(7) أمّا بالنسبة للنصوص الأدبية التي تتضمن مواعظ عن الأمور الفائقة، فدعنا نقبل هذا المبدأ. وطالما أن الأعمال الفاضلة التي للأقدمين قد حُفظت لنا سواء بالتقليد الشفاهي المتواتر أو من خلال حفظها في كلام الشعراء أو كُتاب النثر، فلا يجب أن نغفل أن نستقي نفعًا من هذا المصدر أيضًا. على سبيل المثال أحد الرفاق، وكان متسكعًا في الأسواق، ظل يشتم بيركليس، لكنه لم يُعره انتباهًا. وظل كاتمًا للأمر طيلة اليوم، برغم أنه كان يوجه لبيركليس إيذاءً بلا هوادة، لكنه لم يلتفت لذلك. ثم حين جاء المساء وحل الظلام، برغم أن الرجل كان بالكاد يكف عن فعله، رافقه بيركليس إلى البيت بمصباح، وذلك لئلا يؤول تدرُّبه على الفلسفة إلى لاشيء.
مرة أخرى رجل ما إذ انتابه السخط على إقليدس الميجاري،[24] وتوعده بالموت، وأقسم على ذلك. لكن إقليدس أقسم قسمًا مضادًا مفاده أنه حتمًا سيهدئ الرجل وسيجعله يتخلى عن سخطه ضده. كم هو مفيد جدًا أن يُستدعى إلى الذاكرة نموذجًا من هذه النوعية بواسطة رجل كان على وشك أن تستولي عليه نوبة انفعالية! لأنه لا بُد ألا يضع المرء ثقة البسطاء في التراجيديا حين تقول: ”ضد الأعداء يكون الغضب سلاحًا في اليد“، بل على العكس ينبغي ألا نسمح أبدًا لأنفسنا بأن نُستفز إلى الغضب. لكن إذا كان هذا صعب التحقق، ينبغي على الأقل أن نجعل المنطق في غضبنا بمثابة قيدٍ، ولا نسمح له بأن يتجاوز الحدود بعيدًا.
لكن نرجع إلى نقاشنا مرة أخرى إلى نماذج الأعمال الفاضلة. كان هناك رجل ظل يضرب سقراط ابن صفرونيسكس[25] في وجهه راقدًا فوقه بلا هوادة. لكن سقراط لم يقاوم، بل سمح لهذا الأخ المجنون بالخمر أن يُرضي سخطه حتى أن وجهه صار منتفخًا ومرضوضًا بسبب اللكمات. ثم بعد أن توقف الرجل عن ضربه، قيل إن سقراط لم يفعل شيئًا سوى أنه كتب على جبهته، مِثل إمضاء النحات على أحد التماثيل، ”فلان الفلاني فعل هذا“، وإلى هذا الحد فقط ثأر لنفسه.
لأن هذه النماذج تميل تقريبًا إلى نفس الغاية من الوصايا التي لنا، فأنا أرى أن لها فائدة عظيمة لمن هم في أعماركم ليتمثلوا بها. لأن هذا النموذج الخاص بسقراط شبيه بوصيتنا عن أن مَن يضربنا على الخد، فحاشا لنا أن ننتقم لأنفسنا بل يجب أن نحوِّل له الخد الآخر. والنموذج الخاص ببيركليس أو إقليدس هو شبيه بالوصية التي تقول إننا ينبغي أن نخضع لمن يضطهدوننا ونتحمل غضبهم بوداعة. والوصية الأخرى عن أننا ينبغي أن نصلي طلبًا للبركات لأعدائنا بدلاً من لعنهم.[26] لأن كل مَن تثقف بهذه النماذج مِن قبل لا يمكنه أن يرتاب بعد ذلك في هذه الوصايا باعتبارها من المستحيل إطاعتها.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لا يسعني أن أغفل نموذج الإسكندر وهو الذي حين أسر بنات داريوس، وبرغم أنه شُهد بأنهن يمتلكن جمالاً خلابًا، فإنه اعتقد أنه من غير اللائق حتى أن ينظر إليهن، معتبرًا أنه من العار على مَن سبى الرجال أن يُقهر بالنساء. هذا النموذج يميل بالفعل إلى نفس المضمون الذي للوصية المشهورة عندنا، بأن مَن نظر إلى امرأة ليتمتع بها، فبرغم أنه لم يرتكب الزنا فعليًا، إلا أنه بالحقيقة لأجل أنه قَبِل الشهوة في نفسه، فهو ليس بريئًا من الذنب.[27]
لكن بالنسبة لتصرف كلينياس، أحد تلامذة فيثاغورس، من الصعب أن تصدق أنه بالصدفة البحتة يتطابق مع مبادئنا وليس بسبب تقليدها عمدًا. فماذا فعل كلينياس إذن؟ برغم أنه كان من الممكن أن يفلت من غرامة تقدر بثلاث وزنات إذا أقسم، لكنه دفع بدلاً من أن يقسم، وهذا أيضًا مع أنه كان سيقسم قسمًا صحيحًا. يبدو لي أنه لا بُد وأن سمع وصيتنا التي تمنع القسم.[28]
_____
[24] إقليدس الميجاري Eucleides of Megara ولد 440 ق. م.، وهو غير إقليدس الرياضي الشهير، وهو من تلاميذ سقراط، وهو مؤسس المذهب الميغاري في الفلسفة. (المترجم)
[25] هو سقراط الفيلسوف اليوناني الشهير، والذي عاش بين (470- 399 ق. م.)، وهو أحد مؤسسي الفلسفة اليونانية، ولم يترك أي كتابات لكن سجل أفكاره تلميذه الفيلسوف أفلاطون العظيم في محاوراته. حُكم عليه بالموت بتناول السم بتهمة أن أفكاره تضل الشباب. صار جدل بعد ذلك حول التشابهات بين سقراط والمسيح. للمزيد قارن مقالة لي بعنوان ”موت سقراط وموت المسيح“ على الرابط التالي: (https://christopraxy.blogspot.com/2017/08/blog-post_26.html).
[26] قارن (مت 5: 40- 44).
[27] قارن (مت 5: 28).
[28] قارن (مت 5: 34- 37). يقول ديوجينيس اللائرتي إن فيثاغورس كان يوصي تلاميذه بألا يقسموا بالأرباب أو يُشهدوهم أي يتخذوهم شهودًا (راجع حياة مشاهير الفلاسفة، المجلد 3، ترجمة إمام عبد الفتاح، المركز القومي للترجمة، ص 27). (المترجم)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/basil-greek-literature/biblical.html
تقصير الرابط:
tak.la/dchy978