أولًا: معنى الكلمة واستخدامها:
تستخدم كلمة "حسب" ومشتقاتها في الكتاب المقدس بمعنى أن تنسب إلى شخص ما شيئًا ما، أو أن تعتبره مسئولًا عن شيء ما، أو أن تضع لحسابه شيئًا. وقد يحدث هذا بصورة شرعية، فيصبح هذا الحسبان أساس المكافأة أو العقاب. والفعل في العبرية هو "حسب" [نفس الفعل في العربية لفظًا ومعنى - انظر (لا 18:7؛ 4:17؛ 31:25؛ 2 صم 2:4؛ 19:19)].
أما الفعل في اليونانية -في العهد الجديد- فهو "لوجيزوماي" logizomai - (انظر رومية 26:2؛ 3:4 - 6، 8 - 11، 22 - 24؛ 2كو 19:5؛ غل 6:3؛ يع 23:2).
وكل هذه الشواهد توضح فكرة الحسبان أو القيد لحساب شخص ما، سواء كان ذلك من إنسان (1صم 15:22) أو من الله (مز 2:32)، وسواء كان موضوع الحسبان عملًا صالحًا يكافأ عليه (مز 30:106، 31) أو عملًا شريرًا يعاقب عليه (لا 4:17). وسواء كان الحسبان لشيء قد تم فعلًا من جانب من حُسب له العمل الصالح كما في حالة (فينحاس) (مز 30:106)، أو كان الحسبان لشيء لم يكن من حٌسب عليه مسئولًا عنه من قبل، كما في حالة طلب الرسول بولس من فليمون أن يحسب عليه دين أنسيمس (فل 18).
والحسبان لا يغير الحالة الداخلية ولا طبيعة الشخص الذي يٌحسب له الشيء، فعندما نقول مثلًا: "إننا نحسب أن دوافع شخص ما، هي دوافع سيئة، لا نعني أننا نجعل من هذا الشخص شخصًا سيئًا. وعبارة "يٌحسب له خطية" لا تعني أن يٌجعل الشخص شخصًا سيئًا، فعندما يقال عن الله إنه "يحسب خطية" لإنسان ما فالمعنى هو أن الله يحسب ذلك الإنسان مخطئًا، ومن ثم فهو مذنب مستحق العقاب. وعلى هذا المنوال يكون معنى عدم حسبان الخطية، هو - بكل جلاء - عدم وضعها أساسًا للعقاب (مز 2:32). وبالمثل عندما يقال عن الله أنه "يحسب برًا" لشخص ما، فمعنى ذلك أنه يحسب ذلك الإنسان بارًا شرعًا ومستحقًا لجميع مكافآت الشخص البار (رو 6:4-11).
ثانيًا: الاستخدام الثلاثي للكلمة لاهوتيًا:
ثمة ثلاثة أعمال للحسبان يوليها الكتاب المقدس اهتمامًا خاصًا، وتتضمنها التعاليم الكتابية عن "الخطية الأصلية" و"الكفارة" و"التبرير" وإن لم يكن يعبر عنها عادة بالفعلين "حسب" العبري و"لوجيزوماي" اليوناني، ولكن لما تتضمنه الكلمة من معنى شرعي أو قانوني - وربما لاستخدامها في الفولجاتا اليونانية في (رومية 8:4) - فإنها تستخدم لاهوتيًا بمعنى مثلث للدلالة على أعمال الله القضائية التي بموجبها يحسب ذنب خطية آدم على ذريته، كما تحسب خطايا المؤمنين بالمسيح على المسيح، كما يحسب بر المسيح لشعبه. فالحسبان هو هو تمامًا في هذه الحالات الثلاث. ولا يعني هذا أن خطية آدم هي خطية ذريته أنفسهم، لكنه يعني أنها حسبت عليهم، فهم شركاء في ذنبها وعقابها، ولكن هذا لا يعني أن المسيح نفسه شريك في خطايا الناس، ولكن معناه أن ذنب خطية شعبه، حٌسب عليه، ولذلك تحمل هو القصاص. كما أن هذا لا يعني أن شعب المسيح أصبح مقدسًا في ذاته أو بارًا داخليًا باحتساب بر المسيح لهم، ولكنه يعني أن بر المسيح قد قيد لحسباهم، وعليه أصبحوا مستحقين لكل مكافآت ذلك البر الكامل.
وقد برزت هذه التعاليم في معتقدات الكنيسة المسيحية منذ القرون المسيحية الأولى..
ثالثًا: الأساس الكتابي لهذه التعاليم:
(1) احتساب خطية آدم على ذريته: تتضمن قصة السقوط، الواردة في الإصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين، تعليم احتساب آدم على ذريته بالارتباط بالتاريخ اللاحق للجنس البشري كما هو مدون في سفر التكوين وفي سائر أسفار العهد القديم.
ويعتبر كثيرون من المفسرين -القُدامى والمعاصرين- هذه القصة مجرد صورة مجازية أو رمزية، في إطار تاريخي، عن حقيقة نفسية -بمعنى أنها شيء يحدث داخل كل شخص- أو عن بعض حقائق عامة تتعلق بالخطية. واعتبرها بعض المفسرين - تابعين في ذلك "كانت" - وصفًا لمسيرة الجنس البشري في المعرفة الثقافية أو الأخلاقية. واعتبرها آخرون - كما سبق القول - تصويرًا مجازيًا لحقائق تتعلق بالخطية، كما اعتبرها آخرون أيضًا حقائق تاريخية. وهذه النظرة الأخيرة هي التي تتوافق مع القصة نفسها، فالكاتب يرويها بكل وضوح كقصة تاريخية، كما اعتبرها كذلك كُتاب العهد الجديد. علاوة على ذلك فإنها لم تكتب لتوضيح مسيرة الجنس البشري بل لبيان دخول الخطية إلى العالم وارتباط الخطية بمصائب معينة، ويتضح ذلك من الشرور التي حاقت بآدم كعقاب لعصيانه، كما أن التاريخ اللاحق بين أن ذريته قد تعرضت لنفس هذه الشرور. ورغم أنه من الجلي أن تهديد آدم بالعقاب في حالة عصيانه كان موجهًا إليه وحده، وأن القصاص الموعود سيحل به وبحواء وحدهما (تك 16:3-19)، لكن الثابت من التاريخ اللاحق للجنس البشري، أنه اشترك فعلًا في العقوبات التي أوقعت على آدم نتيجة خطيته. وهذا يعني أن ما جاء في (سفر التكوين 16:2، 17) يتضمن شروط العهد الذي كان فيه آدم نائبًا عن الجنس البشري. وعليه فإن كان للجنس البشري نصيب في عقاب خطية آدم، فلابد أنه شريك أيضًا في ذنبه أو الالتزام الشرعي بتحمل العقاب. وهذا هو ما تعنيه الكنيسة المسيحية بالقول: إن ذنب خطية آدم قد حسب على ذريته. وهذا يتفق مع كيفية تعامل الله مع الإنسان في مناسبات أخرى مسجلة في الكتاب المقدس (انظر تك 15:19؛ خر 5:2؛ تث 37:1؛ 26:3). وتأكيد حزقيال وإرميا لمبدأ المسئولية الشخصية، إنما يتضمن الاعتراف بالمسئولية النيابية (حز 2:18، 4؛ 12:23؛ إرميا 29:31).
ولم يربط كتاب أسفار العهد القديم بين عمومية الخطية والموت وبين سقوط آدم، ولكن الرسول بولس قد ربط بينهما في رسالته الأولى إلى الكنيسة في كورونثوس (1 كو 21:15، 22) حيث يذكر أن سبب موت جميع البشر إنما هو في الإنسان آدم، كما أن سبب القيامة من الأموات إنما هو في الإنسان يسوع المسيح. وعليه فإن موت جميع البشر ليس بسبب خطاياهم الشخصية بل بسبب عصيان آدم. والأساس الذي عليه حدث هذا، هو ما يقرره الرسول بولس في رسالته إلى الكنيسة في (رومية 12:5-21) حيث تناول موضوع علاقة آدم بالجنس البشري ليوضح تعليمه عن تبرير الخطاة على أساس البر الذي ليس لهم في ذواتهم. ولكي يشرح ذلك استند إلى الحق المعروف جيدًا لقرائه، ألا وهو أن كل البشر تحت الدينونة بسبب خطية آدم. ويعقد مقارنة بين آدم والمسيح. والنقطة الأساسية في المقارنة هي الخطية المحتسبة والبر المحتسب. ولا يقصد الرسول بولس من العدد الثاني عشر (رو 5: 12)، مجرد تأكيد أنه كما أن آدم أخطأ، وبالتالي مات، فالناس أيضًا يخطئون ومن ثم يموتون، ولا يمكن أن يكون قصده أن يقول أن الله، كما وضع قاعدة سابقة في حالة آدم، أن الموت يتبع الخطية، فهو يسير على نفس هذه القاعدة مع كل البشر إذ أخطأ الجميع، بل أن هدف الرسول بولس هو توضيح تعليمه عن كيفية عتق البشر من الخطية والموت، من خلال بيان كيف أن أصبحوا تحت الدينونة. فالفكر الأساسي في هذا الفصل هو أنه كما دين البشر بسبب احتساب ذنب خطية آدم عليهم، فإنهم كذلك يبررون بسبب احتساب بر المسيح لهم، فيقول بولس إنه بإنسان واحد دخلت الخطية والموت إلى العالم، وبإنسان واحد اجتاز الموت إلى جميع الناس لأن الجميع انطووا تحت ذنب خطية ذلك الإنسان الواحد (رو 5: 12). ولكي يثبت ذلك استشهد بحقيقة أن الموت كعقاب، قد ملك خلال فترة كان فيها الأساس الشرعي الوحيد الممكن لهذه الحقيقة، هو احتساب ذنب خطية ذلك الإنسان الواحد (رو 5: 13، 14). ومن ثم فهناك مقارنة دقيقة بين آدم والمسيح. فكما يدان الناس بسبب معصية آدم، فإنهم يبررون أيضًا بسبب طاعة المسيح (رو 5: 18، 19)، فالفكر الأساسي في هذا الفصل هو أن الخطية المحتسبة والبر المحتسب هما الأساس للدينونة وللتبرير.
(2) احتساب خطايا شعب المسيح عليه: لا يرد في الكتاب المقدس باللفظ احتساب خطايانا على المسيح، لكن هذا الحق ينضوي تحت العبارات التي تؤكد أن المسيح "حمل خطايانا"، و"الرب وضع عليه إثم جميعنا". ورغم أن التعبير "يحمل إثمًا أو خطية" قد يعني أحيانًا رفعها أو نزعها، لكنه غالبًا ما يستعمل في الكتاب المقدس عن الأشخاص المتهمين بالذنب، والمستحقين للعقاب بسبب خطيتهم الشخصية (لا 17:5؛ 18:7؛ 8:19؛ 9:22). ويتضح أن الفعل العبري "ناسا" له هذا المعنى باستخدامه بالتبادل مع الفعل "سَبَل" الذي يعني يحمل (كما في حمل الأثقال)، وهو الفعل المستخدم للدلالة على حمل عقاب الخطية (إش 11:53).
وفي نظام الذبائح في العهد القديم - والتي ترمز لذبيحة المسيح - يشير وضع الأيدي على رأس الذبيحة (لا 4:4) إلى أن الذبيحة تقوم مقام مقدمها وأن ذنبه ينتقل إليها، وتظهر هذه الفكرة بوضوح في حالة تيس المعز في يوم الكفارة العظيم (لا 21:16، 22). وعلى هذا فعندما يقال عن عبد الرب "وآثامهم هو يحملها" (إش 11:53)، أو إن "تأديب سلامنا عليه" (إش 5:53)، أو أن "الرب وضع عليه (حرفيًا: جعله يقع عليه) إثم جميعنا" (إش 6:53)، فالفكرة هنا هي العقاب النيابي أي احتساب ذنب خطايانا على المسيح.
وتشكل هذه الفكرة ذاتها أساس هذه التعبيرات عند استخدامها في العهد الجديد، فعندما أراد بطرس أن يبين أن المسيح كان مثالًا للصبر على الألم، أخذ فكرة إشعياء، وذكر تلك الحقيقة أن المسيح "حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة" (1بط 24:2)، وتبين القرينة أن بطرس كانت في فكره نبوة إشعياء (إش 53)، فهو لم يقصد أن يقول أن المسيح حمل خطايانا حتى إلى الصليب، بل إنه بموته على الصليب حمل عقاب خطايانا، حيث حسب عليه ذنبها. ويوضح كاتب الرسالة إلى العبرانيين نفس الفكرة جاعلًا التباين بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني هو حقيقة أنه أتى أولًا ليقدم نفسه ذبيحة خطية، إذ وٌضع عليه ذنب خطايا آخرين، بينما سيظهر في مجيئه الثاني بدون هذا الحمل، حمل الذنب المحتسب أو النيابي (عب 28:9). ويعبر الرسول بولس أيضًا عن نفس الفكرة بقوله إن المسيح "جٌعل خطية لأجلنا" (2كو 21:5)، وأنه "صار لعنة لأجلنا" (غل 13:3). ففي العبارة الأولى تظهر بوضوح فكرة النيابة، فالمسيح الذي لم يعرف خطية - كما تؤكد العبارة - قد جٌعل خطية لأجلنا، وأننا نحن الخطاة صرنا أبرارً فيه، فالرسول بولس يريد أن يقول أن المسيح وٌضع عليه عقاب خطيتنا، وإن ذنبنا حسب عليه، تمامًا بنفس الطريقة التي بها نصير نحن الخطاة، "بر الله فيه" أي باحتساب بره هو لنا. وتتضح نفس الفكرة في (غلاطية 13:3) حيث تعني عبارة أن المسيح "صار لعنة لأجلنا" أنه حمل اللعنة أو العقاب على الشريعة المكسورة. فالفكرة الأساسية في كل هذه الأقوال هي أن ذنب خطيتنا قد حُسب على المسيح.
(3) احتساب بر المسيح لشعبه: إن البر الذي على أساسه يبرر الله الفاجر -كما يكتب الرسول بولس- هو بر مشهود له في العهد القديم من الناموس والأنبياء (رومية 21:3). فلنوال البركة التي تأتي عن العلاقة الصحيحة مع الله، يلزم أن ننال الصفح، أي ألا تحسب علينا خطية، ويحدث ذلك عن طريق ستر الخطية أي التكفير عنها (مز 1:32، 2). وتبدو طبيعة هذا الستر أو الغطاء أي التكفير - عن طريق حمل قصاص الخطية نيابيًا - واضحة في الإصحاح الثالث والخمسين من إشعياء، كما أن العهد القديم يعلمنا أيضًا أن البر الذي يطلبه الله لا يمكن أن يوجد في بشر، فيقول المرنم: "إن كنت تراقب الآثام يا رب، يا سيد فمن يقف؟" (مز 3:130)، "لن يتبرر قدامك حي" (مز 2:143)، "وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عدة كل أعمال برنا" (إش 6:64)، لذلك يتحدث الأنبياء عن البر الذي يأتي من عند الرب لشعبه، "إنما بالرب البر والقوة" (إش 24:45، 25)، "وبرهم من عندي يقول الرب" (إش 17:54؛ انظر أيضًا 8:58؛ 3:61؛ إرميا 10:51؛ هوشع 12:10). وتتضح هذه الفكرة بجلاء في الارتباط بعمل المسيا: "في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم آمنة وهذا ما تتسمى به: "الرب برنا" (إرميا 16:33) وذلك عند مجيء المسيح الملك إليها. ويطلق نفس هذا الاسم "الرب برنا" على المسيا لإعلان عظمته لإسرائيل (إرميا 6:23).
ورغم عدم توكيد فكرة الاحتساب صراحة في هذه الفصول، فالفكرة ليست مجرد اعتراف الله بهذا البر (كريمر)، لكن المعنى المقصود هو أن البر يأتي من الرب -بواسطة عمل المسيح- منبع بر شعبه.
ويتناول الرسول بولس نفس هذه الفكرة موضحًا الطريق التي بها يأتي هذا البر للخطاة، وواصفًا فكرة "البر المحتسب" أساسًا لتعليمه عن التبرير. ويعني الرسول بولس "ببر المسيح"، منزلته الشرعية الرفيعة، أو ما اكتسبه من الاستحقاق الكامل لكل ما فعله إتمامًا لمطالب ناموس الله، بما في ذلك طاعته الكاملة إيجابيًا وسلبيًا. وهذا التبرير يؤدي إلى الحياة ثم إلى المجد الأبدي (رو 18:5؛ 30:8).
ويوضح بولس الرسول دائمًا أن الحصول على الحياة يتوقف على تتميم الناموس، وعليه إذا كان المسيح يضمن لنا الحياة، فلابد أن يكون ذلك مطابقًا للمبدأ السابق، ولذلك فإن الرسول يشدد على عنصر الطاعة في موت المسيح، ويضعه كأساس لتبرير الخاطئ (رو 18:5)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. كما يصور الطاعة حتى الصليب باعتبارها ذروة حياة الطاعة من جانب المسيح (في 8:2). ويؤكد الرسول بولس أيضًا أن فدائنا من كل مطالب الناموس، مكفول بحقيقة ولادة المسيح تحت الناموس (غل 4:4). ولا يمكن قصر ذلك على أن المسيح كان تحت لعنة الناموس، لأنه ولد تحت الناموس، مما نتج عنه أننا تحررنا من كل مطالبه. كما أننا نرى نفس هذا المبدأ في تعليم الرسول بولس بأن التبرير -من أوله إلى آخره- هو من النعمة الإلهية - بالارتباط بحقيقة أنه يؤدي إلى الخلاص الكامل.
ونرى أهمية تعليم احتساب بر المسيح للمؤمن -في فكر الرسول بولس- من حقيقة أن موضوع كيفية الحصول على البر، قد احتل موضعًا جوهريًا في فكره الديني - سواء قبل تجديده أو بعده. فتجديد الرسول - نتيجة لظهور المسيح المقام له - حدد مفهومه عن الطريق الحق لنوال البر، لأن قيامة المسيح تعني لبولس إدانة كل سعيه الماضي إلى البر بأعمال الناموس.
واحتساب بر المسيح للمؤمن هو أساس تعليم الرسول بولس عن التبرير، ويمكن رؤية ذلك من حقيقة أن التبرير مجاني تمامًا، وليس للخاطئ أي استحقاق فيه (رومية 24:3؛ 15:5؛ غل 4:5؛ تي 7:3). وهو يُقَّدم للفاجر (رو 5:4)، ولذلك فإنه ليس بأعمال (رو 20:3، 28؛ غل 16:2؛ 11:3؛ 4:5؛ في 9:3)، كما أنه ليس مجرد صفح عن الخطية، بل هو بالتحديد حكم شرعي كامل بتحرير الخاطئ من كل مطالب الناموس، ومنحه الحق في الحياة الأبدية. وهذه الحقيقة الأخيرة حقيقة واضحة لأن بر الله - المبني على أساس استيفاء حقه - هو أساس تعليم الرسول بولس عن التبرير (رو 2)، وظاهر فيه (رو 25:3، 26) لأن أساسه هو عمل المسيح الكفاري (رو 25:3)، ولأن افتداءنا من لعنة الناموس يرتكز على تحمل المسيح لها نيابة عنا، وإن افتداءنا من كل مطالب الناموس، يتوقف على تتميم المسيح لها (غل 13:3؛ 4:4)، إذًا لا تكمن طبيعة التبرير بالنعمة -في تعليم الرسول بولس- في كونه مجرد غفران بالنعمة فقط دون أي أساس قانوني (رتخل)، أو في قبول الله للبر الذاتي الذي أنتجه هو في الخاطئ (توباك)، أو في قبول الإيمان بديلًا عن البر الكامل (كريمر)، لكنه يكمن في حقيقة أن البر الذي على أساسه يبرر الله الفاجر، هو البر الذي صنعه الله بالنعمة، والذي يقابل الرسول بولس بينه وبين بره الشخصي الذي بأعمال الناموس (في 9:3)، ومن ثم يغفر الله للخاطئ ويقبله كشخص بار ليس على أساس أي شيء فيه، لكن فقط على حساب ما عمله المسيح من أجله، وهو ما يعني أن استحقاقات آلام المسيح وطاعته تحسب للخاطئ كأساس لتبريره.
ويؤكد الرسول بولس هذا الحق بجلاء عندما يتكلم عن احتساب بر الله لنا بدون أعمال، وعن أن البر محسوب لنا (رو 6:4، 11). وتوضح القرينة فكرة احتساب البر، فالشخص الذي يتبرر، موصوف بأنه "فاجر" (رو 5:4)، إذن فهو يتبرر، على أساس احتساب الله هذا البر له. ويبدو هذا واضحًا أيضًا من المقابلة بين الحسبان على سبيل "نعمة" و"على سبيل دين" (رو 4:4). فمن يسعى وراء البر بالأعمال يريد أن يتبرر كمكافأة على أعماله، ولكن على النقيض من ذلك، يكون التبرير على سبيل النعمة، هو منح الإنسان برًا لا يمتلكه في ذاته. وبناء عليه يكون الأساس التبرير هو أن يحسب للخاطئ بر خارج عنه.
ويؤكد الرسول بولس هذه الفكرة أيضًا في المقابلة التي عقدها بين آدم والمسيح (رو 18:5، 19) فيقول كما أن الناس يدانون بسبب خطية ليست هي أصلًا خطيتهم، كذلك فإنهم يبررون على حساب بر ليس هو برهم. وتعد فكرة الخطية المحتسبة والبر المحتسب - كما سبق القول - نقطة المقارنة الدقيقة بين الدينونة في آدم والتبرير في المسيح. وهي أيضًا -كما يقول الرسول بولس- أساس التباين بين العهدين القديم والجديد، فيصف العهد الجديد بأنه "خدمة البر" في مقابل العهد القديم الذي يصفه بأنه "خدمة الدينونة". وعلى هذا فإن كان هذا التعبير الأخير لا يدل على حالة ذاتية للبشر تحت تدبير العهد القديم، بل إلى علاقتهم بالله كمن هم تحت دينونة، فيجب أن يدل "البر" على عكس هذه العلاقة بالناموس، ويجب أن يعتمد "البر" على تبرئة الله لهم شرعيًا. ويوضح الرسول بولس نفس الحق بأكثر تحديد بقوله إن "المسيح صار لنا.. من الله برًا" (1كو 30:1) وقد اختير هذا الأسلوب الدقيق للتعبير لأنه يتحدث أيضًا عن أن المسيح "صار لنا..من الله...قداسة وفداء"، فكان يجب أن اختيار تعبير يستطيع أن يحتوي على هذه الأفكار. ومن أوضح العبارات التي تتعلق بالبر غير الذاتي -أي المكتسب- هي: "وأوجد فيه وليس لي بري الذي من الناموس، بل الذي بإيمان المسيح، البر الذي من الله بالإيمان" (في 9:3). فهنا يؤكد الرسول على أن البر الذي يحصل عليه المؤمن في المسيح هو على النقيض تمامًا من بره الذاتي، فالبر الذاتي من أعمال الناموس - أما البر المكتسب فمن الله بالإيمان بالمسيح. فهو -على ذلك- من خارج الإنسان، ممنوح له من الله على أساس عمل المسيح، وعن طريق الإيمان بالمسيح.
وتوضح الفكرة المشروحة بجلاء في الفقرة السابقة عن البر المكتسب والذي يهبه الله للخاطئ -أي فكرة الوضع الشرعي الجديد الممنوح من الله للمؤمن- توضح هذه الفكرة معنى عبارة "بر الله" التي يستخدمها الرسول بولس تسع مرات [(رو 17:1؛ 5:3، 21، 22، 25، 26؛ 3:10)، (مرتين)، (2كو 21:5)]، فهي تدل على الصفة الإلهية للبر (رو 5:3، 25، 26). وجرت العادة على اعتبار المواضع الأخرى بمثابة إشارة لبر الخاطئ الذي يأتي إليه من الله طبقًا لما جاء في (فيلبي 9:3). ولكن يفسرها "هيرنج" مؤخرًا - ناهجًا على نهج "كولينج" - على أنها كلها تدل على عمل التبرير الإلهي، ولكن هذا التفسير يبدو شديد التكلف في ضوء ما جاء في الرسالة الثانية إلى الكنيسة في كورنثوس (2 كو 21:5) حيث يذكر أننا "نصير بر الله"، وكذلك مع ما جاء في الرسالة إلى الكنيسة في (رومية 3:10-6) حيث يذكر أن "بر الله" هو نفسه "البر الذي بالإيمان"، بالمقابلة مع بر الإنسان الذاتي. وما يؤكد أن بر الإنسان الذي يناله من الله، هو ما يشار إليه هنا، هو حقيقة أن سبب خطأ اليهود في سعيهم وراء البر بأعمال الناموس هو أن عمل المسيح قد أنهى هذه الطريقة للحصول على البر (رو 4:10). فهذا البر إذن هو البر الذي أصبح للإنسان من الله، فالبر يأتي من الله فالله هو مصدره، ولا يكون ذلك بجعل الإنسان بارًا داخليًا، لأن كل الآيات السابقة تبين أن هذا البر هو بر موضوعي تمامًا، إنه البر المذكور في (فيلبي 9:3)، البر الذي يحسبه الله للمؤمن في المسيح هكذا "نصير نحن بر الله فيه". بنفس المعنى الدقيق الذي به "جُعل المسيح خطية" (2كو 21:5). ولأن المسيح "جُعل خطية" باحتساب ذنب خطيتنا عليه، فحمل عقابها، فلابد أن بولس الرسول يعني أن أننا "نصير بر الله" بنفس هذا المعنى الموضوعي، أي باحتساب بر المسيح لنا، وعلى نفس المنوال تكون المباينة في الرسالة إلى الكنيسة في (رومية 3:10) بين بر الله وبر اليهود الذي بأعمال الناموس، برهان على أنه في كلتا الحالتين، يدل البر على وضع قانوني يأتي من جانب الله بالاحتساب. إنه نفس البر المحتسب الذي يجعل الإنجيل "قوة الله للخلاص" (رو 17:1)، المشهود له من الناموس والأنبياء، والذي يناله الإنسان بالإيمان بالمسيح، الذي أظهر بموته الكفاري "بر الله" الذي استوفى حقه بكفارة المسيح (رو 21:3، 22، 25، 26)، والذي يقول عنه بطرس الرسول إنه "غاية الإيمان" (2 بط 1:1).
ويؤكد الرسول بولس في موضعين أن إبراهيم آمن بالله "فحسب له برًا" (رو 3:4؛ غل 6:3). ويقول بعض المفسرين إن بولس يعني أن الله قبل إيمان إبراهيم بديلًا عن البر الكامل، كأساس لاستحقاقه للتبرير. لكن لا يمكن أن يكون هذا هو ما قصد إليه الرسول لأنه يناقض على خط مستقيم القرينة عندما يذكر بولس حالة إبراهيم لإثبات أنه قد تبرر بدون أي استحقاق من جانبه، ولأنه يناقض أيضًا فكر بولس عن طبيعة الإيمان التي تنفي كل دعاوى الاستحقاق، بل هو الاعتماد المطلق على المسيح الذي منه يستمد الإيمان كل قيمته للخلاص، كما يناقض تعليم الرسول على أن التبرير إنما هو من النعمة ومن النعمة فقط. فالرسول يود -في هذه الفصول- أن يوضح حقيقة التبرير بالنعمة مقتبسًا لغة سفر التكوين البسيطة (تك 6:15) فهو يعني ببساطة أن إبراهيم تبرر كمؤمن بالله وليس كشخص سعى وراء البر بالأعمال.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/a8ajxsc