التقي الأب البطريرك بجماعة من أولاده الذين يعرفهم بأسمائهم، وبعد أن أظهر لهم كل حب أبوي، قال أحدهم:
- سامحنا يا أبانا البطريرك فقد جئنا إلى قداستكم في أمر أقلق نفوسنا.
- خير يا أبنائي.
- تسكن بجوارنا سيدة اسمها... وهى معروفة في كل المدينة بسيرتها الشريرة، تفتح بيتها للرجال، وتفسد أخلاق الشباب في جسارة...
والأمر العجيب أنها منذ عدة أسابيع جاءت وهى منهكة القُوى جدًا، يبدو أنها قد مرضت مرضًا شديدًا. قرعت باب بيتنا، ولأول مرة التقت بزوجتي، وكانت المفاجأة أنها روت كل ماضيها لزوجتي، طالبة منها أن تأخذها إلى الكنيسة، وتكون ضامنة لها، وأشبينتها أمام الكاهن. لكن زوجتي إذ تعرف أنها حتى وقت قريب تصنع شرورًا كثيرة وتُعثر الآخرين، خشيت أن تكون توبتها مؤقتة بسبب المرض، تعود بعده إلى ماضيها.
باختصار لم تقبل زوجتي أن تكون إشبينة لها، وخافت على أولادنا منها. فكلمَتها بجفاف لكي لا تعود تدخل بيتنا.
- ربما قدمت توبة صادقة.
- اللَّه يعلم.
- على أي الأحوال، أنا سمعت من بعض الإخوة أنها ذهبت إليهم في هذه الأيام القليلة وتصرفوا معها كما تصرفتم أنتم... لأن الكل يخافها ويخشى على أولاده منها. وإن كان في رأيي مادامت هي جادة في توبتها، ينبغي أن نسندها بحكمة لخلاصها، حتى وإن كانت المدينة كلها تسمع عن سيرتها الرديئة.
- سامحني يا أبانا، وهل يمكن أن تتعمد سريعًا؟
- لا بل يجب أن يُعطى لها زمان لاختبار صدق توبتها.
- العجيب يا أبانا البطريرك، أن زوجتي رأتها بالأمس ترتدي ثوبًا أبيض، فتشككت في الأمر، وذهبت إليها لتسألها: لماذا ترتدين هذا الثوب؟ أجابت السيدة: أنها قد تعمدت وستبقى أسبوعًا كاملا تلبس الثياب البيضاء.
- هل أنت متأكد من هذا الأمر؟
- ها زوجتي أمامك اسألها.
- ماذا قالت لكِ هذه السيدة؟
- لقد قالت يا أبانا أنها قد اعتمدت وأنها ستبقى هكذا تلبس الثياب البيضاء أسبوعًا كاملًا. والحق يقال يا أبانا أنها كانت فرحة جدًا ومتهللة، وإن كنت أنا لم أنم طول الليل إذ أخشى من عودتها إلى ماضيها، خاصة وأنها لم تترك الشر على ما أظن إلا بعد مرضها، أن كانت قد تركته. أما قبل المرض فكان بيتها سرّ تعبنا كلنا بسبب الداخلين والخارجين في شارعنا.
- هل أخبرتكِ من الذي قام بتعميدها؟
- قالت لي: أبونا (فلان).
- لا تقلقوا يا أولادي، أنا أعرف أن أبانا فلان إنسان حكيم ورزين، ولست أظن أنه يعمد إنسانًا دون أن يتحقق الأمر ويكون له إشبين مسئول عن حياته؛ ولم اسمع قط أنه تسرع في عماد أحد...
إنني سأرسل إليه وأتحقق الأمر بنفسي.
وانصرف الكل بثقة كاملة أن الأب البطريرك سيهتم بالأمر بنفسه.
إذ دخل الأب الكاهن عند الأب البطريرك، استقبله قداسة البطريرك كعادته بحب ولطف، ثم سأله:
- لقد سمعت أن (فلانة) قد تعمدت.
- نعم يا أبي البطريرك، أنا الذي عمدتها.
- متى قمت بتعميدها؟
- منذ يومين.
- هل تعرفها قبلًا؟
- مطلقًا لا، لكنني سمعت عنها، لأن سيرتها معروفة في المدينة كلها.
- وكيف تعمدها هكذا سريعًا؟
- لقد جاءتني منذ يومين ومعها ثلاثة من أشراف المدينة... تعرف قداستكم أنهم أناس مملوءين وقارًا واتزانًا، أكدوا لي توبتها وتعهدوا أمام اللَّه وأمامي وفي حجرة الشماس... أنها قد تابت وتحتاج إلى المعمودية سريعًا.
- ولماذا لم تطلب منهم تأجيلها؟
- لقد حاولت كثيرًا لكن ثقتي فيهم جعلتني أقوم بالعماد على مسئوليتهم أمام اللَّه، إذ صاروا كُفلاء وأشابين لها.
- على أي الأحوال، سأستوضح الأمر منهم، هل لديك مانع؟
- أبدًا، أنا مستعد أن أواجههم.
بالفعل أرسل قداسة البطريرك إلى الثلاثة، الذين سمعوا أن قداسته يطلب حضورهم فورًا...
سأل الأب البطريرك أحدهم:
- هل تعرف السيدة...؟
- أسمع عنها، لكنني لم ألتقِ بها يا أبانا البطريرك؟
هنا دهش الأب الكاهن للإجابة، واحمر وجهه خجلًا، وهو يقول:
- كيف لم تلتقِ بها؟
- أنا لم ألتقِ بها قط يا أبي!
- ألم تحضرها لي منذ يومين أنت والأخِّين الحاضرين؟
- أنا شخصيًا لم أرها ولا حضرت بها إليك.
أجاب الأخوان الآخران بذات الكلمات قائلين أنهما لا يعرفانها ولا حضرا بها إلى الأب.
دُهش قداسة البطريرك لهذه الإجابات وصار في حيرة غير أنه يثق في كاهنه الوقور كما يثق في هؤلاء الأخوة الثلاثة...
حاول الكاهن أن يضبط انفعالاته، وفي هدوء قال للحاضرين: "ألم تحضروا منذ يومين مع السيدة وطلبتم مني أن أعمدها وأنا رفضت، وتحت ضغط اللجاجة وإصراركم أنها قد تابت قمتُ بتعميدها وكنتم أنتم أشابينها؟"
أجاب أحدهم: "هذا لأمر عجيب يا أبي، فإنني لم أقابلك في هذا اليوم، ولأول مرة أسمع أن هذه السيدة قد نالت سرّ المعمودية. كلنا يعرف سمعتها الرديئة، فكيف نقدمها للعماد؟ وكيف نكون نحن أشابين لها؟... هل أنت متأكد مما تقول يا أبانا؟"
أجاب الكاهن: "نعم" وكان الشماس (فلان) حاضرًا. هاهو خارجًا فلنسأله.
شعر قداسة البابا بخطورة الموقف، لكن تحت إصرار الكاهن استدعى الشماس الذي قبَّل يديْ الأب البطريرك والأب الكاهن وسلم على الإخوة الثلاث، عندئذ سأله الأب البطريرك: ماذا تعرف عن السيدة (فلانه)؟
أجاب الشماس: أنا أسمع عن سيرتها البطَّالة، لكنني منذ يومين حضرت جزءًا من طقس عمادها، وكنت مندهشًا تمامًا كيف تعمد هذه السيدة، وكيف يضمنها أناس شرفاء مثل هؤلاء؟
عندئذ بدأت الدهشة تملأ قلوب الرجال، وأخذوا يسألون: "هل رأيتنا بعينيك؟"
أجاب: "نعم وكنتم أشابين السيدة".
تنفس الكاهن الصعداء. واضطرب الرجال جدًا وأصروا أن تحضر السيدة ويسألونها... وأمام إصرارهم استدعوا السيدة.
دخلت السيدة الدار البطريركية بثيابها البيضاء وقد علت الابتسامة وجهها، والتقت بهؤلاء الحاضرين جميعًا... وهنا سألها الأب البطريرك في هدوء: أود أن أعرف كيف تعمدتي؟
أجابت السيدة:
[كنت يا أبي مُرَّة النفس جدًا، مشتاقة إلى التمتع بسرّ المعمودية، وقد حاولت مع كثيرين وكثيرات أن يضمنونني لدى أبي الكاهن، ولكن سيرتي القديمة قد أغلقت قلوبهم عني وأنا لا ألومهم في شيء.
منذ يومين كنت أبكي بمرارة لساعات طويلة حتى فتح اللَّه قلوب سادتي الحاضرين، إذ بهم يقرعون باب منزلي، وطلبوا مني أن أقوم معهم إلى أبي الكاهن، وكان هذا الأخ الشماس حاضرًا، ونلت ما كنت أشتهيه بكل قلبي...
لقد أعطاني إلهي سؤل قلبي، وأنار بصيرتي، وتحوَّلت حياتي من الظلمة إلى النور، وتمتعت بالقيامة بعد أن كنت في موت الخطية...
أقول الحق يا أبي البطريرك... إني مدينة بكل حياتي لهؤلاء الرجال الأحباء ولأبي الكاهن!
اللَّه الذي أعطاهم بركة الستر على خطاياي يعوضهم هم وكل أولادهم".
وإذ انسكبت دموع الفرح من عينيها صمت الجميع، لقد حاول أحد الرجال أن يسألها، لكن الأب البطريرك أشار إليه بالصمت. عندئذ طلب من السيدة أن تستأذن إلى لحظات. وإذ خرجت قال قداسة البطريرك: أشكركم جميعًا على تعب محبتكم. لكنني أريد أن أقول لكم سرًا، إنكم جميعًا صادقون، وقصة هذه السيدة فيها سرّ عجيب لابد أن نعرفه، فسأجلس معها على انفراد لأعرف حقيقة سرّ عمادها".
استأذن الأب البطريرك منهم وخرج إلى السيدة يسألها: "هل هؤلاء الرجال الثلاثة هم الذين كانوا أشابين لك؟"
في دهشة أجابت السيدة: "اسألهم يا أبانا البطريرك... أنا لم أطلب منهم بل هم الذين حضروا وطلبوا مني ذلك".
- وهل تعرفينهم من قبل؟
- أبدًا.
- ولماذا حضروا؟
- لا أعرف.
عندئذ أغمض الأب البطريرك عينيه ورفع قلبه للَّه يطلب منه أن يكشف له سرّ هؤلاء الرجال. فأعلن اللَّه له في قلبه أنهم ثلاثة ملائكة قد حضروا لمساندتها حين رفض الناس جميعًا أن يُعينوها.
هنا سألها الأب البطريرك: ألم تصنعي أعمال محبة؟
- وهل إنسانة زانية مثلي تفعل خيرًا؟
- ألا تذكرين قط أنك فعلت عمل محبة لإنسان؟
- هل لإناء فاسد مثلي يستطيع أن يخرج صلاحًا يا أبي؟
- وقبل حياتك الشريرة،ألم تفعلي عمل محبة في صباك؟
صمتت السيدة قليلًا ثم قالت:
[أذكر مرة واحدة إني تألمت لآلام إنسان. ففي صباي إذ كنت أسير بجوار حقل، وجدت إنسانًا ربط حبلًا على شجرة، ووقف على كرسي ليشنق نفسه، فتألمت جدًا.
ذهبت إليه أساله: ماذا تفعل؟
أجابني أنه قد استدان أموالًا كثيرة، وليس له ما يوفي به دينه، والدائنون يشتكونه، لذا فكر في الانتحار.
بكيت أمامه بمرارة، وقلت له: "وهل تضيع حياتك كلها من أجل الأموال؟".
أجابني: "ماذا أفعل وأنا عاجز عن الوفاء بالديون؟"
قلت له: "سأعطيك كل ما أملك، ولا تفعل بنفسك شيئًا..."
بالفعل ترك الشجرة، وجاء معي إلى بيتي وقدمت له كل ما أملك من حُليّ وأموال. وافتقرت حتى مرَّت علىَّ ضيقة شديدة، فاضطررت أن أبيع جسدي للخطية مرة ومرات.
إذ فقدت طهارتي تحوَّلت حياتي إلى النجاسة حتى أعلن اللَّه محبته لي وسمح لي بمرض شديد كاد يدفعني إلى الموت دفعًا. صرخت إليه أن يُعطني فرصة للتوبة. وبالفعل قدمت توبة، لكنني لم أجد إنسانًا يضمنني للعماد... حتى أرسل لي إلهي هؤلاء الرجال المباركين...
حينئذ تنهد الأب البطريرك وقال: "اللَّه ليس بظالم حتى ينسى تعب المحبة. لقد أنقذتي إنسان من موت الجسد، والرب أرسل لكِ ملائكته لتتمتعي بالخلاص من موت الروح. اللَّه يحبك حتى وإن أغلق الناس قلبهم عنك!"
خرج الأب البطريرك إلى الأب الكاهن وشماسه والثلاث أخوة يروي لهم أعمال اللَّه العجيبة ومحبته اللانهائية، فاستراح قلب الجميع وخرجوا يشكرون اللَّه الذي لا ينسى أتعاب محبتنا البسيطة حتى وإن نسيناها نحن.
← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: Strange Godfathers.
_____
* أصل القصة عن مخطوط 92 تاريخ بدير القديس العظيم الأنبا أنطونيوس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/3m5mht8