1- لا يمكن أن نحكم على إنسان بأنه هادئ، إلا إذا حدث اختبار لهدوئه...
فقد يبدو الإنسان هادئا، لأن الظروف الخارجية التي حوله هي الهادئة. ولم تحدث مشكلة أو إثارة تختبر هدوءه. وربما لو إصطدمت به يظهر على حقيقته، إن كان هادئًا أم لا...
فإن إصطدم مع شخص آخر في الرأي، أو في التصرف، أو إن أصابته إهانة أو أصابه أذى، أو تعرض لكلمة جارحة، حينئذ من تصرفه يمكن الحكم على هدوئه...
ونفس الوضع إن وقع في مشكلة ما، أو ضيقة، أو تعرض لمرض، أو إن واجهته صعوبة ما... فإن هذا كله يكون اختبارًا لنفسته، واختبارًا لأعصابه: كيف يسلك؟ وكيف يتصرف؟ وهل يفقد هدوءه، أم يحتمل ويحل مشكلته بهدوء..؟
هذا هو أول اختبار للهدوء الحقيقي، لأن كل إنسان يمكنه أن يكون هادئًا في الظروف الهادئة.
2-أما الاختبار الثانى، فهو مدى الاستمرار في الهدوء. فالهدوء الحقيقي هو هدوء دائم، كشيء من الطبع.
فلا يهدأ إلى فترة زمنية، ثم يفقد بعدها هدوءه، ويتغير أسلوب تماسكه أمام المشاكل. فالهدوء الحقيقي ليس هو مجرد تدريب للاحتمال في مدى معين، إنما هو الطبيعة الهادئة، التي تستمر في هدوئها، مهما طال الزمن، ومهما تغير الحال...
الهدوء الحقيقي ليس ستارًا تختفي وراءه طبيعة غير هادئة، تكشفها الأحداث..!
فالإنسان الهادئ بطبع، لا تضره المشاكل والاصطدامات، بل على العكس تظهر ما فيه من رحابة الصدر، ومن وداعة وطيبة قلب.
القديس بولس الرسول كان يعيش في أجواء صعبة " في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في ضربات، في سجون.." ومع ذلك قال في مقدمة كل هذه: "في صبر كثير" (2كو 6: 4، 5). وقال بروح الإيمان: "لذلك لا نفشل. بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا" (2كو 4: 16). وأطلق على كل مشاكله ومتاعبه عبارة: "خفة ضيقاتنا الأرضية" (2كو 4: 17)
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
3- والهدوء الحقيقي ليس هو الهدوء الظاهرى، بل الداخلي.
فلا يكون هادئًا من الخارج فقط، بينما في داخله بركان ثائر. بل على العكس يكون هدوؤه الداخلي هو منبع وسبب هدوئه الخارجى. ولعلنا سنتكلم عن هذه النقطة بشيء من التفاصيل حينما نتحدث عن هدوء القلب.
4- وهناك فرق بين الهدوء الحقيقي، والبرود الذي قد يكون أحيانًا برودًا مثيرًا..!
فالإنسان الهادئ المحب للهدوء، لا يكون فقط هادئًا، وإنما أيضًا يحاول أن يهدئ غيره، ويشيع الهدوء فيما حوله وذلك لأنه قد يحدث أحيانًا أن شخصًا قوى الأعصاب يمكنه أن يحتمل زميلًا منفعلًا، ويرد عليه بهدوء شديد، أو ببرود شديد، بأسلوب يثير أعصابه بالأكثر، فيزداد انفعاله، ويقابل هو هذا الانفعال بمنتهى الهدوء أو البرود متفرجًا عليه، جاعلًا منه مجال نقد للحاضرين... كلا، ليس هذا هو الهدوء في معناه الروحي.
فالإنسان الروحانى الهادئ، لا يحطم غيره بهدوئه!
إن أخاه المنفعل هو وديعة في يديه، يحافظ على أعصابه وعلى سمعته، ويحاول أن يوصله إلى الهدوء هو أيضًا. وبالتالي لا يثيره. لأن محب الهدوء، يريد الهدوء لغيره كما يريده لنفسه... ولا يجعل شيطان المجد الباطل يحاربه بهدوء زائف، يكون فيه خصمه هائجًا وثائرًا، ويكون هو قد أفرح الشيطان بهذا الهياج من خصمه وهذه الثورة!
إن الإنسان الناجح، لا يفرح روحيًا بسقوط غيره.
بل إنه في هدوئه، يشيع الهدوء على الكل. ويجعل لقاءه بغيره هادئًا، سواء من جهته هو، أو من جهة هذا الغير. وإن وجد غيره هائجًا، يهدئه بالجواب اللين (أم 15: 1) وليس بالجواب المثير...
5- الإنسان الهادئ قد يكون هادئًا بطبيعته، وقد ولد هكذا. وقد يكون هدوؤه مكتسبًا.
والهادئ بطبيعته لا يبذل جهدًا لكي يصل إلى الهدوء، لأنه ينفر من كل ما هو هادئ أما هدوء المكتسب، فهو يحتاج إلى جهد، وإلى تداريب سنعرض لها في حينها إن شاء الله. وكل جهد في الوصول إلى هدوء، له مكافأته وأجره.
ومثل هذا الشخص قد يصل إلى هدوء تدريجيًا. فإن وصل، لا يعود يبذل جهدًا، بل يكون ثابتًا وراسخا في حياة الهدوء، وله فيها خبرات... ولذلك فإنه يحافظ على هذا الذي اقتناه بتعب، وبمعونة كبيرة من النعمة.
وكمثال للهدوء الذي ينال بالتدريب، القديس موسى الأسود.
إنه لم يولد هكذا، بل كان في بدأ حياته قاسيًا قتالًا. ولما دخل في حياة الرهبنة، أخذ يدرب نفسه على الهدوء حتى أتقنه. لدرجة أنه لما دُعِيَ لسيامته قسًا، وأمر البابا بطرده لاختباره، خرج القديس موسى الأسود في هدوء وهو يبكت نفسه، دون أن ينزعج من الداخل. ولما سمحوا له بالرجوع، عاد وهو هادئ، دون أن يشعر بجرح في كرامته... لذلك لم يكن غريبًا أن يراه أحد القديسين في رؤيا، والملائكة تطعمه شهد العسل.
وأنت، إن كنت غير هادئ الطبع، لا تحتج قائلًا: ماذا أفعل؟! ولدت وطبيعتى هكذا..!
حتى إن كنت قد ولدت هكذا، أو رثت عدم الهدوء عن أب أو أم، فليس هذا بعذر. تستطيع أن تغير هذا الذي قد ورثته. فالذي لم ينل الهدوء الطبيعة، يمكنه أن ينال الهدوء المكتسب... يدرب نفسه عليه، ويجاهد لكي يقتنيه... فالطباع التي يولد بها أي شخص، ليست بالأمر الثابت غير القابل للتغير، فما أسهل أن تتغير إن وجدت النية الطيبة، والعزيمة الصادقة، والتعب والجهاد... حينئذ يمنحك الرب قلبًا جديدًا، وينزع منك قلب الحجر، ويعطيك قلب لحم، فهكذا وعد (خر 36: 26).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/calmness/true-calm.html
تقصير الرابط:
tak.la/t2z7gfh