للرهبنة أركان أساسية قامت وتقوم أيضًا عليها وهى: الوحدة، البتولية، الطاعة، الفقر الإختيارى.
فالوحدة والإنفراد في البرية يقصد به أن يتفرغ الراهب لعبادته تعالى وتسبيحه والتأمل فيه، وفي عمل يديه، مع عدم الإنشغال بما في العالم من أمور لابد فانية زائلة، ويتحتم على الراهب أن يقضى جل حياته إن لم يكن كلها في عزلته داخل الدير وفي ذلك يقول القديس أنطونيوس أب الرهبان: "كما يموت السمك إذا خرج من الماء، كذلك يموت الراهب إذا أبطأ خارج قلايته!"(1).
ولقد غالى الآباء قديمًا في المحافظة على هذا الركن الأساسى، فدخل بعضهم الدير ولم يغادر حتى إنتقاله، وكثيرون رفضوا حتى مقابلة أقربائهم الجسديين مخافة أن يعود بهم الفكر إلى العالم دفعة ثانية!. فالأب تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس أب الشركة رفض مقابلة والدته(2) وهكذا رفض الأب أرشليدس مقابلة أمه مع إلحاحها الشديد(3)!!
وفي خلاصة قانون الرهبنة الصادر من المجمع المقدس عام 1928م تنص المادة 40 على أن: "يقيم الراهب في ديره ولا يبرحه إلا إذا إنتدبه رئيسه، ولا ينتدب إلا من أمضى ثلاث سنوات في السنوات".
أما البتولية فلكي يشابه رسول الجهاد الذي يقول: "لأنى أريد أن يكون جميع الناس كما أنا، لكن كل واحد له موهبته الخاصة من الله، الواحد هكذا والآخر هكذا" (1كو7:7).
وقد وصفها القديس أثناسيوس الرسولي بقوله: "البتولية هي علاقة الديانة الصحيحة، لأن الديانة الحقيقية هي التي تحبب البتولية إلى الناس خلافًأ لغيرها فإن الهراطقة والكفرة يكرهون البتولية ويقبحونها".
ولما ترك القديس اغريغوريوس نيصص حياته السيئة الأولى (السيرة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت)، كتب عن البتولية فقال: "ماذا ينبغى إذًا أن أضع أمام أعين الجميع عظم استحقاقات حفظ البتولية سوى أن يجعلنى نادبًا بالأكثر شقاوة عيشتى التي إخترتها لذاتى وبها خسرت كنزًا لم أعرف قيمته إلا متأخرًا، وعلى هذه الصورة أكون كرجل فقير مسكين يشاهد إتساع ثروة غيره ولا ينتفع منها إلا زيادة الغم على حال شقاوته ومسكنته وفقره الشديد".
والطاعة من مستلزمات الرهبنة إذ تعتبر بحق المقياس الذي يرينا مقدار تحمل الإنسان وسموه في النعمة وفي الفضيلة، كما أنها الوسيلة التي تحدوا بالكثيرين أن يعيشوا متحابين متآلفين، ولقد تمسك آباء الرهبنة بهذه الفضيلة تمسكًا كبيرًا وقطعوا في مضمارها شأوًا بعيدًا.
ذكر عن القديس يحنس القصير الذي كان من بلدة بتسا في صعيد مصر أنه لما وصل إلى الثامنة عشرة من عمره حركته نعمة الله للرهبنة وإشتاق إلى اللباس الروحانى فذهب إلى برية شيهات وتقابل مع الشيخ المجرب الأنبا بمويه الذي قبله لديه فإبتدأ يتزايد في نسكه وجهاده مقتديًأ بمعلمه.
وفي أحد الأيام وجد الأنبا بمويه عودًا يابسًا فأخذه وأعطاه لتلميذه القديس يحنس القصير طالبًا منه أن يزرعه ويسقيه!. وهذا مع علمه أن الماء يبعد عن المكان الذي يتعبد فيه كثيرًا إلا أنه أطاع وحرص على أن يتعهد بالسقى، وشاءت نعمته تعالى أن يفرخ العود ويصبح شجرة كبيرة وبعد ثلاث سنوات أتى بالثمار، فأخذ منها الشيخ القديس الأنبا بمويه وأعطى لجميع شيوخ البرية قائلًا: "خذوا كلوا من ثمرة الطاعة!"(4).
والفقر الاختياري يعتبر ركنًا أساسيًا لبناء صرح الرهبانية إذ به يترك الراهب جميع مقتنياته وأمواله، لا قسرًا ولا جبرًا بل طوعًا وإختيارًا ويصبح كأخوته الرهبان سواء بسواء، له ما لهم وعليه ما عليهم، وتعتبر هذه الفضيلة مدعاة لعدم رجوع الإنسان بفكره إلى الحياة العالمية، وإتمامًا لقول السيد له المجد: "إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع كل أموالك وتعال إتبعنى حاملًا الصليب" (مت19: 20).
وبالفقر الإختيارى يتدرب المرء على "أن يشبع وأن يجوع" (فى4: 12) ويتعلم أن يكون "مكتفيًا بما هو فيه" (فى4: 11) عالمًا أن "مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ" (مت19: 29).
قال القديس مار أفرآم: "احذروا ألا يعرقلكم العالم ويلعب بكم ويرسلكم عراة أشقياء إلى ذلك الدهر، فإنه قد عرقل كثيرين ولعب بكثيرين. وكثيرون أعمتهم خديعة هذا العالم، ونحن يا أخوتى ينبغى أن نصغى إلى ذاتنا ونسمع الرب قائلًا تعالوا ورائى، فلنترك كل شىء ونتبعه وحده ولنبصقن كل فرح هذا العالم فإنه يسخر بكل من يحبه، فلنسرع نحن أن نتخذ الحياة الأبدية".
تلك هي أركان الرهبنة الأساسية، وإن كانت هناك مستلزمات كثيرة ينبغى على الراهب إتمامها والتمسك بها؛ وقد ذكرت بالتفصيل في تعاليم آباء كتاب "المجموع الصفوى" لابن العسال، وفي الباب التاسع من كتاب "العلم والعمل" إختصار الفاضل يوحنا بن ساويرس الكاتب المصري(5).
_____
(1) مخطوط رقم 294 لاهوت بالمتحف القبطى عن "أخبار الرهبان المصريين" وشرحه للقديس فلكسينيوس البنمى ورقة 180.
(2) ميمر الأنبا باخوميوس مخطوط، الخريدة النفيسة جـ1 ص247.
(3) كتاب السنكسار تحت يوم 4 طوبه.
(4) كتاب السنكسار تحت يوم 20 طوبه.
(5) طبع بمطبعة عين شمس سنة 1913م.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/amir-nasr/monasticism/main.html
تقصير الرابط:
tak.la/3n2r83k