نعم، هذا سؤال منطقي ومشروع(*).. وربما بتحليل القصة قليلًا نستطيع أن نتلمَّس بعض الأمور التي دعت إلى هذا الأمر..
ربما كان هدف تسليم أحد أتباع السيد المسيح له أن يثبت رؤساء الكهنة وكارهو المسيح أنه حتى أتباع المسيح منهم مَنْ رفضه ورفض تجديفاته (حسب ادعاءاتهم).. أي في المحاكمات يتحدثون أن الذي أبلغ عن هذه التجاديف هو شخص من داخل البيت نفسه، ويعرف الخفايا.. حتى يستطيعوا أن يعطوا شرعية للقبض على السيد المسيح، ويأخذوا من هذا شهادة أخرى ضده..
وكان يوجد في القانون الروماني ما نطلق عليه الآن "المُدَّعي"، ليقوم بتسليم المتهم للمحاكمة. أي كأنها شكوة رسمية ضده..
هناك آية قد تلقي بعض الضوء على الموضوع.. فربما كانوا يريدون القبض على يسوع في فترة غير موجود بها بين الجموع حتى لا يهيج عليهم الشعب "لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ" بل وأعظم (إنجيل متى 21: 46؛ إنجيل لوقا 7: 16؛ إنجيل يوحنا 4: 19؛ إنجيل يوحنا 6: 14؛ 7: 40؛ 9: 17). وبما أن الوقت كان مساءً، وقد لا يتعرَّف على السيد المسيح الذين يريدون القبض عليه، لذا احتاجوا شخصًا يعرفه جيدًا يسلمه لهم.. وهذا يتضح من الآية القائلة: "فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْوًا مِنْ جَمْعٍ" (إنجيل لوقا 22: 6)، ولاحظ كلمة "خلوًا من جمع" هذه.
ربما الذين قاموا بعملية القبض لم يروا يسوع قبلًا، أو قد رآه أحدهم مرة ولا يتذكر شكله جيدًا أو غير ذلك، فاحتاجوا لشخص يشاور لهم عليه بعلامة القبلة المُتفق عليها بينهم. "وَالَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلًا: «الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ»." (إنجيل متى 26: 48؛ إنجيل مرقس 14: 44). وربما هذا لخوفهم من أن يقبضوا على شخص آخر بالخطأ، فيهرب المجرم الأصلي الذي يريدون القبض عليه ويأخذ حذره، حينما يعرف بخطة القبض عليه (حسب وجهة نظرهم).
ربما الذين قاموا بعملية القبض هم مجرد حراس ذو درجة دُنيا ولا علاقة لهم بالأمر لا من قريب ولا من بعيد.. ولم يكونوا يعرفوا السيد المسيح، فاحتاجوا لِمَنْ يعُرَفِّهُ لهم.. كما نرى من الآية: "فَأَخَذَ يَهُوذَا الْجُنْدَ وَخُدَّامًا مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ" (إنجيل يوحنا 18: 3).
كما قال أحد الباحثين أن هذا الأمر قد يكون سببه أن السيد المسيح لم يكن معروفًا بصورة ضخمة في أورشليم، بل معروف عن مستوى معين من الشعب..
ربما احتاجوا أن يقبضوا على السيد المسيح في وقت معين، ولم يعرفوا أين هو، فاحتاجوا لشخص يعرف المكان الذي يجتمع فيه السيد المسيح مع تلاميذه، ولا يعرفه العامة.. وهذا يتضح من الآية التي تقول: "قَالَ يَسُوعُ هذَا وَخَرَجَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ، حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ، لأَنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيرًا مَعَ تَلاَمِيذِهِ" (إنجيل يوحنا 18: 1، 2).
ربما كان الحاضرون لعظات السيد المسيح في الهيكل أو غيره كانوا من رؤساء الكهنة والفريسيين الذين لم يكن لديهم الحق أو القدرة أو الإمكانية على القبض على السيد المسيح بذاتهم.. فاحتاجوا لعسكر وغوغاء من الجهلاء الذين لا يعرفون السيد الرب للقبض عليه، فاحتاجوا لشخص يعرفه.. فهؤلاء المُرتزقة خرجوا على السيد "بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ" (إنجيل متى 26: 55). فيقول السيد المسيح: "كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي" (إنجيل متى 26: 55؛ إنجيل مرقس 14: 49).
أو لأنه لم يكن يحضر لقاءات السيد المسيح هذه أيٍ من العسكر أو ممثلي القانون..
أو أنهم لا يستطيعوا إلقاء القبض عليه أمام الجميع، بل في خفية في مكان خفي غير معروف للجموع..
نلاحظ أيضًا أن جسارة يهوذا الإسخريوطي هو الذي عرض على الكتبة ورؤساء الكهنة أن يسلم لهم السيد المسيح!! نعم كانوا يريدون هذا وطلبوه، ولكنه هو الذي ذهب لهم يعطيهم مأربهم على طبقٍ من فضة!! بل وخطَّط للأمر بطريقة مثابرة، فوضع الخطة بأن يسلمه لهم، ومتى (الموعد)، وكيف، وما هي الطريقة التي يعرف العسكر والخدام بالشخص الذي يجب القبض عليه (العلامة)، والمكان الذي يعرفه هو وباقي التلاميذ (البستان)، بل وحتى اختيار الوقت المناسب (خلوًا من جمع كما قال) حتى لا يسبب الشعب أي مشاكل!! وقد تحدثنا عن هذه الأمور واحدة فواحدة بالتفصيل هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في قسم التفاسير.. أقصد من هذه النقطة أن صاحب عرض التسليم كان هو يهوذا نفسه.. فحتى وإن كانوا يعرفون شكل السيد المسيح، فقد أتى إليهم شخص بخطة جاهزة، بها الزمان والمكان المناسب..! فلماذا لا يقبلونها؟!
كان من ضمن الخارجين للقبض عليه رؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ مع باقي الغوغاء.. فربما احتاجوا لجاسوسٍ ما من الداخل (عميل مزدوج)، ظانين أن هذا يسهل مهمتهم في اصطياد المسيح في الوقت والمكان المناسب، ويتجسسون منه على تحركات الرب.. حتى في حالة الحضور للقبض عليه، وأي محاولات منه -في ظنهم- للهرب أو للدفاع من باقي التلاميذ، أن يكون هو الجاسوس الذي يعرف ما قد يحدث، ليقطعوا أي احتمال لفشل الخطة..
النقطة الأخيرة مستوحاة مما فعله يهوذا الإسخريوطي نفسه.. فلم يأتِ أمامهم ويشاور على السيد المسيح أنه هو مَنْ يجب القبض عليه، ولم ينادي يقول "هذا هو، اقبضوا عليه"، بل في خبث ودهاء كان يريد ألا يُفْهِم الآخرين أنه هو سبب القبض على السيد المسيح.. بل مجرد كأنه سلَّم عليه فقط، وهؤلاء الخارجين عليه لا علاقة له بهم! وكأنه تخيَّل أنه بهذا يفلت من عقاب الناس أو التلاميذ ونظراتهم، ويحفظ ماء وجهه.. فقد استطاع أن يخفي خطته عن جميع التلاميذ حتى تلك اللحظة..
أخيرًا وليس آخرًا، كان هناك عرضًا مفتوحًا من الفريسيون ورؤساء الكهنة لتسليم المسيح، قبله يهوذا الخائن كما أوضحنا سابقًا.. فيقول الكتاب: "وَكَانَ أَيْضًا رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُمْسِكُوهُ" (إنجيل يوحنا 11: 57).
هناك الكثير من الاحتمالات..
على أي الأحوال، لاحظ أن موضوع الفداء والصلب هذا لا علاقة له بيهوذا.. أي أنه كان سيحدث بيهوذا أم بدونه.. أما ما قاله السيد المسيح حول تسليمه من قبل يهوذا فهو له علاقة بعِلم الله السابق، فهو كإله يعرف ما سيفعله كل شخص.. كما قال الرسول: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ، عَنْ يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلًا لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ، إِذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ" (سفر أعمال الرسل 1: 16، 17). والمسيح لم يُسَلَّم إلا في الوقت الذي حَدَّدَهُ؛ لأنهم كثيرًا ما أرادوا الإمساك به ولم يستطيعوا، لأنه لم يكن الوقت المحدد بعد: "فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ" (إنجيل يوحنا 7: 30).
يهوذا فقط كان خائنًا من الأصل وَمُحِبًّا للمال، كما يقول الكتاب عنه في أحد المواقف عند إبداء يهوذا الغيرة بسبب سَكْب الطيب كثير الثمن: "قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ." (إنجيل يوحنا 12: 6).
_____
(*) المصدر: من مقالات وأبحاث موقع الأنبا تكلاهيمانوت
www.st-takla.org (م. غ.).الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/axrcmh6