نقرأ المشهد الحالي في مصر ولا نملك إلاّ تأوهّات الألم، الذي يمتزج بالحيرة عند البعض، على تفسُّخِ مجتمعٍ وقفت أمامه الحضارة في اندهاشٍ وإعجابٍ لعدّة أجيال. كانت مصر هي مخزن الحضارة الذي يعبر عليه كلّ من أراد أن يصنع حضارته. ولكنّها الآن أضحت أطلال وأكوام من التاريخ الباهت على وريقات حاضرِه المتهرّئة، والتي تلوّنت بلون الرماد وكّأنها تشارك الهواء الملوّث حصاره لمصر الآن.
وإن أردنا أن نعرف الحقيقة خلف ما يجري لا يجب علينا أن ندور في دائرة ما اعتدناه من مفاهيم لا تُعبِّر عن / ولا تُوصِّف الحقيقة كما هي واقعة الآن! فالواقع يخفي من الوقائع ما لا نرصده، ولكن يمكن قراءته بعدسات العقل الهادئ المكبّرة وفي مكان يخلو من صخب الشارع والأحداث.
أوّل محاولات الفهم هي الخروج خارج المشهد لرؤيته من علوٍ، كليًّا، حتى يمكن ربط الأحداث الفرادى معًا لنحصل على صورة أكثر تعبيرًا عن الواقع لا تنبأنا بغيبٍ آت، ولكن تنبّهنا إلى ما يمكن أن ينتج ممّا هو حال.
ولعلّ القراءة الهادئّة ليست الآن رفاهيّة ولكنّها ضرورة لوعي ما الذي يحدث حقيقة، إذ لا يمكن لإنسانٍ في خضمّ مشاعر مختلطة من الألم والأسى والجرح العميق والغضب العاصف أن يصل لتحليل واقعي حقيقي لما يحدث.
يجب علينا أن ندرك أولاً وقبل كلّ شيء، أنّ تلك الحالة التي تشبه البحر المتلاطم مقصودة، إن لم تكن مدبّرة بشكل مباشر من خلال تحريضٍ، أو غير مباشر من خلال غضّ الطرف عمّا يجري، أو استثمار مستصغر الشرر في صناعة الحرائق الكبرى، وذلك من أجل تمرير الكثير والكثير من الأشياء، في ظلّ أزمات ذات صدىً عالٍ في المجتمع تهدّد هناء الحكم واستواءه على عرشه!
ولعلّ لمحة خاطفة سريعة لكلّ المواقف المأساويّة التي مرّت بها الكنيسة عبر العقود الماضيّة نجدها متشابهة.. قتل مفتعل على أسباب تافهة.. ردّ فعل من الجانب الآخر.. كلمات من الغضب والسباب المتبادل.. مشاعر ثائرة على الجانب المجني عليه.. هتافات ثوريّة.. تصادم مع الآخر.. إلخ.. والنتيجة النهائيّة من كلّ هذا، قتلى وجرحي ثم لا شيء على الإطلاق. لذا فإن تكرار ردود الأفعال كلّ مرّة إنّما يُعبّر عن غياب تام للوعي والعقل الذي يجب أن نخرجه من بين بحر المشاعر المتلاطم والملتهب.
وبمشاهده سريعة لأيّة جنازة لقتلى عدوانٍ غادرٍ في أيّة دولّة عربيّة، ولأي فريقٍ من اليمين أو اليسار، سيجد الأمور متشابهة من حيث الانفعال الذي يُنفّس عن ثورة من الغضب لا أكثر ولكنّه لم ولن يصل إلى حلّ واقعي لما يحدث، بل على العكس!
لذا فإنّ أوّل انتصار حقيقي يكون بألاّ نصل بمفجّري الأزمة إلى مبتغاهم من تحريك الجموع وفق إرادتهم، وفي اللّحظات التي يريدونها، بل على العكس يجب من خلال القراءة الهادئة ألاّ نصل إلى حالة الثورة العشوائيّة لكي لا يصلوا هم إلى ما يريدونه. يجب أن نهدأ إن أرادونا ثائرين، ونهبّ بنداء الحقّ إن أرادونا صامتين.
هذا الأمر لا يجب النظر إليه وكأنّه تنصّل من الواجب أو عدم مراعاة الحقوق، بل على العكس هو وعي أعمق بالوسائل الصحيحة، وإن كانت طويلة المدى، للحصول على الحقوق. فثورة المشاعر الجيّاشة، والغضب الناتج من الكبت المتراكم يجعل من الجموع في الشرق الأوسط سهلة التحريك غير المباشر وبخيوط خفيّة يصعب الوصول إليها تحديدًا.
لا نجد هذا الأمر في الدول المتحضّرة، فلم نرصد في أحداث سبتمبر 2011، على سبيل المثال، ثورات تندّد برحيل نظم وصرخات ثوريّة واندفاع في الشوارع وتصادم مع الآخر.. إلخ، لم نجد شيئًا من هذا، وذلك ببساطة لأنّ الانفعال لا يصل إلى المنشود.
إنّ التفكير والعقل الهادئ الذي يدرس الأمور على كافّة الأصعدة هو الذي يستطيع أن يصل إلى الحلّ الجذري للإشكاليات المتلاحقة.
وهنا يلوح السؤال في الآفاق: هل نحن بصدد فتنة طائفيّة؟؟ وهو ما يجري على الألسنة جريًّا على العادة. وفي إجابة سريعة تزحف على السطح يردد الكثيرون نعم! إلاّ أنّ الأمر أصبح أكبر من فتنة طائفيّة لأنّه لم يعد يعبّر عن خيط شارد في رداء المجتمع، ولا عن موقف عابر في أحداث المجتمع، ولا عن أزمة فائرة في محيط المجتمع. لقد أصبح الإنسان المصري، في الكثير من الأماكن، أشبه بكتلةٍ من الرماد يحمل في طيّاته جمرًا مشتعلاً يفور ويفور.. يريد أن ينطلق وينفجر كما تنفجر قشور الأرض من تدافع نيران البراكين الثائرة الهادرة من تحتها!
إن كانت كلّ مقومات الكراهيّة في القلب، وكلّ تعليمٍ مسمومٍ قد سرى في الذهن، وفي اليد أطلّت كلّ أدوات البغي والعنف، ومن العقل غاب كلّ منطقٍ، ومن السلوك تبخّر كلّ تديّن سليم لتفوح منه كلّ ما هو سقيم. فكيف لا ينتج هذا الإنسان المُلغَّم بالموت، افتتانًا بصناعة الموت؟!
لقد انتقلنا منذ زمنٍ من الفتنة الطائفيّة العابرة إلى الافتتان الطائفي الدائم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وفي الافتتان تفنّن في الإيلام! وتأتي ألويّة التبرير للقتل والسحق لتُحيِّد الضمير في تلك المعركة الضروس، من أجل أن يصير الإنسان أقرب للآلة المؤدلجة منه للإنسان المتعقّل الواعي.
لقد تمّت صناعة هذا الكائن الجديد بحرفيّة شديدة، وقد مرّ بطفولة العنف العابثة اللاهيّة ومراهقة العنف الذاتيّة الانفعاليّة وفتوّة العنف القاسيّة المحتدمة ومنهم الآن من يحيا فترة رجولة العنف الخبيثة الخبيئة عن الأنظار.. إلخ، والنتاج هو ما أطلّت به علينا أجيالٌ أشبه بماردٍ، تعتنق عقيدة السيف والرصاصة والقنبلة، وهي في انتظار، بل ترقُّب للحظتها المقدّسة والتي تقذف فيها حممها البركانيّة لتقضي على الأخضر واليابس!
نكمل تلك القراءة في مقالٍ قادمٍ..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/sedition-1.html
تقصير الرابط:
tak.la/5twk96v