أنت تعلم أنّ كلّ المسيحّية معنيّة بما في داخل الإنسان، بقلبه، بكينونته الصغيرة، بقدس الأقداس الإنساني الذي يستلذ الإله أن ينزل في شاكيناه المجد ليحلّ فيه ويصنع مائدة.
إلاّ أنّك تغفل في الكثير من الأحيان أنّ انعكاس النور على الخارج هو من ملامح وجوده في الداخل، فالنور غير المشعّ هو ضياء مائت، بل ذكرى ضياء أقرب إلى الظلمة منه إلى النور.
من هنا تأتي العلاقات الإنسانيّة كتعبير عمّا يجول في تلك الغرفة السريّة العميقة التي يضع فيها الإنسان جلّ ما يملك، أعني قلبك. إنّها أشبه بالصندوق الأسود الذي يحمل سرّ الإنسان ولا يضطلع عليها إلاّ هذا الإنسان.
لهذا لم يقارب المسيح عبثًا بين محبّة الله ومحبّة القريب، حينما قال: “تحب الرب إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك” (مت 22: 37 - 39). الثانية مثلها، بل وتعبير عنها وتأكيدًا لها..
ولكن، العلاقات الإنسانيّة تؤثِّر في نمو الإنسان أيضًا، فقد كتب أحدهم أنّ كلّ نمو وانفتاح واتساع إنساني، وفي المقابل، كلّ انكماش وانحسار وتقوقع إنساني، هو نتيجة من أحبّونا ومن رفضوا أن يقدّموا لنا الحبّ، وأيضًا هو نتيجة من أحببناهم ومن رفضنا أن نقدِّم لهم الحبّ.
كلّ قرار حبّ إنساني هو قرار نمو لي وللآخر، هو قرار بناء، بل ويمكن أن نقول أنّه قرار حياة.
لن تستطيع أنّ تغزو عالم الحبّ المؤثِّر في قامة النمو الخاصّة بك إن لم تفتح عالمك على مصراعيه، تُدخل فيه أشعّة الشمس المطهرِّة.. تشرك الآخر في جزء من ذاتك وتشترك معه في جزء من ذاته.. تعبّر له عن مكنونات قلبك ومشاعرك وأفكارك المتلاطمة.. هذا ما يسمّى باللّقاء بالآخر، وبحسب تعبير جابريل مارسيل، تنصهر في كيان الآخر.. هذا الانفتاح من شأنه بناءك ولكنّها أيضًا مخاطرة تتطلّب شجاعة من نوعٍ خاص..
أن تشرك الآخر في ذاتك يجعلك عرضة للإيذاء النفسي إن لم تكن على درجة من التماسك الوجداني الداخلي. فقد لا يحترم الآخر سرّك ويبوح به، قد لا يُقدِّر قيمة مقدساتك ويطرحها على الأرض، قد لا يدرك إنسانيّتك ومعطوبيّتك فيرمقك بعينٍ تحمل لهب الإدانة وسياطها.. وقتها سوف تغلق مزلاج قلبك من جديد ولكن بأقفالٍ كما من صوان وتحيا عالمك وألمك وحيدًا ويخفت من عالمك دبيب الحياة وثراء التواصل وبهجة اللّقاء..
لذا من الضروري أن تختر جيِّدًا من تطلعه على سرّك الداخلي، فقط لا تغلق عل سرّك وحدك، لئلا يتقيّح ويدمي وينزف وتتسرّب الدماء ومعها الحياة من عالمك الداخلي..
ما بين فكي الرحى تحيا؛ شعورك بأنه يجب عليك الانفتاح على الآخر لتنسُّم هواء الحياة السويّة البهجة، وبين خوفك من الإيذاء النفسي الذي قد تتعرّض له.. هنا تأتي شجاعة المواجهة وتحمّل النتائج؛ فالنمو الإنساني ضرورة قد تحتمل بعض الخسائر والآلام من أجل البلوغ إلى أعتابها..
لذا من المهم أن تدرك مستويات الاتّصال الخمس، لتتحرّك ولو خطوة نحو التقاء الآخر، وهي:
إنها العلاقة السطحية التي لا تعبأ بالآخر بأي حال من الأحوال ولكنّها تتواصل معه لتكميل شكل اجتماعي وتأديّة مظهر أخلاقي فقط. كأن تنحصر علاقتك بالبعض في: صباح الخير، عامل إيه؟؟، إيه أخبار الشغل؟؟ نجحت ولا لأ؟؟ أشوفك قريب.. إلخ. مثل هذا التواصل يقدّم تساؤلات ولا يعبأ بالإجابة لأنه فقط مجبر على التواصل لعدّة دقائق مع هذا الشخص، هذا التواصل لا يحقّق اللّقاء ولا النمو لكلا الطرفين.
في تلك العلاقة تبدأ في حركة حذرة نحو الآخر ولكنّها لا تعبر عنك. تبدأ في سرد الأخبار ونقل أفكار الغير وتقتبس عن هذا وذاك، دون أن تعبّر عن ذاتك الحقيقيّة ومشاعرك. أنت هنا أشبه بمعبر تعبر عليه الأفكار والأحداث إلى الآخر دون أن تلتقي الآخر.
هنا تبدأ في التعبير الحذر عن أفكارك ومشاعرك ولكنك تترقّب ردّ الفعل المقابل -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- فإن كان يحمل نغمة الرفض أو السخرية أو التحقير أو إشعارك بالدونية، تتراجع على الفور إلى مرحلة السرد والنقل. هذا النوع من العلاقة حاضر بشدّة بين الأبناء مع آبائهم، إذ يستطلعون ردود أفعال الآباء في موقف صغير فإن كان ردّ الفعل نغمته عالية يغلق الفتى / الفتاة على أسراره ولا يعود يبيح بها للأهل مجدّدًا. وكذلك يوجد هذا النوع من العلاقة بين المعترف والأب المعرِّف إذ يبوح المعترف بإحدى الخطايا الاستكشافيّة فإن وجد ردّة الفعل عنيفة يتراجع ويختم على أخطائه بشمعٍ ولا يعود ليعترف مجدّدًا. وفي الخدمة نجد أيضًا هذا النوع بوفرة، فالمخدوم يستطلع ردود أفعال خادمه صوب قضيّة ما، إن كان متشدِّدًا يلبس أمامه ثياب التقوى بينما في الأروقة المظلمة يفعل ما يحلو له.
أنت هنا تخطو خطوة هائلة خارج ذاتك، تعرّيها أمام آخر، تهدم حصون الخوف والشعور بالدونيّة والقلق من عدم القبول. أنت هنا تبدأ في التعبير عن مشاعرك وأفكارك، تلك التي تعبر عنك، غاضًا النظر عن ردّ الفعل المقابل. هذا أنت وإن لم يرق للآخر. تلك بداية خطوات التحرُّر الإنسان من الداخل تجاه مجتمع يريد أن يستنسخ أنماطًا بعينها. هنا يبدأ اللّقاء الحقيقي مع الآخر ويبدأ اتّساع عالم الإنسان ورؤيته للغير. هنا تبدأ الشخصيّة تنضج وتقوى حينما تقبل حالها كما هي بل وتجاهر بها أمام الآخرين دونما قلق. لا تعتقد أن هذا بمثابة تبجّح في التعبير عن الأخطاء، بل على العكس هي إقرار بطبعٍ على طريق التغيُّر، فما لا ندركه عن ذواتنا لا يمكن إصلاحه.
بقدر أهميّة هذا النوع من الانفتاح، إلاّ أنه لا يجب أن يُمارَس إلاّ بين الزوج وزوجته، الأبناء / البنات مع آبائهم، المعترف مع أبيه الروحي / مرشده الروحي، المخدوم مع خادمه الأمين، الصديق مع صديقه الأقرب. يجب أن يمارس هذا الانفتاح الكامل لأنّ من خلاله يحدث تفريغ لمصدر قلق وحيرة وألم الإنسان الداخلي.
بيد أنّ هناك خمسة نصائح عليك مراعاتها أثناء الانفتاح بدرجاته على الآخر:
1- عدم الحكم على أخطاء الغير: فلا تلبس ثوب القاضي أو المرشد أثناء بوح الآخر لك بمكنونات القلب.
2- عدم الإشارة ولو عرضًا لأخطائه
3- عدم استغلال جروحه
4- عدم تقييد تعبيره عن مشاعره مهما كانت وبأي لُّغة كانت
وأخيرًا حينما يطرح كلّ ما في قلبه أمامك تذكّر أنك إنسان وأن لك غرفة سريّة مليئة بقبائح الفكر والفعل. تذكّر أنّك إنسان ولا تحاول أن تقوم بدور المرشد، فالمهم أن يلقي الآخر بثقله بعيدًا، من المهم أن يتحرّر من مخاوف نظرة الآخر إليه، من المهم أن يشعر أنه محبوب وإن كان أسود من الداخل، من المهم أن يرى في عينيك أنك تحبه “بالرغم من”، وليس “بسبب”. وقتها نتشبّه بالربّ الذي أحبّنا ونحن خطاة ومات لأجلنا.. مات لأجل خطاة وقساة.. نعم فهذا هو الحبّ المجّاني.. الحبّ الشافي والمحرّر..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/other.html
تقصير الرابط:
tak.la/653jpjq