سنتناول في هذا البحث القانون الروماني الخاص، والقانون الروماني الجنائي، أما تطور مواد الدستور فقد سبق الحديث عنه في البحث المختص "برومية".
وسنقتصر في مناقشة القانون الخاص على تاريخه الواضح دون محاولة معالجة جوهر القانون ذاته. أما عند معالجة القانون الجنائي فسنوجه اهتمامنا أساسًا إلى الضمانات الدستورية فيه والتي كان المقصود منها حماية المواطن الروماني من العقوبات التعسفية الظالمة، باعتبار هذه الضمانات من أهم الامتيازات التي كان يتمتع بها المواطن الروماني.
كان المصدر الأساسي للتشريع الروماني هو الأسرة كوحدة اجتماعية. وكانت حقوق الملكية "للأسرة الأبوية" - كمثال لهذه الوحدة الأولى من التنظيم - هي عنصر أساسي في التشريع الخاص. كما اقتصر القضاء الجنائي للدولة على سلطان الحياة والموت، وهو ما كان يمارسه رأس العائلة على الذين هم تحت سلطانه، والتي كانوا من خلالها يحاكمون على تعدياتهم أمام مجلس القضاء العائلي.
مما هو جدير بالاهتمام أيضًا أن نذكر تلك الحقيقة وهي أنه قبل الفترة المبكرة في تاريخ القانون الروماني، كان الكهنة يقضون في العدد الكبير من الجرائم التي تصدر من مختلف الطبقات، مثل تدنيس المقدسات أو السرقة. وكان يعاقب على ذلك تبعًا للقوانين الإلهية بالموت كذبيحة للإله الذي أُهين. أما عقوبة الظلم والجور فكان أمرها متروكًا للتشريعات الخاصة وقانون "الاثني عشر لوحا" الذي يعاقب فيه الشخص المتهم بقطع قمح شخص آخر ليلًا، بأن "يشنق" ذبيحة للإله "سيرس" (Ceros) ، ولم يكن ذلك إلا إحياء للتشريع الديني القديم. كما أن حق قتل اللص الذي يسرق ليلًا، أو الزاني الذي يمسك في ذات الفعل، يمكن اعتباره أيضًا إحياء لعملية الانتقام الشخصي في الشعوب البدائية. وقد حل المفهوم الجديد للجريمة، باعتبارها تعديًا على سلامة الدولة، تدريجيًا محل المفهوم القديم. ونشأ القانون الخاص عندما أبطل المجتمع الفوضى الناجمة عن محاولة كل إنسان إقامة العدالة بنفسه، فأمر القانون الخاص للأطراف المتنازعة أن تقدم دعواها أمام الحاكم أو القاضي.
أولًا - القانون الروماني الخاص:
(1) الألواح الاثنا عشر:
كان القانون الروماني الخاص - في باديء الأمر - عبارة عن مجموعة من الأعراف غير المكتوبة المسلمة بالتقليد في العائلات ذات النظام الأبوي. وقد أدت حاجة الشعب الروماني لنشر هذا القانون إلى كتابة هذه الألواح الاثني عشر الشهيرة (في449 ق.م.) والتي اعتبرتها السلطات بعد ذلك مصدرًا لكل قانون خاص وعام ، بالرغم من أن هذه الألواح لم تكن قوانين علمية أو شاملة لكل التشريعات القانونية في ذلك العهد، وقد تم توسيع هذا النظام البدائي للقانون، ليواجه احتياجات عامة الشعب المتزايدة، لتفسيرها بما يحقق العدالة والمساواة.
(2) الاجراء المدني:
كان القاضي (praetor) يستمع إلى دعاوي المتقاضين، ويجهز صورة عامة لموضوع النزاع، ويحيلها إلى المحلف الذي يدرسها ويقرر ما يراه في القضية. ولم يكن يحصل القاضي أو المحلف على أي تدريب قانوني خاص. وكان للمحكمة حق اللجوء إلى الثقاة في القانون طلبًا للاستنارة القانونية، وكان لرأي أولئك العلماء قيمة كبيرة في التشريعات القانونية في ذلك العصر . وهكذا تجمعت مجموعة من الأحكام والقواعد، لم تكن قد خطرت على بال الذين كتبوا "الألواح الاثني عشر".
(3) قانون القضاء (Jus honorarium):
اشتق هذا الاسم من الظروف التي كانت تحيط بسلطة القضاة. ولأن هذا القانون قد تكوَّن من أوامر صدرت لحل الخلافات في القضايا التي لم يكن القانون القائم يضع لها حلًا كافيًا، كان لهذه الأوامر الصادرة من القاضي قوتها القانونية خلال فترة توليه القضاء فقط. أما الأحكام التي ثبتت صلاحيتها بالتجربة فترة كافية، فكان القضاة المتعاقبون يعيدون إصدارها عامًا بعد عام، حتى شكلت في وقت ما كمية ضخمة متناسقة من الأحكام الخاضعة للتجديد السنوي. وبهذا أمكن للقانون الروماني أن يحتفظ بتوازنه بين المرونة والجمود.
(4) القاضي الجوَّال:
بعد إنشاء وظيفة القاضي المتجول (في 241 ق.م.) الذي كانت مهمته أن يفصل في القضايا التي يكون أحد طرفيها أو كلاهما أجنبيًا، صدرت سلسلة مشابهة من المراسيم ممن اختيروا لهذه المحكمة، وصارت المراسيم السنوية للقاضي الجوّال، وسيلة هامة لتوسيع القانون الروماني، لأن الأجانب في هذه القضايا كانت غالبيتهم من اليونانيين من جنوبي إيطاليا، حتى صارت مباديء القانون -التي أصبحت بالتدريج أساسًا للاجراءات القضائية- تجسيدًا لروح القانون اليوناني.
(5) الأوامر الإمبراطورية:
أبطل التشريع المباشر المصادر الأخرى للقانون في الإمبراطورية الرومانية، وكان هذا التشريع يصدر أحيانًا على شكل لوائح يصدق عليها الشعب، فيصدر على شكل قوانين من مجلس الشيوخ أو أوامر إمبراطورية. ويمكن تقسيم الأوامر الإمبراطورية التي حلت محل المصادر الأخرى إلى "مراسيم" (edicta) يصدرها الإمبراطور على مثال الأوامر التي كان يصدرها القضاة الجمهوريون، و"فتاوى" (decreta) أو قرارات من المحكمة الإمبراطورية، كان لها نفس قوة القرارات السابقة، و"أجوبة خطية" (rescripta) ، وهي أجوبة الإمبراطور على طلبات تفسير القانون. وكانت كل صور التشريع الإمبراطوري، تعرف باسم "الدساتير" (Constitutiones).
(6) العصر الذهبي للمؤلفات القانونية:
تم تكليف "سلفيوس يوليانوس" (Salvius Julianus) - في القرن الثاني - بوضع المرسوم القضائي في صورة محددة. وقد أصبحت تشريعات "غايس" (Institutes of Gaius) - التي ظهرت في نفس الوقت تقريبًا - نموذجًا للمراجع التشريعية التي ظهرت فيما بعد، وقد اكتشفها "نيبور" (Niebuhr) في 1816م. في "فيرونا" (Verona) في إيطاليا، مكتوبة على رقوق سبق الكتابة عليها قبل ذلك. كان ذلك العصر الذهبي للمؤلفات القانونية، حيث ظهرت مجموعات متتابعة من مفكرين قادرين أمثال: "بابينيان" (Papinian) ، "بولس" (Paulus) ، "أولبيان" (Ulpian) ، "مودستينوس" (Modestinus) و"غايس" (Gaius) ، الذين عكفوا على تطبيق طرق البحث العلمي على الكميات المتناثرة من المواد القانونية، وتطوير القانون الروماني ووضع أسس علم التشريع.
(7) جمع القوانين في الإمبراطورية في عصرها الأخير:
تميزت فترة الإمبراطورية المتأخرة بمحاولات عديدة لجمع القوانين، كللت بالنجاح في عهد الإمبراطور "جستنيان" (Justinian) . وقد نشر ما انتهى إليه مجلس القانونيين البارزين الذين أوكل إليهم هذا العمل، في ثلاثة أجزاء:
1. "القانون" (Code) ويضم مختارات من المراسيم الإمبراطورية في عهد "هارديان" في اثني عشر كتابًا.
2. "الخلاصة" أو "موجز مجموعة القوانين" التي تتكون من مقتطفات من المؤلفات القانونية في خمسين كتابًا.
3. "المبادئ" (Institutes) وهي مرجع في أربعة كتب.
وقد وصل إلينا "القانون الروماني" - بصفة أساسية - في هذا الشكل. وقد أصبح هذا القانون - على حد تعبير "برايس" (Bryce) ، أحد الثقاة - أغنى مصدر، بعد الديانة المسيحية، للقواعد التي تحكم السلوك الفعلي في كل غربي أوربا.
ثانيًا - القانون الجنائي الروماني:
(I) القضاء في عصر الملكية:
كان القضاء الجنائي في عصر الملكية - فيما يتعلق بالاختصاصات الادارية - من حق الملك، وكان الملك يفوض في ذلك موظفين بألقاب متعددة تشير إلى الجرائم التي تقدم لذلك القضاء، ثم انتقل هذا الامتياز الملكي إلى القضاة الجمهوريين، وكان ذلك يتضمن - إلى جانب توقيع العقاب على الجرائم - سلطة اجبار الناس على طاعة قراراتهم عن طريق العقوبات المختلفة.
(II) حق الاستئناف:
لقد نشأ حق الشعب في تقديم استئناف أمام السلطة القضائية العليا، في القضايا التي تتعلق بالحياة أو بالمكانة المدنية للمواطنين، باصدار قانون، يقال إن الذي اقترحه كان أحد القناصل الأوائل (في 509 ق.م) والذي ضمن حق المواطن في الاستئناف أمام مجلس القضاء الأعلى ضد تنفيذ عقوبة الاعدام أو أي عقوبة صارمة أخرى ينطق بها القاضي. وقد تأيد هذا الحق في الاستئناف واتسع بالتشريعات المتتالية في 449 ق.م.، وفي 299 ق.م.
(1) العقوبات: كان الحكم بالاعدام يكاد يكون موقوفًا في العصور الجمهورية، وذلك بالسماح للمتهم أن يختار بين الاعدام أو النفي الاختياري، وقلما كان الرومان يستخدمون السجن كعقوبة، كما كان فرض الغرامات - فوق حد معين - خاضعًا لحق الاستئناف. وفي البداية كان للدكتاتور سلطة مطلقة على حياة المواطنين، ولكن أصبحت هذه السلطة مقيدة - ربما في 300ق.م. باخضاعها لحق الاستئناف.
(2) القانون البورسياني (The Porcian Law) - كان حق الشعب في الاستئناف ساريًا داخل المدينة أو إلى مسافة محدودة حولها، ورغم أنه لم يكن يتجاوز هذا الحد، إلا أن حمايته كانت مكفولة لكل المواطنين الرومانيين، أينما يكونون بفضل "القانون البورسياني" (لا يعرف تاريخ صدوره) الذي أعطاهم حق المحاكمة في روما، وبهذا نشأ تمييز واضح في القضايا الجنائية في الولايات، حيث كان يرسل المواطنون الرومانيون إلى روما لمحاكمتهم في القضايا الخطيرة، بينما كان يخضع الآخرون للقضاء الجنائي أمام السلطات المحلية، إلا إذا استدعاهم الحاكم للمثول أمامه شخصيًا للمحاكمة.
(3) القضاء الشعبي يتقلص: بدأ القضاء الشعبي في القضايا الجنائية في التقلص تدريجيًا، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. بإقامة محاكم دائمة بفضل القوانين التي بها أصبح للشعب الحق في تفويض سلطتهم للحكم في نوعيات معينة من القضايا. وقد منحت أولى هذه المحاكم في 149ق.م. سلطة البت في قضايا الابتزاز الموجهة ضد حكام المقاطعات. وكان التعويض هو الهدف الأساسي لأصحاب الدعاوى في هذه القضايا، ولعله لهذا السبب تشابهت إجراءات المحاكمة في هذه المحاكم مع الإجراءات في القضايا المدنية. وكان يرأس هذه المحكمة أحد القضاة مع عدد من المحلفين بعد أن كان المحلف واحدًا. وقد أعاد "سولا" (Sulla) ترتيب هذه المحاكم وجعلها سبع محاكم تختص كل منها بنوع معين من القضايا: الابتزاز، الخيانة العظمى، الاختلاس، إفساد عمليات الانتخاب، القتل، النصب، والاغتصاب.
(4) المحلفون: كان المحلفون يختارون أصلًا من أعضاء المجلس. وقدم "جراكوس" (C. Gracchus) قانونًا بنقل حق العضوية في هيئة المحلفين إلى طبقة الفرسان، وقد منح "سولا" عضوية مجلس الشيوخ لنحو ثلثمائة من طبقة الفرسان، وهكذا نقل إليها كل سلطة المحلفين، إلا أن قانونًا صدر في 70ق.م. أعطى تمثيلًا متكافئًا في المحاكم لكل طبقات الشعب الثلاث، فكان هناك نحو 1080 اسمًا في قائمة المحلفين، يُختار منهم 75 شخصًا في كل قضية. وقد ألغى يوليوس قيصر اختيار المحلفين من الشعب. ولكن أعاد لهم أوغسطس قيصر اختيار المحلفين من الشعب، ولكن أعاد لهم أوغسطس قيصر هذا الحق، مع قصره على القضايا المدنية قليلة الأهمية، كما أعفى أعضاء مجلس الشيوخ من العمل كمحلفين. وتقلصت أهمية نظام المحاكم الجنائية في ظل الإمبراطورية حتى اختفت تمامًا في أواخر القرن الثاني وحل محلها مجلس الشيوخ برئاسة قنصل، ثم بعد ذلك برئاسة مندوب بتفويض رسمي من الإمبراطور. وفي الحالة الأولى كان وضع أعضاء مجلس الشيوخ بالنسبة للقنصل الرئيس، يكاد يكون مشابهًا لوضع المحلفين بالنسبة للقاضي في المحاكم الدائمة.
(5) اختفاء المحاكم الجنائية: إلا أن الإمبراطور والمندوبين الإمبراطوريين أصبحوا يصدرون الأحكام بدون الاستعانة بالمحلفين، ولذلك فمنذ القرن الثالث، عندما بدأت المنافسة القضائية من جانب مجلس الشيوخ تختفي تدريجيًا، توقفت المحاكمة بواسطة المحلفين. والتجديد الهام الذي حدث في النظام القضائي في الإمبراطورية، كان مبدأ استئناف قرار المحاكم الدنيا إلى المحاكم العليا، وأصبح للأباطرة -ثم للبعض من مندوبيهم- حق النظر في قضايا الاستئناف الصادرة من القضاة الرومانيين ومن حكم الولايات.
(6) حق المحاكمة في روما: في بداية عهد الإمبراطورية، كان على حكام المقاطعات -بشكل عام- أن يلتزموا بالاستجابة لطلب المواطنين الرومانيين استخدام امتياز المحاكمة في روما، وإن كان يبدو أنه كانت هناك بعض الاستثناءات لهذه القاعدة، وقد أرسل ليسياس حاكم أورشليم، الرسول بولس -وهو سجين- إلى قيصرية عاصمة الولاية، حتى يقرر فيلكس ما يمكن عمله في تلك القضية حيث أن بولس كان مواطنًا رومانيًا (أع23: 27). وبعد ذلك بسنتين ، أصر بولس على استخدام امتيازه كروماني للمحاكمة أمام الإمبراطور في روما (أع25: 11، 12).
وكان المواطن الروماني - المرسل إلى روما - يمثل أمام مجلس الشيوخ أو أمام الإمبراطور ، إلا أنه كان من المعتاد أن تنظر مثل هذه الحالات أمام المحكمة الإمبراطورية التي حلت فعلًا -بعد ذلك- محل مجلس الشيوخ في هذا الاختصاص، وأصبحت صيغة الاستنئاف: "إلى قيصر أنا رافع دعواى" (أع25: 11).
ولما اتسع باب الحصول على الجنسية الرومانية في كل أرجائها، قلت قيمتها نسبيًا، ولابد أن يكون العديد من الامتيازات الخاصة -مثل حق المحاكمة في روما- والتي كانوا يتمسكون بها في بدء عصر الإمبراطورية، قد ضاع تدريجيًا، وأصبح من المعتاد أن يخِّول الإمبراطور سلطته - في إصدار الأحكام النهائية على حياة المواطنين - لحكام الأقاليم. وأخيرًا بعد أن منح الإمبراطور "كاراكلا" الجنسية الرومانية لكل سكان الإمبراطورية، ظل امتياز طلب المحاكمة في روما من حق طبقات معينة فقط مثل أعضاء مجلس الشيوخ وقادة الجيش والضباط من طبقة الفرسان في الجيش وقادة المئات.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/tc755vk