إنَّ الدراسة المُتأنية للأعمال التربوية الرَّهبانية كما تتضح في ”الأقوال“ وفي الأدب الرَّهباني بصفة عامة، تُظهِر أنَّ آباء البريَّة كانوا يُراعون للغاية ”فرادة individuality“ المُبتدئ، وهم في ذلك لم يستخدموا طريقة واحدة أو حتّى بضعة طُرُق، بل استخدموا تنوعًا غنيًا من المناهج والطُرُق، حسبما يتفق مع المُبتدئ الذي يُرشدونه (سِنُّه وحالته الروحية وشخصيته، إلخ..) واضعين في اعتبارهم مُجمل شخصية الإنسان الذي يتعاملون معه (المُتلقِّي)، وكذلك كان لنوع الحياة الرَّهبانية الذي اختاره المُبتدئ -سواء الوحدة أو الشَرِكَة- تأثيره على طريقة ومنهج التعليم، وفي مُقدمة كتاب ”برصنوفيوس ويوحنَّا“ (من القرن السَّادِس) نقرأ:
”ولكن عندما ننوي أن نقرأ الأمور المكتوبة في هذا الكتاب، يجب أن نعرِف أنَّ بعضًا منها قد قيل للمُتوحدين، وبعضًا للذين في الشَرِكَة، وبعضًا آخر للذين في الخورس، وبعضًا أيضًا للكهنة ولقطيع المُؤمنين المُحبين للمسيح، وبعض للشباب الصِغار أو المُبتدئين، وبعض للمُتقدمين فعلًا في السِنْ والمُتدربين في الزي (الرَّهباني)، وبعض لهؤلاء الذين يقتربون من كمال الفضيلة، كما يُناسب كلّ أحد أن يسمع، لأنَّ التعاليم عينها لا تُناسِب الجميع بنفس القدر...“ وتقول المُقدمة أيضًا أنَّ الإجابات على الأسئلة الروحية ستكون بحسب مُستوى السائِل لئلاّ يُصاب بصِغَر النَّفْس (1).
وقبل هذا الكتاب بقرنين، شرح القديس إغريغوريوس النزينزي (330-390 م.) أحد مشاهير الآباء في الحياة الرَّهبانية أنَّ النِفوس المُختلفة لابد أن تُعطي تعليمًا وإرشادًا مُتنوعًا، فالبعض تقودهم العقيدة، والبعض ينفعهم التعليم البسيط، البعض يحتاجون للمِهماز، والبعض الآخر الشكيمة، البعض ينتفعون من المديح، والآخرون ينتفعون من التوبيخ، لكن كلا الأمران يجب أن يُستخدما في الوقت المُناسب، وإلاَّ إذا لم يُستخدما في وقت مُناسب أو استُخدِما بلا سبب صارا ضارين، ويقول: ”إلاَّ أنَّ هناك مَنْ يحتاجون للتشجيع، وآخرون يحتاجون للتوبيخ، علنًا أو سرًا بحسب الشخص“ ويشرح أيضًا أنه في بعض الأوقات يجب أن يُلاحظ الأب بتركيز حتّى أدق التفاصيل، وفي أوقات أخرى يجب ألاَّ يُلاحظها، بل بينما يرى، يظهر كأنه لا يرى، وبينما يسمع، يظهر كأنه لا يسمع وفي بعض الحالات يجب حتّى أن يغضب دون أن يشعُر بالغضب، بحسب طبيعة الفرد الذي يتلقّى الإرشاد، وأخيرًا، هناك آخرون ينالون أفضل معونة من مُعلِّم يسلُك باتضاع مُعامِلًا تلاميذه بمستوى مُناسب مُساعدًا إيَّاهم أن يقتنوا سريعًا رجاءً للأمور الأفضل (2).
ويُمكننا أن نجد أفكار إغريغوريوس هذه في الكِتابات الآبائية الأولى، مثلًا في كِتاب ”المُربي“ للقديس كلِمنضُس السكندري حيث يقول أنَّ مُربي الإنسانية، أي المسيح، يُستخدم كلّ وسيلة مُمكنة، مثل اللوم والتأنيب والتعنيف والتوبيخ والوعيد والصفح والعفو و.... إلخ. (3)
وكذلك القديس يوحنَّا الدَّرجي، وهو ينصح سميُّه رئيس دير رايثو Raithu، ينبهه أن يكون ذا تمييز وإفراز، وألاَّ يقول لكلٍّ من تلاميذه أنَّ طريق حياة الراهب ضيِّق وكرب، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وألاَّ يُخبِرهم جميعهم أيضًا أنَّ النير سهل، لكن يختبرهم جميعًا ويعِظ كلّ واحد بما يُناسبه. (4)
وهكذا لم يكُن العمل التربوي عند آباء البريَّة روتينًا سهلًا يُمكن استخدامه بنفس الطريقة مع جميع التلاميذ، بل كان عملية شاقة تتضمن العديد من المناهج والطُرُق التي كانت تُستخدم بأساليب مُتنوعة بحسب طبيعة التلاميذ.
وهذا دليل جل واضح على أنَّ آباء البريَّة، بينما عاشوا في عصر كان الاهتمام فيه بالفرد ضئيلًا للغاية، أكَّدوا بكلماتِهِم وأعمالِهِم على ضرورة التربية المُتفردة، ويُعتبر تنوُّع المناهِج وطُرُق التعليم، بجانب التنظيم الذي استخدمه الرُّهبان، أهم سِمَتين من سِمات النظام التربوي الرَّهباني.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/j55cj8x