يعتبر البعض أن من أهم ملامح اللاهوت المعاصر هو الاتجاه المتزايد نحو "اللاهوت النسائي"، الأمر الذي يتبناه بعض اللاهوتيين الغربيين ويتحمس له جدًا أصحاب اللاهوت الزنجي Black Theology... إذ ينادون بمساواة المرأة بالرجل في تمتعها بالكهنوت واستلام القيادة الكنسية جنبًا إلى جنب مع الرجل، مع عدم استخدام صيغة المذكر بالنسبة لله، إلخ... هذا الاتجاه ليس له موضِع في الكنيسة القبطية في مصر... لماذا؟
أولًا: اهتمت الكنيسة المصرية بالمرأة منذ بدء انطلاقها، فضمت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال، حتى اضطر العلامة أوريجن في القرن الثاني أن يخصي نفسه حتى لا يترك مجالًا للعثرة... مما يشير إلى التصاق الكثيرات به طلبًا للدراسة أو لتسجيل كلماته. وفي العصر الحديث نجد المعاهد اللاهوتية بمصر على امتداد القطر تضم عددًا من النساء والفتيات ربما أكثر من الشبان والرجال؛ بل ونجد بعضهن يَدْرِسْنَ في هذه المعاهد.
تقدير الكنيسة للمرأة واضح من تكريمها المستمر للقديسة مريم، فتسبحها الكنيسة أعظم من كل الطغمات السمائية حتى السارافيم والشاروبيم الحاملي للعرش الإلهي. وتكرم الكنيسة قديسات كثيرات مثل الشهيدة الأم دولاجي والقديسة رفقة والشهيدة دميانة... وتطلب الكنيسة كلها من البابا البطريرك والأساقفة والكهنة والشمامسة وكل الشعب صلواتهن عنهم.
ثانيًا: الاتجاه النسكي له دوره في الكنيسة المصرية، فالمؤمن كلما التهب قلبه حبًا غالبًا ما لا يطلب الكهنوت ولا الانشغال بالجوانب الاجتماعية والإدارية إنما بالأكثر يتجه نحو الزهد... لذا يتزايد الميل في مصر نحو الرهبنة والبتولية، الأمر الذي يجد فيه الشاب والشابة طريقا مفتوحا بلا تمييز بينهما.
هذا وإنني على ما أظن أن "اللاهوت النسائي" ظهر في الغرب كثمرة طبيعية للصراع على السلطة؛ وفي اللاهوت الزنجي كعلامة من علامات الثورة على الظلم والرغبة في التحرر، إذ يشعر الرجل الأسود إنه يريد الخلاص من نير الرجل الأبيض -كما في جنوب أفريقيا... هذا الإحساس خلق اتجاها مبالغا فيه ضد كل تنظيم فيحسبونه قيدا، لذا حسبوا أن قصر الكهنوت على الرجال هو تنظيم غربي وثقافة الرجل الأبيض يريدون التحرر منها (حسب تعبير البعض في مؤتمر اللاهوتيين الأفارقة بالقاهرة سنة 1985).. أما في الكنيسة القبطية فإذ ينظر إلى الكهنوت كذبيحة حب وأبوة وليس سلطة، لا يجد هذا الصراع مجالا فيها.
ثالثًا: تقدير الكنيسة الأرثوذكسية للنظام الطبيعي الذي أوجده الله، أعني التمايز الجنسي، إذ خلق الرجل والمرأة يكملان بعضهما البعض. حقًا في المسيح يسوع ليس رجل ولا امرأة لأن كل منهما هو عنصر في الجسد الواحد، له ذات الإيمان، وذات البنوة لله، وأيضا ذات المجد الأبدي، لكن يبقى الرجل رجلًا له دوره والمرأة امرأة لها دورها. يقول الأسقف كالستوس وير: [أحد أمجاد الطبيعة البشرية أن الرجال والنساء، وهم مساوون، لكنهم لا يحلون محل بعضهم بعض](208).
لقد أكد أباء الكنيسة -بروح الكتاب المقدس- التساوي بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت أكد التمايز.
يحاول بعض المدافعين عن "اللاهوت النسائي" ربط سيامة المرأة بتحرير العبيد، قائلين أن الكنيسة التي قامت بدور إيجابي في تحرير العبيد في القرن الثامن عشر يلزمها أن تقوم بذات الدور في الدفاع عن حق المرأة في السيامة. الإجابة على هذا التمايز بين السادة والعبيد ليس من وضع القانون الإلهي أو الطبيعة، وكما يقول القديس باسيليوس: [ليس إنسان عبدًا بالطبيعة](209)، أما التمايز بين الرجل والمرأة فهو جزء من قانون الطبيعة.
يقول الأسقف كالستوس إنه في عهد السيد المسيح وجدت كاهنات وثنيات، ومع هذا لم يختر السيد امرأة واحدة بين الرسل، إذ يتساءل: [ألعلنا نقرر بأن كلمة الله وحكمته المتجسد كان مخطئًا وإننا نحن في أواخر القرن العشرين نفهم الحق أكثر منه؟](210) لم يعدم السيد المسيح وجود امرأة يمكن أن تكون بين الرسل، فقد كانت القديسة مريم المثل السامي لا لتقديس جنس النساء بل لتقديس كل جنس البشر، إذ فاقت الكل.
رابعًا: في العصر الحديث نجد للمرأة دورها الحي الإيجابي في الكنيسة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
أ] توجد أمهات رئيسات للدير Abbess "تماف" tmau لهن دورًا قياديًا، تجتذبن الكثيرات للحياة النسكية، ولا أكون مبالغًا إن قلت أن بعضهن لهن دورهن في حياة حتى العائلات، حتى صارت بعض الأديرة أشبه بمركز روحي للشعب.
ب] زوجات الكهنة في مصر لهن دورهن في الخدمة. في سوريا يدعى الكاهن "خوريًّا" وزوجته "خورية"؛ وعند اليونان يسمى الكاهن "برسبيتيروس" أو "باباس" وزوجته "برسبيترا" أو "باباريا"؛ وعند الروس يسمى الكاهن "باتوشكا" أي "أب صغير"، وزوجته "ماتوشكا" أي "أم صغيرة"... هذه الألقاب لزوجة الكاهن في الكنائس الأرثوذكسية تحمل معنى خاص يكشف عن التزامها أو قل حقها في العمل.
ج] تزايد عدد المكرسات ظاهرة واضحة في حياة الكنيسة القبطية المعاصرة.
د] قام قداسة البابا شنودة الثالث بإقامة شماسات في عيد العنصرة سنة 1979 م.
هـ] أغلب الأنشطة الاجتماعية الكنسية مثل دور الحضانة وبيوت المسنين ودور الأيتام... في أيدي النساء.
و] تقوم النساء والشابات بخدمة مدارس التربية الكنسية.
خامسًا: نريد أن نؤكد مع لويس بوير(211) Louis Bouyer أن قصر الكهنوت في العهدين القديم والجديد وفي التقليد الكنسي على الرجال لا يقوم على التقليل من إمكانيات المرأة أو دورها في الكنيسة، إنما يلزم على الكل أن يدرك "سر المرأة" ليتعرف على دورها الجوهري لا مجرد المطالبة بأعمال معينة.
"المرأة" تمثل "الكنيسة" النامية لتبلغ قياس ملء قامة المسيح، دورها حيوي وداخلي... قادرة على الولادة والتربية لتقديم أولاد الله كعروس للعريس السماوي تستطيع المرأة بالحب أن تعلن عن كنيسة المسيح.
"الرجل" يمثل "المسيح" الباذل حياته على الصليب... لذا لاق به أن ينال الكهنوت ليس للتكريم وإنما للذبح اليومي والبذل لحساب أولاد الله... في الكنيسة مَنْ يقبل القبطيةالكهنوت إنما يتقدم صفوف الشهداء ليحنى رقبته بالحب محتملًا الموت بفرح.
_____
(208) Women & the Priesthood, p.29.
(209) On The Holy Spirit, 20:51.
(210) Women & the priesthood, p.16.
(211) Women in the Church, 1984, ch.1.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/3s58pfc