شاءت الظروف أن يتبلور النزاع بين البابا جريجوري السابع Pope Gregory VII والإمبراطور هنري الرابع إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة (1056-1105) حول شغل بعض الأسقفيات الشاغرة وبخاصة في شمال إيطاليا، إذا صر كل من البابا والإمبراطور علي أن لكل منهما الحق في سيامة الأساقفة وتمسك كل منهما برأيه لأنه رأي أن في انتصار خصمه تحطيمًا للمبدأ الذي يسعى هو من اجله.
فهنري الرابع وجد في تمسكه برأيه محافظه على حقه الذي ورثه عن أسلافه، وان تمسكه بفرض رأيه أمر تتوقف عليه هيبته في إيطاليا وغير إيطاليا من بلاد الإمبراطورية، لذلك أسرع بتعين اثنين من أتباعه على أسقفيتي فرمو fermo وسبوليتو spoleto، على الرغم من أن هاتين الأسقفيتين تقعان فعلًا في دائرة اختصاص البابا.
أما جريجوري السابع فقد تمسك من جانبه بنظرته السمو البابوي بحكم أن البابا خليفة السيد المسيح على الأرض ووريث القديس بطرس في الغرب، كما اعتبر نجاحه في فرض رأيه على الإمبراطور أمرًا تتوقف عليه هيبته ومستقبل البابوية، فضلا عن سياسته في الإصلاح الكنسي – وهي السياسة التي شرع فعلًا في تنفيذها.
ثم تأزم الموقف بشكل خطير عندما عين هنري الإمبراطور أسقفًا جديدًا لميلان هو الأسقف تدالد tedald في عام 1075، وحينئذ أدرك البابا أنه لابد من العمل السريع، ويبدو أن البابا جريجوري السابع كان مستعدًا عندئذ التحدي والصراع.
فأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى هنري الرابع في أواخر عام 1075 انذره فيها بالعزل وهدده بالويل والعذاب أن هو لم يخضع لرأي البابوية، وفي ذلك الوقت ثارت ثائرة الإمبراطور فعقد تجمعًا في ورمز worms في يناير 1076 قرر فيه بطلان انتخاب البابا جريجوري السابع بل وعزله من منصبه.
وعندما سمع البابا بذلك القرار قابله بهدوء، ودعا هو الأخر بعقد مجمع في الفاتيكان في فبراير 1076 قرر فيه توقيع الحرمان على هنري الرابع وعزله من منصبه وتحرير جميع رعاياه وأتباعه من إيمان الطاعة والتبعية التي اقسموها له. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وبذلك بدأت الحرب بينهما ومع أن موقف الطرفين كان حرجًا وصعبًا إلا أنه من الواضح أن هنري الرابع وجد نفسه في موقف أصعب من خصمه، لأن البابا كان يستطيع أن يعتمد على عطف كثير من أبناء العالم المسيحي بوصفه الأب الروحي للكنيسة، في حين كان هنري الرابع لا يستطيع حتى الاعتماد على ولاء رعاياه بعد أن وقع عليه البابا قراره بالحرمان بوصفه مسيحيًا وعقوبة العزل بوصفه ملكًا.
وبعبارة أخري فإن كفتي البابوية والإمبراطورية لم تكونا متعادلتين أبدا عند بداية النزاع بل طيلة أدوار النزاع الآتية، لأن البابا كان يستطيع أن يعتمد دائمًا على أسلحه قويه أهمها شعور الشعب من حوله، فضلًا عن الأسانيد المستفادة من الكتاب المقدس التي تعطي البابا هذا الحق العظيم، في حين استند الإمبراطور فيما ذهب إليه إلى:
1- القانون الروماني الذي يمجد الإمبراطورية وسلطتها وهو مستمد من أصول وثنية يسهل على البابوية الطعن فيها.
2- الجيش الإمبراطوري الذي ثبت عجزه في أكثر من مناسبة عن إخضاع البابوية.
3- والواقع أن الإمبراطور لم يجد له نصير سوي تلك الفئة قليلة العدد من رجال الدين والإيمان الذين عرفوا بالسيمونية وسوء السيرة، وهؤلاء لم يكن لهم من النفوذ أو المقومات الخلفية ما يجعل منهم سندًا حقيقيًا للإمبراطور، أما ذو المكانة من القديسين وكبار رجال الدين فقد شايعوا جميعًا البابوية في موقفها المعادي للملك.
وهكذا تلفت هنري الرابع حوله فلم يجد من يعتمد عليه من الدوقات والأمراء، إذ كانوا جميعًا يخشون نزعته الاستبدادية، فكان أن عقد أمراء ألمانيا وأساقفتها مجمعًا في تريبور tribur في أكتوبر 1076 وقرروا فيه الخروج على طاعة هنري الرابع وإنذاره باختيار إمبراطور غيره على ألمانيا إن لم يغفر له البابا في مده أقصاها فبراير 1077 م علي أن يقضي الفترة ما بين أكتوبر 1076 وفبراير 1077 في أحد الأديرة محرومًا من الإمبراطورية.
وكان أن انسحب هنري الرابع إلي ذلك الدير الذي جعل يفكر فيه في حاله، وان كان الموقف لم يكن في حاجه إلى تفكير، ذلك أنه وجد نفسه وحيدًا أمام خصم عنيد لا يرحم، فلابد له من التراجع والاستسلام إذا أراد إنقاذ عرشه، مما تطلب من هنري الرابع سرعة العمل قبل أن يجتمع أعداؤه في ألمانيا فيؤدي ذلك إلى مظاهره عدائية ضد الملك تضعف مركزه وتجعل البابا يتشدد في موقفه، واخيرًا لم يجد الإمبراطور هنري الرابع حلًا أمامه سوى أن يرحل سرًا إلى البابا، في الوقت الذي كان البابا قد بدأ رحلته إلى ألمانيا، ولكنه أسرع عندما علم أن خصمه هنري الرابع عبر الألب ساعيًا إليه، واحتمي البابا في قلعه "كانوسا" التابعة لماتيلدا ملكه تسكانيا، وكان البرد قاسيًا عندما اخذ هنري الرابع يصعد الطريق الجبلي الوعر إلى قلعة كانوسا، حيث بقي ثلاثة أيام واقفًا على الجليد أمام أبواب القلعة الموصدة في وجهه، حتى تعطف عليه البابا وسمح له بالمثول بين يديه على شرط بأن يسلم للبابوية بكل ما تطلبه دون أي قيد وكان ذلك في يناير 1077.
ويُقال أن الإمبراطور دخل على البابا حافي القدمين مرتديًا ثوبًا من ثياب الرهبان المصنوعة من الصوف الخشن، حتى إذا ما وجد نفسه أمام خصمه ارتمي عند قدميه وانفجر باكيًا وهو يصيح "اغفر لي يا أبتاه المقدس".
فغفر له البابا بعد أن فرض عليه شروطًا قاسيه وزوده بالنصح والإرشاد، وقد اكتسب بهذا هنري الرابع غفران البابا وطالب بولاء رعاياه ولكن بعد أن دفع الثمن غاليًا، كلفه كرامته ومكانته، فها هو حاكم الإمبراطورية العظيم بذل نفسه أمام البابا ويعترف للبابوية بحقوقها كاملة حتى حرمانه من رعاية الكنيسة وعزله من منصبه، وها هو حليفه قيصر وشارلمان ارتضى أن يقف البابا منه موقف الحكم بينه وبين شعبه أن شاء أمرهم بالخروج على طاعته، وان شاء أمرهم بالامتثال له، لذلك ليس من المبالغة أن نقرر أن الضربة التي أنزلها البابوية بالإمبراطور في كانوسا كانت قاصمه، وان الأخيرة لم تسترد هيبتها ومكانتها السابقة مطلقًا بعد ذلك.
28- تقييم الموقف في نظر الرأي العام الأوروبي |
تاريخ كنيسة الغرب د. يواقيم رزق مرقص |
26- أهم الشخصيات الإصلاحية في أوروبا في قرن 11 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vk53qhc