هناك عدة حقائق يجب أن نضعها في الاعتبار عند دراسة ما اتفق فيه الإنجيليين الثلاثة وما تميز به كل واحد منهم:
1- إن جميع كُتاب ومدوني الأناجيل الأربعة وبقية أسفار العهد الجديد هم من تلاميذ المسيح، شهود العيان، الذين دونوا وكتبوا ما عاشوه بأنفسهم وما سمعوه بآذانهم وما شاهدوه بأعينهم وما لمسته أيديهم، فيما عدا القديس لوقا الذي كان تلميذ ومساعد القديس بولس والذي تقابل مع معظم الرسل ومع مريم العذراء ودون الإنجيل الثالث بعد أن تسلم من شهود العيان الذي عاش معهم واستمع إليهم وتتبع كل شيء من أصوله بالتدقيق.
وقد كان كُتاب الإنجيل مؤهلين لتدوين الإنجيل كيهود سابقين يعرفون القراءة والكتابة وقد تمرسوا على ذلك وصقلتهم التجربة حيث دونوا الإنجيل بعد أكثر من عشرين سنة من حلول الروح القدس وبدء الكرازة. وكانوا جميعًا يجيدون اليونانية كما برهنا على ذلك. أما ما جاء عنهم في سفر الأعمال، خاصة بطرس ويوحنا، "أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان" (أع 13:4)، فالمقصود به أنهما لم يكونا من طبقة رجال الدين اليهود، الكهنة والكتبة والفريسيين، بل من عامة الشعب، ومع ذلك فالآية نفسها تبرهن على عكس ما يظنه البعض إذ تقول "فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عاميان وعديما العلم تعجبوا. فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع".
2- ويجب أن نضع في الاعتبار أن الفترة التي سُلم فيها التسليم الرسولي شفاهة والتي استمرت أكثر من عشرين سنة حتى بُدئ في تدوين الإنجيل كان يقودها الرسل، تلاميذ المسيح، شهود العيان الذين سلموا الإنجيل شفاهة بأنفسهم وكان معظمهم أحياء، وهم الذين دونوا الإنجيل بأنفسهم ولم يدونه أحد غيرهم باستثناء القديس لوقا تلميذهم ومساعدهم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وسواء استعان هؤلاء الرسل بالتسليم الشفوي أو المكتوب فقد كانوا قادرين كشهود عيان على تدوين كل كلمة خرجت من فم السيد المسيح الإلهي كما خرجت وكما سمعوها وأن يصفوا الأحداث والأعمال كما عاشوها بأنفسهم ورأوها بأعينهم.
ويجب أن نضع في الاعتبار، كما بينا في بداية هذا الفصل، الطرق التي كانت في التعليم الشفوي وأساليب الحفظ وتقوية الذاكرة والتي كانت سائدة بينهم،كما بينت الدراسات.
كما يجب أن نضع في الاعتبار أيضًا وجود المذكرات والملحوظات أو الوثائق المكتوبة التي أشار إليها القديس لوقا في افتتاحية الإنجيل الثالث "لأن كثيرًا من الناس أخذوا يدونون رواية الأحداث التي جرت بيننا، كما نقلها (سلمها) إلينا الذين كانوا من البدء شهود عيان للكلمة"، وهذا ما برهنت عليه الدراسات أيضًا. ولا يجب أن ننسى أبدًا أن كتاب الإنجيل سواء في اعتمادهم على ما رسخ في التقليد الشفوي أو في اعتمادهم على الوثائق المكتوبة، فقد كانوا في كل الأحوال هم شهود العيان الذين دونوا ما سمعوه بآذانهم وما شاهدوه بأعينهم وما عاشوه بأنفسهم.
3- وهناك اعتبار هام للغاية ويجب أن يوضع فوق كل اعتبار وهو أن التلاميذ عامة والإنجيليين خاصة كانوا يؤمنون أن المسيح هو كلمة الله النازل من السماء وكلامه هو كلام الله، ولم يكن إيمانهم مبنى على مجرد السمع من الآخرين، أو أن إيمانهم قد نقل إليهم من الآباء بصورة تقليدية، وإنما كان إيمانهم مبنى على الواقع المحسوس فقد رأوا المسيح وسمعوه وعاشوا معه وعاينوا مجده، أو كما يقول القديس بطرس لأننا لم نتبع خرافات مُصنعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته" (2بط 16:1)، وبالتالي فقد كان كلامه مقدسًا وله قيمة قدسية لا حد لها ولا يمكن للذاكرة أن تنساه لأنهم سمعوا كلامه من فمه الإلهي مباشرة. وكان إيمانهم محسوس أيضًا في ذواتهم فقد كان الرب يوحى إليهم ويقودهم ويعمل آيات وقوات ومعجزات على أيديهم وبواسطتهم.
4- والحقيقة الرابعة هي عمل الروح القدس سواء في الكرازة أو التدوين، هذه الحقيقة التي يجب أن لا يغفلها أحد أبدًا عند مناقشة تدوين الإنجيل ومناقشة الاتفاق والتميز في الأناجيل الثلاثة الأولى. وقد كان وعد السيد واضحًا في أن الروح القدس سيقود الرسل ويرشدهم ويعلمهم ويذكرهم بكل ما قاله لهم سواء في التسليم الرسولي أو عند تدوين الإنجيل المكتوب، وقد كان الرسل تحت قيادة وسيطرة الروح القدس في الكرازة وكانوا كذلك عند تدوين الإنجيل، وفى كل الأحوال فقد كانوا هم رجال الروح القدس وحفظة الإنجيل الشفوي وحفظة الإنجيل المكتوب أيضا، ولا يمكن أبدًا أن نصف الحالة الروحية والنفسية التي كان عليها هؤلاء الرسل الذين حل الروح القدس عليهم وسكن فيهم وتكلم على لسانهم، كما يقول داود النبي "روح الرب تكلم بي وكلمته على لساني" (2صم 2:23)، وكما يقول بولس الرسول أننا، الرسل، لم نتكلم "بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس" (1بط 12:1). ولذا فيمكن للنقاد والعلماء أن يلقوا الضوء على الظروف والأحوال التاريخية ولكن لا يمكن لهم أبدًا أن يدركوا الحالة الروحية التي كان عليها الرسل ولا أن يدركوا مغزاها. فقد ساعد الروح القدس الرسل على تذكر كل ما قاله وعمله السيد المسيح كما قادهم وأرشدهم وأوحى لهم سواء في الكرازة والتسليم الرسولي أو عند تدوين الإنجيل أو عند كتابة الرسائل وبقية أسفار العهد الجديد، وقد أعانهم على الاختيار من الكم الهائل من الأعمال والأقوال التي عملها وعلمها السيد سواء مما حفظوه شفويًا أو مما سبق وسجلوه في مذكرات أو ملحوظات صغيرة. وبرغم إسهام الإنجيليين الشخصي وميلهم الروحي واللاهوتي ونوعية الناس الذين كتب إليهم كل واحد منهم فقد كانوا خاضعين تمامًا لتوجيه وقيادة وإرشاد ووحي الروح القدس، فقد تكلم ودون "أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 21:1)، "كل الكتاب هو موحى به من الله" (2تى 16:3).
5- والحقيقة الخامسة هي أن ما دون وسجل وكتب في الإنجيل (كل أسفار العهد الجديد) هو ما عمله وعلمه السيد المسيح، الإله المتجسد، كلمة الله النازل من السماء، وبالتالي فكلامه هو كلام الله وعمله هو عمل الله، وهو في ذاته شخص فريد وحياته فريدة وأعماله فريدة وأقواله فريدة وعلى نفس المقياس فإنجيله فريد، لأنه يخص شخص فريد، ولا مثيل له بين الأدب عامة وبين الأدب اليهودي والأدب اليوناني خاصة، ولا يمكن أن يخضع لمقاييسهم وأسلوب نقدهم بالمرة، المسيح آتى من فوق، وكما يقول يوحنا المعمدان "الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع. والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع" (يو 31:3). وإنجيله أيضًا فوق الجميع، فكما أنه هو فريد ومن فوق لذا فسجلات حياته وأقواله وأعماله فريدة وفوق الجميع ولا يمكن مساواتها بالأدب البشرى الأرضي.
6- الحقيقة السادسة التي لا يجب أن تغيب عن بالنا أبدًا هي أن الإنجيل المكتوب بأوجهه الأربعة قد قبلت بعد تدوينها مباشرة، منذ اللحظة الأولى وانتشرت في كل الكنائس باعتبارها سجلات حياة وأقوال وأعمال السيد المسيح، والتي كان المؤمنون يحفظون محتواها شفويًا، وباعتبارها أيضًا كلمة الله الموحَى بها وقد دونها وكتبها رجال الروح القدس، رجال الله القديسون بوحي الروح القدس. وقد قبلوها واستلموها من أيدي كتابها الرسل الإنجيليين مباشرة، ولم يشكوا لحظة واحدة في وحيها أو في مصداقيتها، فقد حفظوها شفويًا وتسلموها شفويًا من رسل المسيح ثم استلموها مكتوبة أيضًا من نفس رسل المسيح الذين كانوا في وسطهم وعاشوا بينهم وشاهدوا المعجزات التي صنعها الله على أيديهم، وكان من المستحيل ألا يصدقوهم. ولذا فقد قبلت الأناجيل فور تدوينها ونشرها من أيدي الرسل شهود العيان الموحى إليهم، رجال المسيح ابن الله ورجال الروح القدس الذين قدسهم وحفظهم الآب. وكانوا بحق "رجال الله القديسون".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/78cg2v7