في معموديّتنا نعلن أنّنا مائتون عن العالم وأحياء بالمسيح. فالشهادة إحياء لوعينا الخامل بتعهُّدنا في جرن المعموديّة. لقد تركنا إنساننا العتيق غريقًا في جرن المياه وخرجنا بالجسد الجديد الفاخر الذي يتجمَّل بالروح ليشابه صورة الابن. من تعمّد فهو ميّت عن العالم، والمائت لا يخشى موتًا.
لقد كان المسيحيّون في بيرو Peru عرضة للهجمات في ظلّ الحرب الأهليّة بين الحكومة والعصابات المتمرّدة. وكما يقول أحدهم: “لكي تكون مسيحيًّا هنا يجب أن تدرك أنّك ميّت بالفعل في المسيح. ما أن تدرك هذا، حتّى يكون كلّ يومٍ يمرّ عليك مكسبًا. إن بقيت حيًّا هنا لمدة سنة، يكون الله أهداك سنة كاملة لتشهد، ليس فقط بالكلام، بل بالأعمال أيضًا”.
لقد قبلنا المسيح في مياه المعموديّة وخرجنا فيه إلى الحياة الجديدة، لذا يكتب القديس بولس بغيرة على التقوى، فيقول: «فَكَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ اسْلُكُوا فِيهِ» (كو1: 6). سلوكنا الجديد يشهد لكيفيّة قبولنا للمُخلِّص. إن قابلناه في المياه ونحن مائتون وأخذ بيدنا ليقيمنا ويجدّدنا بنصرة القيامة، كان سلوكنا لا يخشى موتًا ويترجّى اكتمال الحياة الأبديّة في قلوبنا.
لذا فإنّ ميلادنا الجديد هو ميلاد من رحم الرجاء السماوي. نحن مولودين ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات. في المسيحيّة، الرجاء حيّ وهو يحيي فينا قوة القيامة. إنْ متنا معه، سنقوم فيه، هذه هي دعوتنا العليا التي لا يستطيع عالم اللّحم والدم أن يستوعبها. ميراثنا في آفاق الأبد.. ميراث ملؤه البهجة.. لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحل. ميراثنا المُخلِّص. هو يقف مترقبًا نتائج امتحان الإيمان ومحنته في تجارب العالم، ليُكلّلنا بالمجد.
لقد صرخت الشهيدة أجاثونيكا (من برجاموم بآسيا الصغرى. 165م)، أثناء استشهاد كاربوس، حينما عاينت مجد الربّ وأدركت نداء السماء، قائلة: “تلك الوليمة أُعدّت من أجلي. عليَّ أن اشترك بها. يجب أن أقبل وليمة المجد”. وانطلقت لتُسمَّر على خشبة وتُحرق بالنار وهي تتهلّل. بل لقد تركت طفلها موقنة أن الله سيعتني به، وذهبت لتشرب كأس الخلاص في ملكوت الله.
قد يرى الأعداء أنّهم يؤذوننا ولكنّهم لا يعلمون أنّهم يزكّون فينا غيرة الإيمان لكيما يخرج من بوتقة النار، مُطهَّر.. مشرق.. لامع.. يصلح لملكوت الطهر السماوي.
إن ألقوا بحجارة ليرجموننا ستصير نصبًا يشهد لقوّة الإيمان وثباته، يُثبِّت الأجيال القادمة في محبّة المسيح.
إن أعرضوا بوجوههم عنّا وتجاهلونا وهمّشونا في الحياة، سنرى وجه يسوع مشرقًا يؤكِّد لنا ميراث الغلبة ومجد الملكوت في معيّته.
إن سلبوا ما لنا وصادروا ممتلكاتنا، سيرتفع رصيدنا السمائي وستعلو مكانتنا بالقرب من العرش.
إن أشهروا السيوف وسلّطوها على رقابنا سنقدِّم رقابنا ذبيحة حبٍّ من أجل العالم لنربح على كلّ حال قومًا؛ في حياتنا وفي موتنا.
إن دمّروا كنائسنا سيُصيِّر الروح، قلوبنا، هياكل، تصدح فيها تسابيح الغلبة والخلاص.
حينما هدّد أحد الجنود مسيحيي بيرو أنّهم سيهدمون الكنائس ولن يبقوا فيها حجرًا على حجرٍ، ابتسموا، وقال أحدهم: “المسيح في قلبي لا يمكن لكم أن تنتزعوه”.
لا شيء يؤذي المسيحي.. لا شيء.. فحياته المسيح وألمه المجد وموته الملكوت..
مَنْ يقدر أن يؤذينا؟؟!! صرخة أطلقها القديس يوحنّا الذهبي الفمّ -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولا زال صداها يزلزل عروش الظلمة التي تبعث برسائل الإرهاب لجمع الحمل.
كتب القديس غريغوريوس اللاّهوتي، في خطابه الأوّل ضدّ يوليانوس: “لأنّنا كلّما تضايقنا، صرنا أشدّ تمسُّكًا بحبّ الغلبة، وسنقف صفًّا مرصوصًا ضدّ الطغيان مأخوذين بحرارة الإيمان.. مثلنا مثل الشعلة، كلّما هبّت عليها الريح، كلّما ازدادت اشتعالاً.. [إنّ] الاضطهادات السالفة جعلت المسيحيّة، بسرعةٍ شديدةٍ، قوّة يُحسب حسابها، بدلاً من أن تضعفها، إذ قويت النفوس بالإيمان، وصارت أكثر صلابة من الحديد المُحمّى بالنار والمسقي بالماء”.
وكذلك بنفس الروح قال أحدهم: “نحن المسيحيّون مثل المسامير، كلّما قرعتنا بشدّة ازددنا عمقًا في الربّ. نحن المسيحيّون مثل الأزهار كلّما سحقتنا بشدّة اشتدّت وفاحت رائحتنا. نحن المسيحيّون مثل كرات المطّاط كلّما قسوت في قذفنا إلى أسفل كان ارتدادنا إلى أعلى أكثر علوًّا”.
إن الكنيسة لا تعاني خوف الموت بل تتجاسر على الموت لتقول له بصوت المسيح:
أين شوكتك يا موت؟؟ هيا اغرسها في الجسد ولكنّها لن تصل لعمق الروح.
أين شوكتك يا موت؟؟ التي تُعلِّق عليها راية الإرهاب السوداء المزيّنة بجماجم أسرى الدهور، فرايتك تمزّقت وارتفعت مكانها راية الخلاص على ركام الزمن.
أين شوكتك يا موت؟؟ تلك التي تقتل بها الرجّاء في قلوب البشر، فضوء القيامة أشرق ومعه رجاء حي لا يموت في قلوب شعب الله.
أين شوكتك يا موت؟؟ تلك التي أخذتها من جسد اللعنة الأولى، فبرّ المسيح أمات اللّعنة على الصليب، مُطْلِقًا أنهار نعمته على أحبّائه في قفار العالم.
أين شوكتك يا موت؟؟ التي تجرح بها إنسان العالم الملوّث بالخطيئة والشهوة، فيد المسيح الممدودة على الصليب تحتضن خطاة العالم وترسلهم أصحّاء بطُهر الغفران.
فيا لمجد الكنيسة التي يمتحن إيمانها فتوجد صامدة على صخرة هي المسيح..
يا لفرحها حينما يبوَّق في الأرض وتجتمع أرواح القدّيسين، وهي مشرقة بإشراقة المُخلِّص فيها..
يا لفخرها حينما تترائَى أمام الجمع السمائي مُكلّلة بالدماء، والجمع يسأل: «مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟» (نش3: 6).
إنّ كنيسة الله الحيّة تُقدِّم أعضاءها طواعية على مذبح الخضوع لملك الملوك، ليشفعوا فيها، ويتضرّعون من أجلها، ويهبّون لحشد ملائكة الله لنجدتها. وعوض أعضاءها المبتورة يُنْبِت لها الروح أعضاءً جُدد.. فتبقَى خضراء.. غضّة.. حتّى موعد لقاء المُخلِّص..
إنّ الكنيسة بسبب محبّتها لله
ترسل نحو الآب في كلّ مكانٍ وزمانٍ
جماهير من الشهداء..
الكنيسة وحدها تحتمل بنقاوة عار المطرودين من أجل البرّ،
والمعذّبين بكلّ نوعٍ حتّى الموت،
من أجل محبّتهم لله واعترافهم بابنه.
وإن كانت في كلّ حينٍ تُعرَّض للبتر والتشويه،
إلاّ أنّها سرعان ما تنمّي أعضاءها من جديد
وتستعيد كمالها.
لقد كانت بصيرة الرسل منفتحة على الملكوت حينما رجعوا مجلودين مثخنين بالجراح، إذ رأوا أنّ الألم من أجل الربّ هبة لا يستحقونها. انطلقوا فرحين. فرحٌ يُحلِّق فوق أنين الجسد وجراحه. فرحٌ لا يستطيع خوفٌ أن يُرسِّم له حدودًا أو يضع له سدودًا. أفراح المسيحي ترفعه فوق الضيق الحاضر إلى حضن الآب.
في كتابه Arrested in the Kingdom، يشرح أوزوالدو ماجدانجال (مسيحي فلبّيني) ما حدث له بعد أن قُبض عليه وتعرَّض لضربٍ مبرح. عاد إلى زنزانته وصلّى لمدّة خمس ساعات متّصلة وهو يُسبِّح على شركة الألم التي وهبها له المسيح، بعدها: “أضاء نور بغتةً. امتلأت الزنزانة بسحابة مجد الله. كان حضورًا محسوسًا. ركع على ركبتيه ولمس جبيني، وقال لي: ‘يا بني، لقد رأيت كلّ شيء، لذلك أنا هنا. اطمئن لأنّي لا أتركك أو أهملك إلى أبد الأبدين’.”
قد تنثال المحن على الكنيسة وقد تضرب الرياح قاربها وتهتاج الأمواح عليها ويغطيها ضبابٌ ليحجب عنها رجاء الميناء، ولكن، كما قال المُخلِّص: «أَنَا هُوَ، لاَ تَخَافُوا» (يو6: 20). المياه والأمواج والعواصف لن تعوقه عن عوننا. سيأتي ليطأ تلك المياه التي ترهبنا.. ويبكم عصف الرياح بنظرة إرادته الإلهيّة.. سيصير سكون. السكون قد يكون في قلوبنا وسط العواصف أو في العواصف التي تحيط بقلوبنا.. هو هو سكون الخلاص وقوّته.
قال أحدهم:
أحيانًا يُهدّئ الله العاصفة
وأحيانًا يدعها تثور ويُهدِّئ ابنه
قالها لنا المسيح بصوتٍ أبدي ليبثّ في قلوبنا حسّ الشجاعة المسيحيّة: «لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ» (لو12: 4) نحن لسنا أجساد مُجرّدة. إنْ جُرح الجسد من أجل المسيح، التئمت أرواحنا في روح إلهنا حتى الالتصاق بالربّ. إنّ تجسّدت الكراهيّة أمامنا، تولّد الحبّ في قلوبنا. لكلّ فعل شيطاني، ردّ فعل إلهي فائق، إن أثبتنا أنّنا بالحقّ نحبّه. إنْ شهدنا له يعني أنّنا شاهدناه يتعشّى في قلوبنا. ومَنْ يشاهد المُخلِّص يُسبى حبًّا ولو إلى الجلجثة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/bleed-3.html
تقصير الرابط:
tak.la/bsqh85z