إن اهتمامنا بالغير هو مظهر عملي لمحبتنا للناس, وفي الاهتمام بالغير, لا يعيش الإنسان لنفسه فقط, بل يهتم بما لغيره كما يهتم بما لنفسه, وربما أكثر, إذ يؤثر غيره علي نفسه, لو ينسي ذاته في محبته للآخرين, فهو يؤمن تمامًا أن حياته ليست ملكا له.
إنما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه, وفيما يهتم الإنسان الروحي بالكل, نراه يتعب ليستريح غيره, فهو يهتم بمشاعر الناس وفي محاولة إسعادهم, ويندمج في مشاعرهم, دموع الناس تسير من عينيه, وتسقط من جفنيه, وأفراح الناس تنبع من قلبه قبل أن تنبع من قلوبهم.
.. أول مثل قدمته لنا الطبيعة في الاهتمام بالغير, هو مثال الأمومة المحبة الحانية, فالأم تفكر في طفلها أكثر مما تفكر في نفسها, تسهر حتى تطمئن انه قد نام, وتتعب لكي يستريح هو, ولا تتبرم بأي طلب يطلبه, تبتسم إذا ابتسم, بل أن ابتسامة هذا الطفل ترتسم علي شفتي أمه قبل أن ترتسم كاملة علي شفتيه, لقد أوجد الله في قلب الأم عواطف الحب والحنان والبذل والاهتمام بطفلها أكثر من الاهتمام بنفسها.
.. إن مشاعر الاهتمام بالغير تنزع من القلب الأنانية والاهتمام بالذات, فيرفض الإنسان تمامًا أن يبني راحته علي تعب الآخرين, بعكس ذلك الشخص الذي يلوث الجو بدخان سيجارته,. ولا يعبأ في ذلك أن الغير قد تؤذي صحته بتدخينه هو, ويضطر علي الرغم منه أن يستنشق الدخان الفاسد الذي ينفثه المدخنون, ولهذا فإن شركات الطيران لا تصرح للركاب بالتدخين في كثير من الرحلات, ومن أمثلة غير المهتمين بغيرهم, من يرفع صوته بطريقة تعكر الهدوء, وتعطل غيره عن التفكير أو القراءة, أو من يركن عربته في موضع تعاكس عربات غيره دون أن يبالي, ولكنها الأنانية التي لا تهتم بغيرها.
.. أما الإنسان المهتم بغيره, فلا مانع عنده من أن يتعب ليستريح الغير, وهو لا يطلب ما لنفسه, واهتمامه بغيره ينبع من محبته للغير, وأيضا من محبته للخير, وبغيره لا يزاحم الناس في طريق الحياة, إنما يفسح لهم الطريق ليعبروه, ولا يمتنع في أن يتقدموا عليه وهو يفعل ذلك باهتمام وليس بمجرد شكلية, انه شعور ينبع من قلبه ويدفعه لبذل الجهد الذي يناسب اهتمامه.
.. والاهتمام بالآخرين يشمل العناية بهم من كل ناحية, سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية أو من الناحية الروحية, أو من جهة نفسيتهم ومشاعرهم وراحتهم, وحل مشاكلهم, وإشعارهم أن هناك من يسندهم ويقف إلي جوارهم, فإن كثيرين من الذين لا يهتم بهم أحد يقول الواحد منهم: لا يوجد أحد بما يشعر بما أنا فيه, أو يحس بحالتي!!
.. والاهتمام بالغير يكون أحيانًا في نطاق العمل. فهناك فرق بين موظف وموظف: الموظف الذي يهتم براحة الجمهور, يظهر اهتمامه في بذل كل الجهد لراحتهم, ودون تأخير, أما الموظف الروتيني, فانه يماطلهم ويطلب إليهم أن يعودوا إليه في موعد آخر, وقد يضع العراقيل في طريق قضاء مصلحتهم, ولذلك أتذكر إنني قلت ذات مرة, الموظف المتعاون يحاول أن يجد حلًا لكل مشكلة, أما الموظف الروتيني فقد يجد مشكلة لكل حل!!
.. المهتم بالآخرين يظهر اهتمامه بالإسهام في حل مشكلاتهم, إذ يعتبر أن مشكلة الغير كأنها مشكلته شخصيًّا, ويهتم بحلها مهما كلفه ذلك من جهد, ويكون سعيدًا أن وصل فيها إلي حل, لأنه يشعر بفرح في إسعاد الآخرين, وإنقاذهم مما هم فيه من ضيقات, ولاشك أن الناس يشعرون باهتمامه وإخلاصه, علي الرغم من أن الأمر لا يدخل في نطاق مسئوليته ولكن اهتمامه يترك في نفوسهم أثرًا عميقًا هذا الإنسان الذي يفكر فيهم وفي إسعادهم.
.. والاهتمام بالغير يمكن تطبيقه علي مستوي الأسرة, حيث يبذل الزوج كل طاقته في أن يهتم كل الاهتمام براحة زوجته وأولاده, وكذلك الزوجة تهتم كل الاهتمام براحة زوجها, ويهتم الاثنان براحة أولادهما, وان الاهتمام المتبادل فطبيعي أن لا تحدث إطلاقًا حوادث الطلاق التي نسمع عنها, أن مثل هذا الاهتمام في محيط الأسرة أو بين كل أفراد المجتمع, هو ما يسميه البعض بالعقد الاجتماعي, حيث يكون الاهتمام علي المستوي الاجتماعي والشخصي, فيتدرب الإنسان في بيته علي الاهتمام بأهله وإخوته وأقربائه بل وجيرانه أيضًا, وفي مكان عمله يتعود كيف يهتم بزملائه, ثم يتطور حتى يهتم بجميع الناس, ويعيش كإنسان نشيط في المجتمع يخدم الكل, ويصير إنسانا خدومًا يحب الجميع, وباهتمامه بهم يجذبهم أيضا إلي محبته, وهذا الاهتمام بالغير يشغل فكر الإنسان المحب ويشغل عواطفه, فيتناوله بجدية ولا يهمله مطلقًا, هناك فرق بين إنسان تطلب تدخله في مسألة معينة, فيقول لك: أنا فاكر موضوعك, وبين آخر يقول لك: أنا مهتم بموضوعك, ويظهر اهتمامه هذا عمليا, إنسان يهمك أمره, فتقابله, وتكلمه باهتمام, وتعامله باهتمام, ويظهر اهتمامك به في طريقه للقائك به وفي تحيتك له, وفي عدم إحراجه حينما تساعده, أن اهتمامك بالغير يظهر في ملامح وجهك, وفي نبرات صوتك, انه اهتمام يشعر به من يتعامل معك, دون أن تعلن له انك مهتم به وبما يعرضه عليك من موضوعات.
.. يظهر اهتمامك بالغير أيضًا دون أن تطلب هذا منه, فهناك شخص قد يكون في خطر وهو لا يشعر بذلك, وقد يحتاج إلي إنقاذ دون أن يعرف إلي من يلجأ, ويصل إليك موضوعه بطريق غير مباشر, فتهتم به وتنقذه دون أن يطلب, ويظهر الاهتمام بالغير أيضا في الأمور الروحية, فقد يكون شخص غارقًا في عمق الخطية, وهو لا يطلب الخلاص منها, لأنه لا يريد ذلك. وتهتم أنت بخلاصة دون أن يسألك معونة في ذلك, وتعمل كل ما تستطيع لكي تقوده إلي التوبة, بكل حب واحتمال وطول أناة, هذا النوع هو الاهتمام الروحي, وقد يكون من عمل الرعاة والمرشدين الروحيين كما يكون من عمل الاجتماعيين الذين يهمهم سلامة أفراد المجتمع من الضياع, مثال ذلك المهتمون بعلاج المدمنين وإنقاذهم من الإدمان.
وأنت أيها القارئ العزيز لعلك تشارك في الاهتمام بالغير من أي نوع يصل إليك.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/h499ww7