البعض الآخر بحصرها ضمن الشرائع والتقاليد.
يحاول الكتاب إعادة النظر فيما يستند اليه الموقفان، إنه يتساءل، هل يصح إعتبار الجنس طاقة غريزية ليس إلا؟ ويحاول الكتاب الإجابة عن السؤال بشكل موضوعي، بملاحظة واقع الجنس للإنسان. كما يتضح هذا الواقع من خلال كتابات الذين إنكبوا على الكتابة من علماء النفس والأدباء، إاستنادا للأبحاث.
يتضح أن الجنس وإن كان أحد وجوهه حاجة غريزية، إلا أنه يتخطى الغريزة إذ نجد له طابعًا إنسانيًا فريدًا، ليس هو مجرد إزالة توتر عضوي مثل الجوع والعطش لأنه مرتبط بعوامل نفسية تلعب دورًا بالغ الأهمية، والميل الجنسي لا يسعى لمجرد التناسل لأن الرغبة الجنسية عند الإنسان ليست مقيدة بأزمنة الخصب مثل الحيوان.
فرادة الجنس عند الإنسان هو سعيه لتحقيق وحدة عميقة ولقاء صمیمی، بين شخصين من خلال جسديها، ويحس المره بنشوة لأنه نجا من عزلته واكتمل بالآخر. الجنس يجب أن يحقق التداخل الصمیمي بين كائنين. تلك الصلة العميقه يعبر عنها في اللغة كجماع، ووصال. الجماع لا يتم إلا بين شخص وشخص. هذا هو الفرق بين الجنس والجوع. الجوع يدفعني إلى الاستيلاء على شيء، واستهلاكه، كی أسد به رمقي، أما الميل الجنسی فيدعوني للاتصال بشخص لأنجو من عزلتي. ولكن الجنس مهدد أبدًا بالانحراف الآخر، وهو استعمال الآخر كشیء لإزالة توتر وبلوغ لذة ويغيب كشخص، ويصبح مجرد جسد يستمتع به لا كائنًا فريدًا بحد ذاته يلاقي من خلال الجسد.
موقف المجون ينظر الآخر كمجرد مصدر لذة، ولا يهمه من الآخر سوى اللذة التي يجتنيها منه وحسب فإذا ما أروى غليله منه، سعى لجسد آخر يجدد به لذته وهكذا، إن سعي الماجن يحول درن رؤيته لفرادة الشخص الاخر، ولا يرى في الآخر سوى أجسادًا قابلة للتبادل مثل تبادل لفافات الفاكهة، وفاكهة تستبدل بفاكهة أخرى. وهو لا يسيء للآخر فحسب، بتجريده من صفته الشخصية وأنحداره لمستوى الأشياء بل يسي. للماجن نفسه، ذلك أن أمنية الجنس، هي اللقاء الصمیمی والتلاحم بین شخص وشخص لكن الماجن لا يلاقي أحدًا من تعدد الأجساد، ولا يصادف سوی لذته. لا يتعشق سوى ذاته ويبقى أسير عزلته، وشعور بالفراغ والتهالك على اللذة يحدر بها ذاته، وهذا يدفعه للتهالك على اللذة فيتخبط في دوامة، ساعيًا وراء سراب سعادة لن يبلغها لأنه يطلبها في غير موضعها.
الماجن ليس هو فئة معينة بل تلك النزعة إلى المجون كامنة في كل منا. الماجن يفشل في السادة التي يصبو لها الإنسان من خلال الجنس لأنه يبتر الجنس من بعده الإنساني في اللقاء بآخر، الماجن يفرط في استعمال الجنس مع أنه بالعكس مقصر فيه.لأنه لا يذهب فيه لنهاية المطاف للمرمى البعيد، وما الإكثار الكمي عنده سوى تعويض للنقص الفادح في ممارسته، شأنه شأن من يحاول علاج جزعه النفسي بالنهم في الأطعمة.
يتضح لنا أن الجنس لا يبلغ غايته الإنسانية إلا إذا تجاوز مجرد السعي للذة مغلقة فأصبح سعيًا إلى الآخر، أي من حيث أنه هو مهم في حد ذاته، من حيث هو كائن فريد، ليس مجرد جسد قابل للتبادل بجسد آخر. بمعنى آخر، الجنس لا يكتمل إلا إذا أصبح حبًا. ليس بالمعنى الذي يعطيه حب الماجن الذي يقول أني أحب مثل من يقول أني أحب فاكة معينة قاصدين الشهوة لإستهلاكها لنلطف بها أفواهنا. الحب الذي به يكتمل الجنس هو أن يعتبر كل من المحبين أن لذة الآخر وسعادته وخیره مهم كلذته وسعادته وخيره هو، والمحبوب كائن فرید غير قابل للتبادل مع كائن آخر، عند ذاك يخرج كل منهما من عزله، فيكتشف الآخر كغاية وليس كمجرد وسيلة. وعند ذلك يكتشف كشخص تقوم معه علاقة من شخص آخر، واللقاء الجنسي لا يصبح لقاء عزلتين متقابلتين بل لقاء بالعقل، جماعًا، ووصالًا بالحقيقة ولا تغلق اللذة بل تتخذ كل أبعادها فتصبح لقاء في اللذة وتتحول إلى سعادة.
هذا الحب الذي يجمع بين شخصين، لا يستقيم إلا إذا كان فريدًا، لأن الشخص فربد، ومستمر في الزمن لأن الشخص ذو بعد زمنی، فالحب في انطلاقته يصبو للوحدانية أي أن المحب يصبو لمحبوبته فيقول لها اني لن أحب سواك (الفرادة) أبدًا (البعد الزمني). الإنطلاق لا يتم إلا بالإرادة لأن الشعور يعلو ويهبط، لذا فالحب الأصيل ليس تلاطمًا بين شعورين بل لقاء شخصين على كل الأصعدة: حسي وشعوري وروحی وعقلي. هذا اللقاء يكرسه وعد يجعله بمأمن من تقلبات الشعور يلتزم به كل من المحبين بكيانه كله تجاه الآخر. وما الزواج بمفهومه الأصيل، سوى إعلان هذا الوعد احتفاليًا أمام المجتمع، ما يجعله أكثر رسوخًا. قيمة الزواج الأساسية ليس في كونه عقدًا اجتماعيًا بل في كونه تكريسًا لهذا الوعد الذي يتعهده المحبان، أن يلتزما طريق الحب، هذا يعني أن عقد الزواج ليس غاية بحد ذاته بل هو مجرد الإطار الذي فيه يعاش الحب ويغذى أبدًا ويزداد أصالة وعمقًا باجتيازه خبرة الحياة، والأمانة الزوجية الحقة لا يمكن أن تكون نتيجة عقد اجتماعی وحسب. لا يمكن لهذا العقد أن يحمي وعد المحبين إلا إذا اقترن بفعل مستمر من كليهما. فعل يحافظان به على الحب وینمیا نه. الحب خلق مستمر، كما قال أحد كبار علماء النفس المعاصرين.
أما إذا استكان الزوجان لعقد الزواج، واعتبر الزوجان الزواج صك ملكية فهما بذلك يجعلان منه مقبرة للحب كما هو الحال في كثير من الأحيان. الزواج حب معطاء يعطي على قدر ما يأخذ لا بل أكثر مما يأخذ، الحب يفترض نضوجًا على الصعيدين النفسي والروحي، فعلى الصعيد النفسي، يستعرض الكتاب مستندًا لمعطيات التحليل النفسي المعاصر، مراحل المسيرة التي تقود الكائن عبر مراحل حياته، من إستيلائية الطفولة، التي فيها ينظر الآخر من خلال حاجته الخاصة، إلى معطائية الراشد بالفعل الذي يهتم بالآخر لأجل شخصه. يمكننا أن نفهم المعنى الحقيقي للعفة، هذه الفضيلة التي كثيرًا ما شوهت كما شوه الجنس والحب، حتى أصبحت مرادفة للعجز والخوف. يبين الكتاب أن الخوف من الجنس، والتهرب من مواجهته، وإخضاعه للأوامر والنواهي التي يفرضها المجتمع والدين هو تزييف للعفة، فالعفيف هو من لا يخاف الجنس ويتعهده بوعي ومسئولية موجهًا إياه بقناعة في خط الحب، العفيف حقًا هو من يحرص على إعطاء الجنس كل أبعاده بممارسته في خط الحب وفي الحب فقط، عفة كهذه يمد لها منذ الطفولة بتربية مبنية ليس على قمع بل على تهذيبها وتوجيهها وليس على تجاهل تساؤلات الطفل بل مواجهتها في بساطة وصراحة.
الباب الأخير في الكتاب يتحدث عن " آفاق الجنس"، يبين استنادًا على خبرة البشر عبر العصور قديمًا وحديثًا - الخبرة، التي عبرت عنها الأديان والآثار، أن الجنس يسعى لسعادة مطلقة تظهر بشكل حاد في استقطاب مطلق للانسان ؛ كما قال أفلاطون وردد من بعده الفيلسوف بردیف، أن العشق هو إشتهاء الأبدية وهذا ما أضفى على الجنس طابعًا قدسیًا كرّسته الأديان القديمة وعاد في هذه الأيام عند المهيبين. من خلال الجنس يصير الإنسان إلى التأليه، يحاول إستعادة الفردوس المفقود. ولكن عبثًا يحاول لأنه يعود في تلك الحالات خائبًا إذ يصطدم بمحدوديته الكيانية، المطلق لا يبلغ بالجنس وان كانت كل خبرة صميمية تهيئه له. لا يبلغ المطلق إلا إذا هو انحدر إلينا، هنا يترك الكلام للإيمان. فالمسيحي يؤمن بأن المطلق أتي إلينا في شخص يسوع المسيح ورفعنا إليه كما ردد الآباء. لقد صار الله انسانًا ليصير الإنسان إلهًا(1). بالمسيح يصبح الله حاضرًا في الاتحاد الزوجي، هذا معنى سر الزواج، أن المسيح حاضر في الزواج ليزرع في صميم الجنس بذور الأبدية، هكذا يتاح الحياة في الجنس في خط الملكوت حتى القيامة، إذ يتحرر بها الجنس من الغريزة والشهوة ليحقق مرماه البعيد في اتحاد الله بالبشر والبشر بعضهم بعض. من المؤمنين من يجتهد أن يعيش من الآن في حياة القيامة، وكثيرون يشتهون الحياة الفردوسية من الآن وذللك بالعفة المكرسة يمتنعون عن الجنس، لا خوفًا، ولكن لأنهم يصبون إلى مرماه البعيد، إلى تحقيق الأبدية هنا. إنهم لا يتزوجون لا لكي ينطوون على أنفسهم بل لكي تتأجج نفوسهم بمحبة الله وليحصنوا بحبهم غير المحدود هموم البشر ومشاكلهم وآلامهم.
_____
(1) توضيح من الموقع: التألُّه هو مصطلح لاهوتي يعني الاتحاد بالله، التقديس بالله، روح الله يسكن فينا، التبني (نصبح أبناء الله).. كل هذه مفاهيم سليمة. ولا يعني المصطلح بالطبع أن يصبح الإنسان إلهًا مثل الله - حاشا. لذا لا تميل كنيستنا لاستخدام هذا المصطلح كثيرًا لئلا يُساء فهمه.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bimen/body-sex/sex.html
تقصير الرابط:
tak.la/hhmx3vs