لقد امتدح القديس بولس تلميذه تيموثاوس إذ كان يسير على خُطاه؛ « وأمَّا أنت فقد تبعتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبَّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي.. » (2تي3: 10). لم يكن تعليم تيموثاوس بمثابة تطبيق نظري لكلمات ومنطوقات إيمانيّة تعلّمها من القديس بولس، ولكنّه استقَى منه الحياة المسيحيّة بمختلف جوانبها. لذا يكتب وستُن H. G. Weston في كتابه “متّى، تكوين العهد الجديد”Matthew, the Genesis of the New Testament فيقول: “إنّ المسيحي يتشكّل على ثلاث: ماهيّته ومعتقده وفعله، أي على العقيدة والخبرة والممارسة. ولكي ينمو المسيحي هو في حاجة إلى ثلاثة عوامل أُخرى: الحياة والتعلُّم والإرشاد”.
قياسًا على تلك الكلمات، نجد أنّ الآباء هم مصدر رئيسي لمنطوقات العقيدة المستقيمة التي تُشكِّل المسيحي، فضلاً عن كونهم نموذجًا يُحتذَى به نستقي منه الخبرة في أنقَى صورها. لذا كتب القديس غريغوريوس النزينزي في مدحه للقديس أثناسيوس، قائلاً:
حين أمدح أثناسيوس،
أمدح الفضيلة عينها
إنّنا في تناولنا لسِّيَر الآباء لا نروم سوى رؤية الفضيلة مُشخصنَة في عالم البشر، نتلمّس إنجيلاً حيًّا يُلقي بشباك ضيائه، ليصطاد نفوسًا لملكوت الله. لا نبغي الخوض في حديث عقائدي مُفصَّل ليس هنا مقامه، ولكننا نستجمع ومضات حيّة من أقوال الآباء لنضعها بجوار بعضها البعض، لنرى الكنيسة وكيف ينبغي أن تكون؟ ونستشرف دورنا ورسالتنا في الكنيسة بل وفي الحياة، كسفراء عن الله وسط عالمٍ مُتغرِّب عن الأبديّة.
مَنْ يكتشف دوره ورسالته يجب أن يتحرَّك نحو الإعلان.. نحو المجاهرة.. إذ لا يكفي أن نعرف بل علينا أن نُمدِّد رقعة المعرفة الإلهيّة بسعينا الحثيث لخدمة ملكوت الله. لذا كتب بونيفاس رمزي Boniface Ramsey: “لقد أدرك الآباء جيِّدًا أنّه لا يكفي الكلام عن الحقّ؛ فالحقّ يجب أن يكون مشروحًا ومكتوبًا بطريقة بلاغيّة فصيحة، وفي نفس الوقت مقنعة للجميع”. كان هذا الأمر هو همُّهم الأوَّل وشغلُهم الشاغل؛ كيفيّة تقديم الإيمان؟
كان بوسيُه Boisseut يتساءل: “ماذا كان آباء الكنيسة يفعلون في هذا الموقف؟؟” ويضيف: “عِلمًا بأنّ كُتُبهم كانت تملأ غرفتي وكان اسمهم يصادف نظراتي في كلّ لحظة.” فمن الآباء نستلهم مسيرتنا وحركتنا -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ومن نهايتهم المجيدة نتثبّت بالصبر الذي يؤول إلى مجدٍ في نهاية الأمر.
في قراءتنا للآباء نرى تجسيدًا لمطلب المسيح من تلاميذه بالتشبُّه بوداعة الحمام واستلهام حكمة الحيّات للنجاة من فخاخ العالم المنصوبة لأبناء الله. فلم نَرَ الآباء غارقين في الوداعة، حالمين، على حساب المجاهرة الحاسمة بالإيمان والحقّ، كما لم نَرَهم مجاهرين بالحقّ الأجوف الذي لا يستند على قاعدة الحبّ الإلهي والذي لا يستهدف خلاص الإنسان قبل كلّ شيء. لذا يتوجّب علينا استجماع أنفاس الآباء المُنبعثة من بين سطور كتاباتهم، والتي مازالت تُعطِّر الكنيسة، لنسلك على آثارهم، بعيدًا عن وادي الموت والفناء، نحو مدينة الله.
إنّ العودة إلى فكر الآباء واستقراء حياتهم على ضوء العصر الحالي، ليس نوعًا من الحنين للماضي nostalgia، فالأمس حلمٌ لا يعود ولعلّ هذا هو سِرُّ جاذبيته وألقه، ولكنّنا نترجَّى الاندفاع بقوّة الماضي والحاضر إلى المستقبل. فبقدر قوّة وعمق جذور الماضي الحيّ والفاعل في واقع الكنيسة المعاصر، وبقدر انفتاحها على المعاصرة دون الانحياز للماضي أو التبعثُر في الواقع، بقدر ما تتحرّك نحو المستقبل بقوة وثبات وفاعليّة أكبر.
لذا يجب أن نعي أنّ التعرُّف إلى الآباء لا نعني به استحضار بعض المعلومات الذهنيّة عن هذا أو ذاك، ولكن معايشة التفاصيل الحياتيّة لكلٍّ منهم والتأمُّل في ردود أفعالهم ومناهج حياتهم وقراءة ما بين السطور من عمل روح الله في الكنيسة من خلالهم. إنّها بمثابة دعوة لندعْ الآباء يصيرون لنا مصدر إلهام حياتي وعقائدي وسلوكي؛ فهُم مرآة عكست مجد وبهاء المسيح؛ فالله دائمًا مُسبَّح في قديسيه.
إنّ غير الكاملين والمبتدئين في تعاليم الخلاص،
فليتثقّفوا ممّن سبقوهم في طريق الكمال،
الذين يلدونهم كأمهات،
إلى أن يُبصِروا النور ويولدوا ولادة جديدة،
فيرتفعوا إلى سِعة الفضيلة وتألُّقها.
ميتوديوس الأولمبي
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/soul.html
تقصير الرابط:
tak.la/j4p89vg