دارت حول يهوذا العديد من الأفكار والنظريات عبر التاريخ بين من يقول بهلاكه الأبدي حسب تحذير الرب يسوع له، ومن يبرئه، ومن يقول بغفران المسيح له كما غفر لصالبيه ولبطرس الذي أنكره، وبين من قال أنه فعل ذلك خدمة للمسيح.. الخ ونلخص هذه النظريات بحسب ما وردت في عدة دوائر معارف وقواميس كتابية، وخاصة دائرة المعارف الكتابية التي لخصت ما جاء في كل هذه الموسوعات:
(1) انضمامه للرسل ليسلم المسيح: دار حوار طويل وجدل كثير، ليس حول روايات الأناجيل عن يهوذا فحسب، بل وأيضًا، حول شخصيته والمشاكل المتعلقة بها. فكون "يهوذا" مُسَلِّم يسوع واحدًا من الاثني عشر المختارين، قد أعطى لأعداء المسيحية فرصة لمهاجمتها منذ العصور الأولى كما ذكر أوريجانوس. كما أن صعوبة الوصول إلى حل حاسم، قد أدى بالبعض إلى اعتبار يهوذا مجرد تجسيد للروح اليهودية. ولكن هذا الرأي، على أي حال، يقلل من القيمة التاريخية لكثير من الفصول الكتابية. وهناك نظريات مختلفة لتفسير الموضوع، مثل أن يهوذا انضم لجماعة الرسل بهدف محدد، هو تسليم يسوع. ويفسرون هدف هذا الاتجاه على وجهين، هدفهما السمو بشخصية يهوذا وإبرائه من تهمة دوافع الخيانة.
(أ) فيقول أحد الجانبين إن يهوذا كان وطنيًا غيورًا، ورأى في يسوع عدوًا لأمته وعقيدتها الأصيلة، ولذلك أسلمه من أجل صالح أمته، ولا يتفق هذا الرأي مع طرد رؤساء الكهنة ليهوذا (مت 27: 3 - 10).
(ب) أما الاتجاه الآخر فقد اعتبر يهوذا نفسه خادمًا أمينًا للمسيحية إذ أنه توجه إلى التسليم ليتعجل عمل المسيح ويدفعه إلى إظهار قوته المعجزية بدعوة ملائكة الله من السماء لمعونته (مت 26: 53). أما انتحاره فيرجع إلى يأسه، لفشل يسوع في تحقيق توقعاته. ولقد راقت هذه النظرية - في العصور القديمة - للغنوسيين القاينيين، كما سنبين في الفصول التالية، وفي العصر الحديث " لدى كوينسي والأسقف هويتلي، لكن العبارات التي استخدمها الرب يسوع المسيح وطريقة رفضه لتصرف يهوذا (يو17: 12) تجعل مثل هذا الرأي بلا قيمة.
(2) سبق تعيين يهوذا ليكون مسلمه: هناك رأي آخر يقول أن يهوذا سبق تعيينه ليكون مسلمه، وأن الرب يسوع كان عالمًا منذ البداية بأنه سيموت بالصليب، وقد اختار يهوذا لأنه عرف أنه هو الذي سيسلمه، وهكذا تتحقق المقاصد الإلهية (مت 26: 54). والذين يتمسكون بهذا الرأي يبنونه على علم يسوع بكل شيء كما في يوحنا (2: 24) لأن الرب يسوع " كان يعرف الجميع". وكذلك يوحنا (6: 64) " لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه "، كذلك يوحنا (18: 4) (انظر نص السفر هنا في موقع الأنبا تكلا) " وهو عالم بكل ما يأتي عليه". ولكننا إذا أخذنا هذه النصوص حرفيًا، يكون معنى هذا تطبيق عقيدة قضاء الله السابق بطريقة متزمتة أكثر مما يجب، وبهذا يكون يهوذا مجرد آلة أو وسيلة في يد قوة أعلى منه، وهو ما يجعل مناشدة الرب يسوع المسيح وتحذيراته له بلا معنى، كما أنه ينفي وجود المسئولية الشخصية والإحساس بالذنب، وهو ما كان يريد الرب أن يثيره وييقظه في قلوب سامعيه. ولقد كتب يوحنا الرسول بعد وقوع الأحداث، ولكننا كما رأينا، كان في كلمات ربنا وضوح متزايد في التنبؤ بتسليمه. إن علم ربنا يسوع المسيح بكل شيء كان أعظم من مجرد معرفة متنبئ يدعي استطلاع المستقبل. لقد كان علمه بكل شيء هو علم من عرف، من ناحية، مقاصد أبيه السرمدي من نحو الناس، ومن الناحية الأخرى، كان ينفذ إلى أعمق أعماق الشخصية البشرية ويرى ما فيها من مشاعر ودوافع وميول خفية.
(3) تسليمه للرب يسوع المسيح كان نتيجة تطور تدريجي: ونظرًا لأن الإنسان حر الإرادة فأننا نرى أن تسليم يهوذا للرب يسوع، كان نتيجة تطور تدريجي داخل نفسه، يبدو أكثر واقعية. فقد كان يهوذا الوحيد بين التلاميذ من المناطق الجنوبية، ولذلك فاختلافه في المزاج والنظرة الاجتماعية، بالإضافة إلى ما يمكن أن تؤدي إليه من اتجاهات دنيئة، قد يفسر جزئيًا عدم وجود التعاطف الصادق بين يهوذا وبقية التلاميذ، وإن كان هذا لا يبرر مطلقًا خيانته التي حدثت فيما بعد. لقد كانت له كفاءة خاصة في إدارة الأعمال، ولذلك اختير أمينًا للصندوق، ولكن قلبه لم يكن منذ البداية نقيًا، فقد كان يقوم بمسئوليته بدون أمانة، وامتد سرطان الجشع هذا من الأمور المادية إلى الأمور الروحية، فلم تحدث لأحد من التلاميذ خيبة أمل نتيجة انتهاء الحلم بمملكة أرضية ذات مجد وبهاء مثلما حدث ليهوذا. ولم تكن ربط المحبة التي جذب بها يسوع قلوب التلاميذ الآخرين، وكذلك التعاليم التي بها سما بأرواحهم فوق الأمور الأرضية، لم تكن إلا قيودًا أثارت أنانية يهوذا. ولأنه كان مكبلًا بأطماعه، ولخيبة أماله، ثارت فيه الغيرة والحقد والكراهية، ولم تكن كراهية إنسان قوي بل كراهية إنسان ضعيف أساسًا، فبدلًا من أن ينفصل صراحة عن سيده، بقى في الظاهر واحدًا من أتباعه، كما أن تفكيره المستمر في توبيخات سيده، جعل الباب مفتوحًا أمام الشيطان " فدخله الشيطان "، فهو إذًا كان قد علم الصلاح ولكنه لم يفعله (يو13: 17). كما كان أيضًا ضعيفًا في تنفيذ خططه الدنيئة، لقد حمله هذا التردد - أكثر من حقده الشيطاني الخبيث - على أن ينتظر في العليه حتى اللحظة الأخيرة، مما دفع يسوع لأن يقول له: "ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة " (يو13: 27). وبهذا التفكير الضعيف حاول أن يلقي باللوم على رؤساء الكهنة والشيوخ (مت27: 3و4)، لقد حاول أن يبرئ نفسه ليس أمام يسوع البار الذي أسلمه، بل أمام شركائه في الجريمة. ولأن العالم الذي - بأنانيته - اتخذه إلهًا له، تخلى عنه أخيرًا، مضى وخنق نفسه. إنها النهاية التعيسة لإنسان اعتنق بكل طاقاته روح المساومة والأطماع الذاتية، فلم يزن النتائج القاتلة التي قادته إليها تلك الدوافع الرديئة. ومن ثم يقول القديس أغسطينوس:
" أنه لا يستحق الرحمة ، ولذا لم يشرق في قلبه نور ليجعله يسرع ليطلب العفو من الذي خانه".
ومن ثم فقد كان لابد أن يتحقق فيه ما سبق أن أعلنه له الرب يسوع المسيح: " أن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد " (مت26: 22-24).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/4pw498c