3 – التعليق العلمي والكتابي على ما جاء في مقدمة القديس لوقا:
(أ) يقول نص الآية حسب الترجمة البيروتية (فانديك): "إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ في الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ، وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ،أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ".
(ب) وحسب ما جاء في الترجمة اليسوعية: "لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها، رَأَيتُ أَنا أَيضًا، وقَد تقَصَّيتُها جَميعًا مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا ثاوفيلُسُ المُكرَّم، لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما تَلَقَّيتَ مِن تَعليم".
(ج) وحسب ما جاء في الترجمة المشتركة: "لأنَّ كثيرًا مِنَ النّاسِ أخَذوا يُدَوِّنونَ رِوايةَ الأحداثِ الّتي جَرَت بَينَنا، كما نَقَلَها إلَينا الّذينَ كانوا مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ، رأيتُ أنا أيضًا، بَعدَما تتَبَّعتُ كُلَّ شيءٍ مِنْ أُصولِهِ بتَدقيقٍ، أنْ أكتُبَها إليكَ، يا صاحِبَ العِزَّةِ ثاوفيلُسُ، حسَبَ تَرتيبِها الصَّحيحِ، حتّى تَعرِفَ صِحَّةَ التَّعليمِ الّذي تَلقَّيتَهُ".
وعند دراستنا لهذه الآيات والنصوص دراسة كتابية ولغوية وعلمية ولاهوتية يتضح لنا الآتي:
1 – يقول القديس لوقا هنا "إِذْ كَانَ"، أو "لما أن" أو "لأن". وهنا يستخدم كلمة "evpeidh,per- Epeideeper" والتي تستخدم مرة واحدة فقط في العهد الجديد، هنا فقط، ككلمة مركبة من "epe" وتعني "since - حيث أو بما أن"، وكلمة "dee" وتعني "كما هو معروف جيدًا – as is well known" وكلمة "per" وتعطي معنى التأكيد، وتشير إلى حقيقة معروفة جيدًا وهي "بقدر ما هو كائن". وتأتي هنا سببية لما سيقوم به القديس لوقا. وبهذا الاصطلاح يُنبئ القديس لوقا أنه نوى أن يستخدم ما قام به الكثيرون من قبل إيجابيًا ليعزز ما سيقوله هو، مؤكدا أن دقته مع هذه الكثرة ستأتي بالجديد الكامل. فالكلمة هنا تعني التأكيد.
ثم يقول "قَدْ أَخَذُوا" أو "أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ" وترجمتها الحرفية في الإنجليزية "Have taken in hand "، وهي في اليونانية "evpecei,rhsan - epecheireesan" وهي اصطلاح كان يستخدم في اللغة الطبية بكثرة ويحمل معنى المهمة الصعبة التي تكلل بالنجاح الكامل مثل التعبير المستخدم في أعمال "فشرع قوم" (أع19:13)، أي شرعوا في مهمة صعبة ولكنها ستكلل بالنجاح.
ثم يكمل حديثه بقوله: "بِتَأْلِيفِ" أو "يُدَوِّنونَ" والتي ترجمت في الإنجليزية "To set forth in order" وهي في اليونانية "avnata,xasqai - anataxasthai"، ولم تستخدم في العهد الجديد سوى هنا فقط، وهي مكونة من مقطعين "tassoo" والذي يعني يرتب أو يوضع مرتبًاو "ana" والذي يعني "up" ومن ثم تعني الكلمة "draw up"؛ "يرتب" أو "يصنف"، وتفيد التجميع والترتيب. والتجميع هنا لمقولات وروايات شفهية ومكتوبة وهذا يؤكد دقة التسليم الشفوي والمكتوب الذي تم تسليمه من رسل المسيح للمؤمنين الأول في الكنيسة الأولى.
"قِصَّةٍ" أو "رِوايةِ" والتي تترجم في الإنجليزية "account" أو "narrative"، وهي في اليونانية "dih,ghsin - dieegeesin" وتتكون من "dia" وتعني "خلال – through" و"heegeomai" وتعني "يقود الطريق إلى" ومن ثم فقد ترجمت "رواية – narrative"، أي يروي رواية متصلة. والكلمة كانت مستخدمة طبيا بكثافة فقد استخدمها الطبيب اليوناني الشهير أبوقراط (Hippocrates) أكثر من 73 مرة، ولم تستخدم في العهد الجديد سوى هنا فقط. وهي هنا تفيد رواية التقليد الرسولي المسلم للكنيسة من رسل المسيح.
"الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ" أو "الأُمورِ الَّتي تَمَّت" والمترجمة في الإنجليزية "Which are most surely believed" والتي جاءت في اليونانية "peplhroforhme,nwn - peplhroforhme,nwn". والمركبة من "pleerees" وتعني "ملء – كمال – full" و"foreoo" وتعني "يحضر"؛ أي يأتي بالمقياس الكامل أو التأكيد الكامل. كما تعني ملء الاقتناع، وهو هنا يقصد الأمور التي حدثت والتي يعرفونها جيدًا إلى أقصى ملء قياسها، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. كما يعني قوله "عِنْدَنَا" h`mi/n – hemin "أ أي عندنا نحن المؤمنين أعضاء الكنيسة، فقد تمت بيننا وعشناها وحفظناها.
2 – ثم يقول "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة" أو "كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها" أو "كما نَقَلَها إلَينا الّذينَ كانوا مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ" (لو 1:2). أي كما سلمها لنا تلاميذ المسيح ورسله الذين كانوا شهود عيان لهذه الأحداث، وقد عاشوها بأنفسهم وكانوا قلبها وبؤرتها.
وكلمة "كما - kaqw.jj – kathoos" هنا تعني "even as" ولا تعني هنا التساوي بل بمقتضى أو "من واقع". وكلمة "سلمها" هي في اليونانية "pare,dosan - paredoosan" و"لنا - h`mi/n - heemin"؛ "كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا" أو "كما نَقَلَها إلَينا"؛ وتعني هنا التسليم الرسولي وهي مختصة في التقليد الرسولي بتسليم الأسرار - فمًا لأُذن. وهذا ما صفه القديس بولس بقوله:
+ "حسب التعليم (التسليم) الذي أخذه منا" (2تس3:6).
+ "وتحفظون التعاليم (التسليم) كما سلمتها إليكم" (1كو11:2).
+ "فاثبتوا إذا أيها الأخوة وتمسكوا بالتعاليم (بالتسليم) التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا" (2تس2:15).
+ وأيضًا قوله "لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضا" (1كو11:23).
والتسليم هنا يعني التسليم الشفوي فمًا لأُذن من أُناس رأوا وعاينوا (كانوا شهود عيان) وخدموا "الكلمة - lo,gou" من "lo,goj"، الرب يسوع المسيح. فالكلمة هنا ليست كلمة منطوقة؛ بل هو "الكلمة - lo,goj" الذي شاهدوه وعاينوه وكانوا خداما له. كما أن الكلمة المستخدمة هنا "شهود عيان" هي "auvto,ptai – autoptai" وهي كلمة يونانية قديمة ومصطلح طبي لم يستخدم في العهد الجديد سوى هنا فقط ليعني المشاهدة بالعين مباشرة. وهذه الكلمة بالذات تُستخدم الآن في فحص حالات بعد الموت autopsy فتعطي الانطباعات الشخصية عن الحالة. لذلك أردف الطبيب لوقا مع شهود العيان "خدَّام الكلمة"، بمعنى أنهم رأوه وفحصوه جيدًا بمقتضى الوجود والتزامل والخدمة، وهكذا أصبحت روايتهم واضحة وصادقة بكل يقين!!
كما يعني قوله "الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة" أو "الّذينَ كانوا مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ"، الذين كانوا مع المسيح منذ بداية رسالته كقول القديس بطرس عند اختيار بديلا ليهوذا "فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا يصير واحدا منهم شاهدا معنا بقيامته" (أع1:21و22). و"الكلمة" هنا كما تعني شخص المسيح تعني أيضًا الرسالة الإنجيلية بكاملها دون أي تغيير، حيث يقصد بها تسجيل كلام المسيح وأعماله وشخصه، كما أكد هو نفسه في بداية سفر أعمال الرسل "الكلام الأول أنشأته (دونته) يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلّم به إلى اليوم الذي ارتفع فيه" (أع 1:1-2).
ويعني قوله "معاينين أو شهود عيان – autoptai – auvto,ptai"، كما أوضحنا أعلاه أنهم لا يتكلمون إلا بما رأوا بأنفسهم، أي يتكلمون عن معرفة شخصية وخبرة عملية ومعايشة كاملة لما يتكلمون عنه، أو كما يقول القديس يوحنا: "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ" (1يو1:1-3). وكما يقول القديس بطرس: "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ". وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلًا مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ" (2بط1:16- 18).
وخلاصة الآيتين هنا هي؛ بما أن الكثير من المؤمنين قد شرعوا وقاموا بمهمة صعبة ولكنها ستكلل بالنجاح، وهي ترتيب وتدوين الأحداث من واقع ما سلم لهم ونقل إليهم عن طريق التسليم الرسولي، ما تسلموه من رسل المسيح وتلاميذه فمًا لأذن، الروايات الإنجيلية والتعاليم والمواعظ، التي تسلموها شفويًا من شهود العيان، تلاميذ المسيح ورسله الذين عاشوها معه وكانوا واثقين ومتأكدين من حقيقة وصحة كل كلمة فيه، فقد تمت أماهم وبينهم ومعهم وكانوا في قلبها وبؤرتها وذروتها فقد عاشوها بأنفسهم "كنا معاينين عظمته" أو كما قال القديس بطرس "نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات" (أع10:43)، وكانوا متأكدين وواثقين إلى ملء الثقة والاقتناع من صحة كل كلمة فيها.
3 – ثم يضيف "رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن اكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس" (لو1: 3). أو "رأيتُ أنا أيضًا، بَعدَما تتَبَّعتُ كُلَّ شيءٍ مِنْ أُصولِهِ بتَدقيقٍ، أنْ أكتُبَها إليكَ، يا صاحِبَ العِزَّةِ ثاوفيلُسُ، حسَبَ تَرتيبِها الصَّحيحِ، حتّى تَعرِفَ صِحَّةَ التَّعليمِ الّذي تَلقَّيتَهُ".
وكلمة رأيت "e;doxe kavmoi. - edoxe kamoi" هنا لا تفيد مجرد الرؤية فقط بل تعني استحسنت "it seemed good to me as well"، أي استحسنت عمل أولئك الذين دونوا من قبلي لذا استحسنت أن أنضم إليهم بل وأستفيد من عملهم. ثم يقول "إذ قد تتبعت" وهنا يستخدم الكلمة اليونانية "parhkolouqhko,ti – parhkolouqhkoti" والتي تعني: تفحصت بدقة، تتبعت عن قرب. وهذا الفعل استخدمه جالينوس الطبيب اليوناني المشهور لتشخيص وفحص أعراض الأمراض.
"مِنْ أُصولِهِ بتَدقيقٍ "أي من بدايته ومصدره فهو هنا يؤكد على تتبعه لكل شيء من بدايته، أي رجع لكل شيء ودرسه وتفحصه من مصدره، فقد كان معه التسليم الرسولي الذي تسلمه عن شهود العيان وخدام الكلمة، الرب يسوع المسيح، وكان في إمكانه الرجوع إلى أكبر عدد منهم ليتحقق من صحة كل ما تسلمه، مثلما رجع للعذراء القديسة مريم التي روت له أحداث البشارة والميلاد، سواء الخاصة بيوحنا المعمدان أو الخاصة بالرب يسوع المسيح بكل دقة، وهذا واضح من تأكيده وقوله: "وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها" (لو2:19)، "وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها" (لو2:51). فقد رجع لكل شيء كمؤرخ دقيق أجمع العلماء على دقة كل حرف كتبه.
وكلمة "اكتب على التوالي إليك" ترجمت بدقة "أنْ أكتُبَها إليكَ.. حسَبَ تَرتيبِها الصَّحيحِ"، وكلمة "على التوالي" هنا وردت في اليونانية "kaqexh/j – kathexees"، وهي اصطلاح فني دقيق يعني "بنظام وترتيب".
مما سبق يتبين لنا أن الأحداث التي حدثت، أعمال الرب يسوع المسيح ومعجزاته وتعاليمه وأقواله وشخصه، والتي سلمها لهم تلاميذ المسيح ورسله شهود العيان مباشرة، فمًا لأذن، كانت محفوظة عندهم وقد دونت وسجلت في شكل مكتوب وبترتيب دقيق، ولكن في شكل شخصي وغير رسمي، كل يدون ويسجل بعض المذكرات التي أحتفظ بها عن أعمال وتعاليم المسيح، لذا رأى القديس لوقا، بالروح القدس، أن يسجل هو أيضًا هذه الأمور، أعمال وتعاليم وشخص الرب يسوع المسيح، حسب ترتيبها الصحيح وأن يرجع لأصحابها، شهود العيان الذين عاشوها بأنفسهم وشاهدوها بأعينهم. وهنا أحب أن أؤكد على حقيقتين وهما:
(1) لم يكتب إي كتاب، سمي بإنجيل أو سفر أعمال أو رؤيا أو رسالة مرتبطة بالعهد الجديد قبل تدوين الإنجيل للقديس لوقا سوى الإنجيل للقديس مرقس أو الإنجيل للقديس متى أو كليهما، كما لم يكتب أي كتاب في القرن الأول سمي إنجيل أو سفر أعمال أو رؤيا أو رسالة باسم أحد الرسل سوى أسفار العهد الجديد الـ27. ولم ينسب أي كتاب لأحد من الرسل قبل سنة 150م وهذا ما اجمع جميع العلماء والنقاد، لأن جميع الكتب الأبوكريفية كتبت فيما بين سنة 150 و450 م.، ولم يكتب أي كتاب منها قبل سنة 150 م.
(2) أن الكثيرين الذين ذكرهم القديس لوقا، كما بينّا في دراستنا، أعلاه، وكما برهنت أحدث الأبحاث والدراسات الكتابية، هم من المؤمنين الذين دونوا بعض روايات وتعاليم الإنجيل الذي سبق أن تسلموه شفويًا، التسليم الرسولي، الذي كان يعلم ويحفظ شفويًا قبل تدوين الإنجيل المكتوب. فمن دراسة تاريخ الكتابة عند بني إسرائيل وعند الشعوب التي كانت لها حضاراتها العريقة مثل مصر واليونان والرومان وما بين النهرين، سوريا القديمة، العراق وسوريا الحديثة، وجدوا أن الشعوب كانت تعلم وتحفظ كل نصوصها الدينية شفويًا، وقبل أن توضع في شكل مكتوب. وكان من الطبيعي أن يحفظ المسيحيين الأول نصوصهم الدينية بهذه الطريقة، باعتبار أن تلاميذ المسيح ورسله ومعظم المؤمنين في السنوات العشر الأولى للكرازة المسيحية كانوا من اليهود الذين قبلوا الإيمان والذين اعتادوا على حفظ نصوصهم الدينية بهذه الطريقة، وكذلك بسبب اختلاطهم بالرومان الذين كانوا يحتلون بلادهم ويحكمونهم واليونانيين الذين كانت ثقافتهم ولغتهم هي السائدة في ذلك الوقت في كل بلاد حوض البحر المتوسط. كما برهنت الدراسة العلمية للإنجيل المكتوب على حفظ المؤمنين لأجزاء محددة من الإنجيل، سواء شفويا أو بتدوينها في سجلات مثل التي ذكرها القديس لوقا، كما بينّا أعلاه، فقد وجدوا أن سلسلة انساب المسيح في كل من الإنجيل للقديس متى والإنجيل للقديس لوقا والموعظة على الجبل (متى ص 5 -7) وأمثال المسيح في مرقس (ص 4) وروايات عشاء الفصح والعشاء الرباني وروايات المحاكمة والآلام وروايات الصلب وروايات الدفن وروايات القيامة ورويات الصعود كانت مكتوبة في رقوق أو أوراق بردي وكان يحتفظ بها الكثيرون من المؤمنين الذين دونوها ولما تم تدوين الإنجيل لم يعد هناك حاجة إليها ولم يعد لها وجود.
أما ما زعم الكاتب بقوله: "من الملاحظ أن لوقا قد كتب إنجيله حوالي عام 60 ميلادي كما يذكر قاموس الكتاب المقدس / ص 823 وعليه فإن تلك السجلات المفقودة تعود لذلك التاريخ وما قبله".
وتساؤله: "والسؤال الذي يطرح نفسه: أليس من الممكن أن تكون تلك الأناجيل المندثرة قد احتوت ونقلت بعض الحقائق، كعدم صلب المسيح وانه بشر رسول ليس أكثر وانه مبشر بالرسول الخاتم؟".
فهذا كلام يخلط فيه الكاتب الحق بالباطل والباطل بالحق، فقد بينّا أعلاه، كيف أن هذه الكتابات التي أشار إليها القديس لوقا ما هي إلا سجلات صحيحة لأجزاء من التسليم الرسولي كما سلمه رسل المسيح وتلاميذه للكنيسة الأولى وهي لا تختلف مع ما كتبه القديس لوقا في شيء إنما هي سجلات، غير كاملة، كانت مدونة لبعض أعمال المسيح له المجد وتعاليمه ولكن القديس لوقا تتبع هذه الأحداث والأقوال وتفحصها بدقة متتبعا كل شيء من أصوله، كما رجع لشهود العيان أنفسهم الذين عاشوها وكانوا في قلبها، شاهدوها بعيونهم وسمعوها بآذانهم ولمسوها بأيديهم مثل العذراء القديسة مريم وبقية التلاميذ.
كما أن توهم كاتب المقال ومن تبعه وزعمهم أن هذه السجلات المذكورة والتي لم يعد لها وجود، يمكن أن يكون فيها ما يضاد العقائد المسيحية مثل الزعم الباطل والقول بعدم صلب المسيح ولاهوته فما هو إلا خيال مجانين لسبب بسيط هو أن حقائق صلب المسيح ولاهوته حقائق ثابتة وراسخة في التاريخ المسيحي والتاريخ الروماني واليوناني والسوري، بل وفي الأناجيل الأبوكريفية كما هي في الأناجيل القانونية الموحى بها. كما أن القديس لوقا لم يشر إلى أي تناقض بينه وبين هذه السجلات بل ولم يقل مطلقًا أنه خالفها، بل على العكس تمامًا فقد أكد على دقتها وصحتها ومصداقيتها. فقد كانت مذكرات وسجلات لأجزاء من الإنجيل الشفوي وقد أنتفت الحاجة إليها ولم يعد لها وجود بعد تدوين الإنجيل المكتوب.
وأذّكر مثل هؤلاء وأقول لهم أن ما دونه وسجله هؤلاء المؤمنون يشبه، مع الفارق، ما حدث عند جمع القرآن الذي كان محفوظًا في صدور الرجال ومكتوب على العسب المصنوع من جريد النخل واللخاف المأخوذ من الأحجار والرقاع الجلدية والرقوق والأكتاف المصنوعة من عظام أكتاف الشاة والأقتاب الخشبية التي كانت توضع على ظهور البعير. وبعد تدوين القرآن في كتاب أنتفت الحاجة لوجود هذه المواد ولم يعد لها أي قيمة تذكر فتلفت أو ضاعت.
1 – جاء في الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1: 164): "وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف وفي رواية والرقاع وفي أخرى وقطع الأديم وفي أخرى والأكتاف وفي أخرى والأضلاع وفي أخرى والأقتاب فالعسب جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء وهي الحجارة الدقاق وقال الخطابي صفائح الحجارة والرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو رق أو كاغد والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة كانوا إذا جف كتبوا عليه والأقتاب جمع "قتب" هو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه".
2 – وجاء في صحيح البخاري: "حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أرسل إلي أبي بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم (ص)؟ قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله؟ قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه".
وهنا نسأل أصحاب هذه الأقوال عن الإنجيل ونقول لهم:
... هل أحتفظ الخلفاء بهذه المواد التي جُمع منها القرآن؟
... وهل ما تزال موجودة وأين هي الآن، أن كانت موجودة؟
... وهل نزعم مثلهم ونقول لماذا لا تكون هذه المواد قد احتوت على مواد أخرى مخالفة لما هو موجود بالقرآن الحالي؟
مع ملاحظة أنه ليس هناك أي أجزاء مفقودة من الإنجيل المكتوب، بل أن الكتب المزعومة والمسماة بالأناجيل والتي رفضتها الكنيسة هي كتب كتبت ابتداء من منتصف القرن الثاني (150 م.) وقد كتبها هراطقة وسنوضح حقيقتها لاحقًا.
كم نقول لواضع المقالة وأمثاله ومن سار على دربهم ما يلي:
1 – تعليقا على قوله "أليس من الممكن أن تكون تلك الأناجيل المندثرة قد احتوت ونقلت بعض الحقائق، كعدم صلب المسيح وانه بشر ورسول ليس أكثر وانه مبشر بالرسول الخاتم؟ "
أولًا: أن هذا الاحتمال المفترض غير موجود على الإطلاق ولا يمكن أن تبنى العقائد على مجرد الاحتمالات حيث تقول القاعدة المنطقية "الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال".
ثانيًا: أجمعت الأناجيل القانونية، الموحى بها، وبقية أسفار العهد الجديد على الحقائق الإيمانية الموجودة في العهد الجديد ككل وعلى رأسها حقيقة صلب المسيح وأن المسيح هو ختام الإعلان الإلهي "الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثا لكل شيء الذي به أيضا عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم" (عب1:1-4).
ثالثًا: أجمعت السجلات التاريخية المدنية الرومانية واليونانية والسورية وغيرها على أن المسيحيين منذ فجر المسيحية كانوا يؤمنون بإله مصلوب صلبه اليهود على عهد بيلاطس البنطي، وكانوا يسخرون من ذلك ولكن المسيحيين لم يأبهوا بسخريتهم واثقين "أن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله" (1كو1: 18).
رابعًا: وعلى عكس ما تصور كاتب المقال ومن سار على دربه فقد اعتقدت وأمنت وأجمعت جميع الكتب الأبوكريفية بمسمياتها المختلفة من أناجيل وأعمال رسل ورؤى أو ما تسمى برسائل على حقيقة لاهوت المسيح وصلبه وقيامته وصعوده إلى السماء، فقد انطلقت هذه الكتب، كما يقول العلامة إيريناؤس (175م) والذي درس هذه الكتب، جميعها، من الأناجيل الأربعة وبقية أسفار العهد الجديد القانونية الموحى بها وكانت صدى لها، بل وتوسعت منها ولكن من منطلق غنوسي هرطوقي وثني خلط بين الفكر المسيحي والفكر الوثني صور فيه المسيح كالإله المنبثق من الإله غير المدرك والنازل من السماء في شكل وهيئة ظاهرية للإنسان دون أن يتخذ الطبيعة الإنسانية الحقيقة، اخذ شكل وهيئة الإنسان في الظاهر فقط فكان، كما زعموا، يبدو ملموسا في بعض الأحيان وغير ملموس في أحيان أخرى، وقالوا أنه صلب فعلا ومات حقا ودفن في القبر وقام من الموت وصعد إلى السموات ولكن لأنه كان إنسانًا في الظاهر فقط، في الهيئة، اتخذ شبه جسد الإنسان ومظهره، لذا تألم في الظاهر فقط وشبه للناس أنه صلب ومات ولكن لأنه إله ولم يكن له جسد مادي فقد كان ذلك في الظاهر والهيئة والشكل فقط، شبه لهم أنه صلب وبدا لهم أنه مات في حين أنه هو الإله الذي لا يموت.
2 – وتعليقا على قول المقالة "وعلى ذلك لم تكن الأناجيل الأربعة التي يتضمنها حاليًا الكتاب المقدس هي الأناجيل الوحيدة التي كانت قد دُوِّنت في القرون الأولى بعد الميلاد، فقد كان هناك الكثير من الأناجيل. وهذا هو السبب الذي دفع لوقا أن يكتب رسالته إلى صديقه ثاوفيليس التي اعتبرتها الكنيسة فيما بعد من كلام الله". وما قاله القس السابق عبد الأحد داود، والذي ذكرناه أعلاه؛ نقول لكاتب هذه المقالة ومن تبعه ومن سار على هداه ومن نقل كلامه وكأنه الحق المبين وأتخذ منه مرجعًا في أمور يجهلونها جميعهم:
أولًا: كون أن هناك كتبًا منحولة سميت بالأناجيل أو الأعمال أو الرؤى في القرون الأولى لا يعني أنها هي السجلات المذكورة في الإنجيل للقديس لوقا، بل كما يدل محتواها وجوهرها، وكما أجمع العلماء، فقد كتبت، هذه الكتب المنحولة، ابتداء سنة 150 من القرن الثاني إلى القرن الخامس(2). في الفترة التي خلط فيها أصحاب هذه الكتب ومن كتبوها بين الفكر المسيحي المسلم من رسل المسيح وتلاميذه وبين الفكر الغنوسي الخليط من فكر أفلاطون ومن الفكر المصري والكلداني واليوناني والزردشتي الفارسي.
ثانيًا: تحاول المقالة أن تضلل القارئ عمدًا باستخدامها تعبير القرون الأولى في الحديث عن الكتب الأبوكريفية وكذلك الربط بينها وبين ما جاء في مقدمة الإنجيل للقديس لوقا وتحاول أن توحي للقارئ أن هذه الكتب الأبوكريفية هي التي قصدها القديس لوقا عما دونه المسيحيون في عصره وقبل تدوينه للإنجيلّّ وذلك على عكس ما أوضحناه أعلاه.
3 – وتعليقا على قوله: "أن المجامع الأولى قد حرمت قراءة الكتب التي تخالف الكتب الأربعة والرسائل التي اعتمدتها الكنيسة فصار أتباعها يحرقون تلك الكتب ويتلفونها، فنحن لا ثقة لنا باختيار المجامع البشرية لما اختارته فنجعله حجة ونعد ما عداه كالعدم".
نقول لكاتب هذه المقالة ومن تبعه بل وللجميع أن المجامع المسكونية أو المكانية لم تناقش موضوع الكتب الأبوكريفية ولم تحرمها، بل أن الأناجيل القانونية الموحى بها وبقية أسفار العهد الجديد قُبلت في الكنيسة بمجرد تدوينها لأنها كتبت لمن تعلموها وتسلموها شفويًا وكتبت بناء على طلبهم، أما الكتب الأبوكريفية فقد كتبت بعد انتقال تلاميذ المسيح ورسله وخلفائهم من هذا العالم، فقد كتبت فيما بين سنة 150م و450م بإجماع العلماء، ولم يحرمها بل ولم يناقشها أي مجمع من المجامع الكنسية في القرون الأولى، فقط قرأها وكتب عنها وشرحها آباء الكنيسة؛ إيريناؤس سنة 175 م. وترتليان حوالي 200 م. وهيبولتوس حوالي 220 م. وأبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص حوالي 350م وقد تم اكتشاف معظمها في القرن العشرين وخاصة مكتبة نجع حمادي سنة 1947م وترجمت إلى لغات كثيرة، كما ترجمناها إلى اللغة العربية وقمنا بنشر الجزء الأول منها ثم يليه الجزء الثاني..الخ. وثبت من دراستها أنها شديدة الوثنية وتؤمن بالعديد من الآلهة وترى أن خالق العالم هو إله شرير وليس هو الله الحقيقي!! ولكنها لا تنفي لاهوت المسيح أو صلبه أو قيامته أو فداءه للبشرية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/gn3vb5y