وبعد فترة من الزمن تغيرت حالة ابنة صاحب الفندق الذي كان مضيفًا للرهبان. ومال لونها إلى صفرة، فلما عاين أبوها حالها، قال لها ما هذه الحالة التي أراك عليها؟ أخبريني إن كان بك علة أو مرض فأحضر لك أحد الأطباء يردك إلى العافية. وإن كان غير ذلك القول فما ينجيك إلا الصدق، ونعمتي وافرة والخير لدى كثير، وما رزقت في الدنيا سواك فقالت له يا أبتاه أنا أعلم أن الموت والحياة في يدي الله ويديك، وأنا ما أكتمك أمري فإنه في الليلة التي نزل فيها رهبان من الدير الأعظم وفرحت بهم وأمرتني أن أهيئ لهم الضيافة وكنت قد تعبت حتى صرت مثل الميتة وما أشعر إلا والراهب مارينا الجميل الوجه قد ارتكب الخطية معي. فلما سمع أبوها ذلك بكى ولطم على وجهه وانتحب وقال ليتني ما أبصرت الرهبان ولا عرفت طريقهم وانطلق فورا إلى الدير الأعظم ووقف على بابه وصرخ بأعلى صوته قائلًا، ما يحل لأحد أن يكرم راهبًا. فإنهم قوم منافقون ماكرون بطالون مراؤون نجسون يحسنون التظاهر بالديانة الحسنة، عليهم زي الورع من الخارج ومن الداخل ذئاب خاطفة، وأخذ يتلفظ ألفاظا كثيرة نابية...
فلما سمع رئيس الدير الضجيج والصراخ قال للرهبان ما هذا الصراخ؟ فأخبره الإخوة أنه صاحب الفندق، فخرج رئيس الدير مسرعا وقال له ما سبب صراخك وما هذا الضجيج ولم هذا السُّبَاب، أخبرني ما خطبك؟ إنك معروف لدينا بالوداعة والهدوء والمحبة للرهبان، ما الذي أصابك؟ أجاب قائلًا هذا جزاؤنا من رهبان هذا الدير الذين نسارع في إرضائهم وقضاء مصالحهم، قال له الرئيس أعلمني بأمرك فقد شهرت بنا وأكثرت من السباب. أجابه الأرخن صاحب الفندق وقال يجب أن أسمعك شرًا من هذا فإنكم أسأتم إلى غاية الإساءة. قال له الرئيس يا صاح أفصح لي أمرك وماذا دهاك؟ قال أولادك حضروا وفرحنا بقدومهم وأكرمناهم احتراما لك ولما استقروا عندنا وبصحبتهم الراهب الشاب الذي يدعى مارينا بالغنا في إكرامهم ولم أر الراهب الشاب سوى هذه المرة، ولما سألت الإخوة عنه قالوا هذا الشاب الذي تراه ليس كمثله أحد فهو يكثر من صومه وصلاته وإنه زاهد في الدنيا وناسك كبير ويترجى الحياة الآخرة لكن قد تبين أنه ضد ذلك يدعى الصوم في النهار ويرتكب الخطية في الليل. قال له الأب ما هذا الكلام الذي أسمعه منك؟ قال صاحب الفندق لي ابنة وحيدة كنت أرجو أن أفرح بها قبل الموت فكدرتم حياتي وجعلتموني عارًا وسخرية في أفواه الناس. أتعبت ابنتي في إعداد الطعام للرهبان، ولما نامت من التعب مثل الميتة قام الشاب الذي بالغنا في إكرامه والذي كان الإخوة يشكرونه، وارتكب الخطية معها ولم أعلم عن هذا الأمر شيئًا حتى حبلت وتغير لونها، وهذا جزاء من يخدم الرهبان ويكرمهم.
فلما سمع رئيس الدير هذا الكلام اشتعل غضبًا وغيظًا وثار ثورة عنيفة وقال ما الذي أستطيع أن أفعله الآن؟ لا أقدر أن أفعل أكثر من طرده وإخراجه من الدير وفرزه من جماعة الإخوة على الفور، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لا أقدر أن أعمل شيئًا سوى هذا، وتضرع لصاحب الفندق وسأله أن يكف عن إهاناته.
فلما انصرف الأرخن إلى منزله استدعى رئيس الدير مارينا والثلاثة إخوة الذين كانوا معه وقال له: "يا مارينا ما الذي صنعته في الفندق الذي نزلت فيه". قال له يا أبي: "ما صنعت فيه شرًا، قال له الأب" قد أتى صاحب الفندق وَشَهَّرَ بنا وأخبرنا بالخطيئة الشنيعة التي ارتكبتها مع ابنته والتي كتمت أمرها متظاهرًا بين أخوتك بمظهر الحمل الوديع والشاب العفيف المملوء حياء. فلما سمع مارينا هذا الكلام لم يحر جوابًا. فأوضح له الرئيس القضية التي ذكرها صاحب الفندق فصمت. أما الرئيس فانتهره بشدة ووبخه بعنف وقال له أما تجاوب عن قضيتك؟ وأعاد الأب سؤال إخوته فأقروا أنهم لم يسمعوا عن هذا الأمر شيئًا وأنه مظلوم في هذا الادعاء... أعاد الأب سؤال مارينا فأجابه القديس مارينا يا أبي أني شاب في شرخ الصبا وقد أخطأت(1). قال ذلك بعد أن أصبح إنكاره للجريمة الشنعاء أمرًا غير مقبول لدى الرئيس. ولم يكن أمام مارينا إلا احتمال الظلم بهذه النفس الراضية وعدم التملق بسراب العالم وتبرير النفس دون جدوى.
أجهش مارينا في البكاء أمام الرئيس وأخوته والتمس العفو، واعتبر الأب هذا اعترافًا، وامتلأ غضبًا وأمر الإخوة أن يطردوه ويخرجوه من الدير.
كانت هذه لحظة مريرة قاسية على نفوس الجميع وكان الكل ينوحون ويبكون غير مصدقين وكانوا في دهشة عظيمة لما عهدوه فيه من تقوَى وورع وحياة وسيرة طاهرة، وهكذا خرج مارينا من الدير مشيعا بدموع إخوته الغزيرة رغم كل تفاصيل قضيته.
_____
(1) لا شك أن في هذا التصرف من القديسة حكمة خفية وفلسفة قوية وصبر عجيب وقوة روحية هائلة - فقد تشبهت بالسيد المسيح الذي قيل عنه مثل خروف سيق إلى الذبح وكشاة صامتة أمام جازيها، هكذا لم يفتح فاه - وإن بدَا للبسطاء فيه شيء من السذاجة والضعف والخضوع غير اللائق.ما أجمل الصبر لله فيما يرمينا به العالم حين نقصر من دفعه بقوتنا الشخصية عندما تكون الظروف كلها في غير صالحنا والكلمة ليست لنا والله كفيل بنجاتنا وتخليصنا كما يشاء عند الصبر على المكاره. وما أجمل أن نضع الرجاء في الخالق عند اليأس من المخلوق.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/st-marine/expel.html
تقصير الرابط:
tak.la/85zzxjk