أبنائي وإخوتي الأحباء...
أهنئكم ببدء عام جديد، وبعيد الميلاد المجيد، راجيًا لكم جميعًا، ولكل شعب مصر الذي باركه الرب، أيامًا سعيدة هانئة، مملوءة من عمل نعمته.
إن العالم بميلاد السيد المسيح، قد بدأ عصرًا جديدًا، يختلف كلية عما سبقته من عصور. وأصبح هذا الميلاد المجيد، فاصلًا بين زمنين متمايزين: ما قبل الميلاد، وما بعد الميلاد.
فما هي هذه الجدة التي أعطت العالم صورة جديدة ما كانت له من قبل؟ أو ما هو ذلك التجديد الذي قدمته المسيحية، حتى قيل في الإنجيل "الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا؟
لقد قدم السيد المسيح مفهومًا جديدًا للحياة، وتعبيرات جديدة لم تكن مستعملة من قبل، ومعاني روحية عميقة لجميع المدركات، حتى بهت سامعوه من كلامه، وصاحوا قائلين "ما سمعنا قط كلامًا مثل هذا".
"... جاء السيد المسيح ينشر الحب بين الناس، وبين الناس والله. يقدم الله للناس أبًا محبًا، يعاملهم لا كعبيد وإنما كأبناء، ويصلون إليه قائلين "أبانا الذي في السموات". وفي الحرص علي محبته، يفعل الناس وصاياه، لا خوفًا من عقوبته، وإنما حبًا للخير. وفي هذا قالت المسيحية:
"الله محبة. من يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه"،
"لا خوف في المحبة. بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلي الخارج".
وهكذا قال السيد المسيح إن جميع الوصايا تتركز في واحدة. وهي المحبة: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، وتحب قريبك كنفسك. بهذا يتعلق الناموس كله والأنبياء...
وأدخل المسيح تعليمًا جديدًا في المحبة، وهو محبة الأعداء والمسيئين. فقال "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلي مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردنكم ". وتري المسيحية في هذا، أن رد الإساءة بالإساءة، والاعتداء بالاعتداء، معناه أن الشر قد انتصر. بينما تعليم الكتاب هو "لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير"، "إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه". ويجب أن تنتصر المحبة، لأن "المحبة لا تسقط أبدًا"، "مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة"...
إن عبارة "الله محبة" عبارة جديدة علي العالم، الذي ما كان يعرف سوي الله الجبار المخيف الذي يخشَى الناس سطوته ويترضونه بالذبائح وألوان العبادات...
وعبارة "محبة الأعداء"، هي عبارة جديدة في المعاملات الإنسانية، بهت العالم لسماعها من فم المسيح...
وفي المحبة، جاء المسيح أيضًا ببشارة السلام...
سلام بين الناس، وسلام بين الإنسان والله، وسلام في أعماق النفس من الداخل. سلام من الله يفوق كل عقل. ولما ولد المسيح غنَّت الملائكة " وعلي الأرض سلام ". لأنه جاء ليقيم صلحًا بين السماء والأرض، بين الله والناس، بعد أن كانت الخطيئة تقيم حاجزًا بين الإنسان والله...
وهذا الصلح أراده علي الدوام أن يستمر في العلاقات الإنسانية. فقال " إن قدمت قربانك فوق المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك قربانك قدام المذبح، واذهب أولًا أصطلح مع أخيك ".
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ذلك لأن الصلح أفضل من تقديم القرابين.
ويقول الكتاب "أريد رحمة لا ذبيحة". وهكذا قال المسيح أيضًا " كن مراضيًا لخصمك سريعًا، ما دمت معه في الطريق ". وقال أيضًا " من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا"...
وأراد السيد المسيح أن ينتشر السلام بين الناس، فقال لتلاميذه " وأي بلد دخلتموه، فقولوا سلام لأهل هذا البيت "، " وصية جديدة أنا أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم "، " بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضكم نحو بعض "...
وفي سبيل السلام، دعت المسيحية الناس، أن يكونوا " مقدمين بعضهم بعضًا في الكرامة "...
لأن المحبة يمكن أن تثبت عن طريق التواضع وإنكار الذات واحتمال الآخرين. ولهذا قال السيد المسيح " من أراد أن يتبعني، فلينكر ذاته، ويحمل صليبه ويتبعني ". وعبارة [إنكار الذات] عبارة جديدة قدمتها المسيحية إلي العالم. وقبل ذلك كانت (الذات) صنمًا يتعبد له صاحبه، ويجب أن يكبر ويتمجد...
المسيحية دعت إلي أن ينسي الإنسان نفسه، في محبته لأخيه.
إنها المحبة الباذلة التي تعطي باستمرار، وتبذل حتى نفسها. وباستمرار تأخذ "المتكأ الأخير"، وتحتمل الكل لكي تربح الكل...
إنها المحبة التي تختفي لكي يظهر غيرها...
المحبة التي تقول " ينبغي أن ذاك يزيد، وإني أنا أنقص ". المحبة التي تقول لله " ليس لنا يا رب، ليس لنا، لكي لاسمك القدوس أعط مجدًا "...
إنه التواضع في التعامل مع الناس ومع الله.
الذات التي تختفي، ولا تعلن عن نفسها، بل تفعل الفضيلة في الخفاء، والآب السماوي الذي يري في الخفاء، هو يجازيها علانية. ومن هنا كان تعليم المسيحية " من سعي وراء الكرامة، هربت منه. ومن هرب منها بمعرفة، سعت وراءه "...
وهكذا يقول السيد المسيح تعليمًا جديدًا علي أسماع الناس "مَن وجد نفسه يضيعها. ومَن أضاع نفسه من أجلي يجدها".
ووضع المسيح مقاييس جديدة للقوة.
فالقوة ليست مظهرًا خارجيًا للقهر والانتصار علي الغير، إنما القوة هي شيء داخلي، في أعماق النفس، للانتصار علي الذات. فالذي يغلب نفسه خير ممن يغلب مدينة.
وفي المسيحية، ليست القوة هي أن نقهر الآخرين، إنما أن نربحهم ونحتملهم. فالذي يحتمل غيره هو القوي. أما المعتدي فهو الضعيف. ولهذا يقول الكتاب "أطلب إليكم أيها الأقوياء أن تحتملوا ضعف الضعفاء ".
إن المعتدي ضعيف لأنه مغلوب من خطيئته، مغلوب من العنف، ومن عدم محبته للآخرين، مهما بدا قويًا من الخارج. أما الذي يحتمل فهو قوي، قوي في ضبطه لنفسه، قوي في عدم انتقامه لنفسه...
يعوزني الوقت يا إخوتي إن حدثتكم عن كل المبادئ الروحية الجديدة التي عرفها العالم بميلاد المسيح.
إنما يكفي أن نقول أن عصر ما بعد الميلاد كان جديدًا تمامًا في مفاهيمه. حتى شرائع الله السامية التي قدمها الله في العهد القديم، ما كان الناس يفهمونها إذ كان البرقع علي عيونهم وقلوبهم وعقولهم، حتى كشف المسيح لهم ما في الشريعة من جمال وسمو... له المجد من الآن وإلي الأبد آمين.
_____
(1) أُلقيَت هذه المحاضرة في الكاتدرائية الكبرى بالعباسية مساء الجمعة 15/1(2).
(2) توضيح من الموقع: لم يتم توضيح السنة في الصفحة المذكور بها الحاشية السابقة، ولكن حسب التصدير، تقريبًا هي عام 1978 م.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/nativity-inspiration/bc-ad.html
تقصير الرابط:
tak.la/8dqfc4s