وهو أحد الرهبان الذين هربوا في تلك الأيام من أباطيل العالم وشروره ولجأوا إلى حياة الرهبنة فكان دافعه استياؤه من الكنيسة ومن الانحطاط الذي وصلت إليه، وكانت في نظرة أشبه بفاجرة متنكرة في ثوب سيدتها التي كانت قد طردتها لتحل محلها، فلم يسعه إلا أن يفتح فاه ويرفع صوته شاكيًا إليها فساد الكنيسة وظلم الدولة. فكان لمناداته وقع عظيم في فلورنسة (فلورنسا) في إيطاليا، حيث كانت الجماهير الحاشدة تزدحم في الكنيسة لسماع عظاته، وقد تاب الكثيرون على يديه واستدعاه حاكم المدينة المستبد والذي كان يدعي لورنز دي مديتش وكان على فراش الموت واعترف له بخطاياه وتنبأ سافونارولا Savonarola الشاب الجريء عن قضاء إلهي وشيك الوقوع على المدينة ما لم تتب عن أخطائها وقد صدقت نبوءته إذ غزا ملك فرنسا البلاد، وانقلبت الأحوال وأصبح اسم سافونارولا أشهر من نار على علم حتى لقد انتخبه الشعب ليفاوض ملك فرنسا في أمر الصلح وأخطر الملك الغازي تحت تأثيره وقوة ضجته وتهديده بأن أهل فلورنسا سيدفعون الظلم ويجاهدون في سبيل حريتهم إلى آخر رجل، يخلي المدينة ويرحل عنها بجنده، وكان هذا إتمامًا لنبوة ثانية نادي بها الراهب سافونارولا، مما رفع شأنه في عيون الشعب وإذ ينقضي عهد الاستبداد وأسرة المدينتين تتجه إليه الأبصار كالزعيم المرموق، فيشير على الشعب أن يشيدوا المملكة على مبادئ جديدة من الحق والبر، كي يغدو صاحب النفوذ المطلق في وطنه. يستخدم كل مواهبه وسلطانه لخير الأمة والبلاد، غير عابئ براحته وحياته حتى أنه لم يعتزل حياة الرهبنة بل ظل يجاهد نفسه في التقشف والعيشة الخشنة. وقد أطاعه الشعب وصاحوا بأسماعهم إلى نصحه وإرشاده، فأعادوا النظام الدستوري وألفوا المحاكم القانونية، وقضوا على فساد الآداب وانتعشت المدينة بحياة دينية جديدة وسليمة.
ولكن كان سافونارولا له أعداء، فقام الذين اخبروا من إصلاحه وأشار عليه الجهال من الشعب فأنكروا خدمته لبلادهم، وتكريس نفسه للخير العام، وتآمروا على إسقاطه وقد سنحت لهم الفرصة عاجلًا، فإن سافونارولا لم يقنع بإصلاح المدينة، "بل كان يحلم بإصلاح البابوية، فراح يشهر بالبابا الكسندر، ويطلع الناس على عيوبه ويدعو الملوك المسيحيين إلي عقد مؤتمر عام للبحث في القضية ولكن قوة العالم صدمته وبطشت به فحرمه البابا الكسندر وساعد أعداءه فقبضوا عليه وعذبوه وأهانوه واحرقوا كتبه ومؤلفاته، ثم علقوه في الميدان الكبير بمدينة فلورنسا من رحيله وأحرقوا جسده بالنار.
لم تفلح النهضة العملية في إصلاح حال الكنيسة لأنها كانت نهضة وثنية في قلبها وجوهرها ورضيت أن تخضع في الظاهر السلطة الكنيسة لأنها لم تكن تعنى بالحق المسيحي، وعنيت فقط بالحق الإنساني في المجرد، ولم يكن إحياء العلوم والآداب إحياء للأخلاق، فلقد ظهرت في المدينة والدويلات الإيطالية طغاة أشرار متجبرون، احتقروا كل شرائع الآداب والأخلاق. واشهد التاريخ من قبل مجتمعا تلمعت ثقافته الرفيعة، وأخصبت مواهبه وملكاته، وظهرت فيه قوى الابتكار التي أبدعت روائع الفن، ومع ذلك تحر فيه الفساد والتعفن الأخلاقي نقول ما شهد التاريخ، والمجتمع الإيطالي في النصف الأخير من القرن 15، ويكفيه أن يكون المجتمع الذي أنجب قيصر بورجيا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وهو ابن اسكندر بورجيا أحد باباوات ذلك العصر، " الذي كان مثله ومثاله، هذا العصر السيئ الذي كتب فيه ميكافيللى كتابه (الأمير) الذي مجد فيه أنانية الأمراء القاسية الباردة الخليقة، وحتى حين تنظر إلى صور الشهداء والقديسين التي أبدعها فنانو ذلك العصر، والى روائع روفائيل الفنان العظيم Raphael نحس على الرغم من جمالها وروعتها وسموها بأنها مبتكرات إنسانية خلت من الروحانية.
وفي تلك الفترة تولى شئون الكنيسة رجال أمثال الفاسد اسكندر السادس (1492-1503) ويوليوس الثاني (1503-1513) وليون العاشر (1513-1521) وهؤلاء الباباوات، ولو أنهم لم يخلو من بعض المحاسن، كانوا رجال دين بعيدين عن الدين، فأسكندر السادس من أل بورجيا الأسبانيين، كان رجل دنيا تماما، والحقيقة أننا لا نستطيع أن ندافع عن مسلكه، كما أن المؤرخين – حتى الذين كتبوا منهم تحت إشراف الكنيسة لم يستطيعوا تسويق أعماله وأخلاقه، ورغم هذا كله لم يهمل واجباته الدينية، أما يوليوس الثاني فكان من أعظم باباوات روما، وهو الذي عمل على إعادة بناء كنيسة القديس بطرس والتي تعد أعجوبة في عالم بناء الكنائس، وهو الذي استخدم أعاظم الرجال الفنية من أمثال روفائيل وميخائيل انجلو، وكان رجلًا قليل الشهوات لا يؤخذ عليه شيء في ملكه أيام توليه عرش البابوية، ومع ذلك كان رجل دنيا فكان يجب أن يسير الجيوش على خصومه، ويتولى قيادتها بنفسه، ويحاضر المدن ويلبس أحيانا البدلة العسكرية أما ليون العاشر فهو من أل مدينتي، وكان يشجع العلوم والفنون ويقال أنه أولع بكتب القدماء حتى كاد يفضل أساطير الوثنيين على حقائق المسيحية، وكان رجلا شديد الحيلة والدهاء متقلبا في سياسته.
وكان الرهبان قد صاروا طبقة ممقوتة في الكنيسة، فهم أرادوا الفرار من العالم وتركوا كل شيء، ولكن العالم الشرير الأثيم الذي حملوه في قلوبهم تعقبهم في عزلتهم في البرية ومناسك الزهد، وابتلع العالم وشهواته جهود الرهبان وجهادهم، إلا أنه كانت هناك قله منهم صمم الذين تمسكوا بأهداب الدين والرهبانية السليمة وبأساليب التقشف والزهد الحث على الأخيار الصالحين بأن الإنسان لن يقدر أن يخلص نفسه وأن أعمال الناموس الذي يبغض الخطية ويفتقد المذنبين إلي الجبل الثالث والرابع تلك كانت النظرية الدينية الجديدة التي ألحت على الراهب لوثر للقيام بثورته.
59- مارتين لوثر |
تاريخ كنيسة الغرب د. يواقيم رزق مرقص |
57- نهضة إحياء العلوم |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6s987h6