2- أركان الرهبنة الأساسية
"ينبغى قبل كل شىء للذى يتقدم إلى فضيلة الرهبنة أن يكون له فكر ثابت... لئلا يرجع إلى خلف وأن يكمل الطاعة للرؤساء عليه ويفحص عما يجب لخلاصه وينبغى أن يمتحن الإنسان نفسه أولًا ويروضها في سائر أنواع الجهادات النفسانية والبدنية قبلما يدخل في نير الرهبانية." (القديس باسيليوس الكبير).
من الواضح أن السبب الأول في تكوين الحياة الرهبانية هو تقديم العبادة لله خالصة غير مشوبة والهروب من غرور العالم ومتاعب الحياة التي لا يجد المرء فيها سوى شهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهواته معه أيضا! (1يو2: 16- 17).
غير أن البعض يرجعون سبب نشأتها إلى ما حل بالأمة القبطية من صنوف التعذيب والآلام التي أثرت في بعضهم فحملتهم على الفرار إلى الصحارى والبرارى تخلصًا منها، ويبدو للباحث أن هذا الرأى غير صحيح لأسباب كثيرة نذكر طرفًا منها فيما يلى:-
أولًا: يثبت التاريخ أن القديس أنطونيوس مؤسس الرهبنة ولج البرية في أواخر الجيل الثالث للمسيح وبقى حتى منتصف الرابع، وكان معاصرًا لقسطنطين الملك البار (السيرة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت) الذي أطلق حرية العبادة في كل مكان، بل حظى برسالة منه طلب الملك فيها من القديس البركة والدعاء(1)، كما أن الأديرة والرهبنة لم تنمو وتكثر إلا بعد خمود جذوة الاضطهاد.
ثانيا: وثمة نظرة بسيطة لحياة شهدائنا الأبطال كافية لأن ترينا كيف كانوا يتقدمون بسرور نحو الآلام، بل كيف كانوا يذهبون لتقديم أنفسهم للولاة الوثنيين معترفين أمامهم بالسيد المسيح مع علمهم التام بما كان ينتظرهم نتيجة لذلك، وفي وسط آلامهم كانوا يفرحون لأنهم حسبوا مستأهلين أن يعذبوا من أجل اسم المسيح" (أع5: 41)، وأمثال هؤلاء لا يهربون ولا يخشون ضيقًا وإلا لسطر التاريخ لهم هذه النقطة في صفحات جهادهم.
ثالثًا: ولو أن الرهبنة نشأت من جراء الضيق والاضطهاد، لرأينا الأديرة تزيد وتكتظ في عصور الاضطهاد الإسلامية التي بدأت من القرن الثامن ودامت قرونًا عديدة، ولكن ضعف الرهبنة وإضمحلالها في هذه الفترة دليل على بطلان هذا الرأى.
ولكى تلمس ما حدث بالأديرة في عصر الاضطهاد المذكور نكتفى بأن نضع أمامك شهادة المؤرخ الإسلامى الشهير المقريزى عما حدث في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 1321م إذ قال(2): "وضرب من الديارات شىء كثير، وأقام دير البغل(3) ودير شهران مدة ليس فيهما أحد وكانت هذه الخطوب الجليلة في مدة يسيرة قلما يقع مثلها في الأزمان المتطاولة، هلك فيها من الأنفس وتلف فيها من الأموال وخرب من الأماكن ما لا يمكن وصفه لكثرته ولله عاقبة الأمور".
رابعًا: وشهادة أخرى لما نحن بصدده ذكرها هذا المؤرخ "المقريزى" عندما عرض لحياة القديسين الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، قال: "أنطونيوس ويقال أنطونه كان من أهل قمن، فلما إنقضت أيام الملك دقلديانوس وفاتته الشهادة أحب أن يتعوض عنها بعبادة توصل ثوابها أو قريبًا من ذلك فترهب، وكان أول من أحدث الرهبانية للنصارى عوضًا عن الشهادة".
"وأنبا بولا هذا من اسكندرية، فلما مات أبوه ترك له مالًا جمًا فخاصمه أخوه في ذلك وخرج مغاضبًا له فرأى ميتًا يقبر فإعتبر به ومر على وجهه سائحًا حتى نزل على هذه العين فأقام هناك والله تعالى يرزقه"(4).
من كل هذا يتبين أن الرهبنة لم تنشأ وتزدهر إلا في زمان الحرية الدينية بقصد تقديم العبادة الخالصة لله جل وعلا.
_____
(1) انظر الفصل 14 من القسم الثاني [توضيح من الموقع: لا يوجد في الكتاب فصل برقم 14، ربما يقصد الفصل 1 بالقسم الثاني عن الرهبنة القبطية].
(2) الخطط المقريزية المسماة المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار، الجزء الرابع طبع بمطبعة النيل بمصر سنة 1326هـ، ص433.
(3) سمى كذلك لأن المؤونة كانت تُرْسَل إليه على ظهر بغل.
(4) الخطط المقريزية ص502.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/amir-nasr/monasticism/fundamentals.html
تقصير الرابط:
tak.la/ph6nyrs