الدليل الأول:
تعليم المسيح التمهيدي، وفيه نرى عجائب وغرائب وملاحظات دقيقة تخفي على كثيرين، مع أنها براهين ناطقة وأدلة ساطعة أمام المؤمنين تثبت صحة هذا التعليم الإلهي.
فقال لجماعة اليهود "«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ». فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هذَا الْخُبْزَ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا" (يو6: 32-35). هذه كلمات تثبت هذه الحقيقة ولا تدع مجالًا للشك. هل فيها شيء من الريب يحتمل المعنيين؟ يجعل قومًا أن يَدَّعُوا أن هذه الكلمات تبرهن على الإيمان فقط. ولكن مهلًا أيها الأعزاء، يقول الكتاب أن اليهود لما سمعوا هذه الكلمات تَذَمَّرُوا عليه. فلماذا تذمروا؟ السبب هو حسب إعلان الوحي "لأنه قال أنا هو الخبر الذي نزل من السماء"، وقالوا: أليس هو يسوع بن يوسف، فكيف يقول انى نزلت من السماء؟! فقال يسوع: لا تتذمروا فيما بينكم. لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ، إن لم يُعْط من أبي". فالمسيح لم يغير لهم التعليم، ولم يقل لهم أنتم أخطأتم المرمَى، أنا اقصد الإيمان واتِّبَاعي روحيًا. ولكنه بالرغم من تذمر اليهود نراه يكلمهم بأجلَى وضوح قائلًا: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ... لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ..." (يو 6: 48-58). أتعطينا جسدك لنأكل ودمك لنشرب؟ هذا شيء مدهش جدًا وكلام غیر معقول، ولكن مع كل ذلك لم يتحول المسيح عن نص الكلمات التي قالها؛ فإنه له المجد لما رأى اليهود تخاصموا وتطاحنوا وحاربوا بعضهم بعضًا قائلين "كيف يعطينا جسده لنأكل؟!" لم يعتذر ويقول لهم إني لم أقصِد ما فهمتم لأني عجزت عن التعبير عما يجول بفكري، ولكنه قال بصراحته العجيبة "الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حيوة فيكم" (يو 6: 53). هل أنا جئت لِمُرَاعَاة خواطِر الناس؟ كلا! كلا! أنا جئت لأؤسس شريعة الفضل والكمال، وأنادى للحق بدون تغيير وان كان حَقًّا مُرًّا، أنا جئت لأعطى تعليمي ناصع البياض لا غِش فيه، وأقول الحق مهما وقف كالشوكة في الحَلْق، فَمَنْ يقبل يقبل وَمَنْ لا يقبل يهلك. هذا قول يسوع المسيح يا أَحِبَّة الرب. فعوضًا عن أن يُطَيِّب خواطرهم، قال لهم: أن لم تقبلوا تعليمي فإنكم تهلكوا. ثم يتقدم بكل صراحة قائلًا "مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله حيوة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه" (يو6: 54-56).
أيها الأعزاء:-
إن هذا الكتاب الذي بيدي من جمع وطبع بعض المقاومين لهذه العقيدة، ولكن الله لا يترك نفسه بلا شاهد، فلما نأتي إلى تفسير كلمة حق في آخر الصحيفة التي في الحاشية، نَجِد شيئًا أكثر وضوحًا مما قيل في المتن وتفسيرها هو حقيقي أو بالحقيقة، فانظروا أيها الأعزاء مِقدار هذه الكلمات الثلاثة: جسدي مأكل حق أو حقيقي أو بالحقيقة، ودمي مشرب حق أو حقیقي أو بالحقيقة. فهل هذه الكلمات يدخلها ريب أوشك من أمامها أو من خلفها؟!
أقول لكم كلا وألف كلا، أنها كلمات واضحة لا شك فيها.
لم يقف التذمر عند حد اليهود، بل تَسَرَّب اختلال الإيمان إلى جماعة التلاميذ أنفسهم -ولا تظنوا أني اقصد الاثني عشر، إذ كان كثيرون ممن يسمعون تعاليم السيد المسيح تلاميدًا له- واسمعوا ماذا يقول الوحي الإلهي: "فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعب. مَن يقدر أن يسمعه؟!" (يو 60:6). فهل عمل يسوع المسيح على تطييب خاطرهم؟ كلا! فأنه لما علم أن التلاميذ يتذمرون، وَبَّخَهُم على ضعف إيمانهم، وأراد أن يبين لهم مِقدار سُلطانه وقوته فقال لهم: أهذا يعثركم؟ فان رأيتم ابن الإنسان صاعدًا إلى حيث كان أولًا. أي إذا كنتم تشكون في قدرتي على إعطائكم جسدي مأكلًا ودمي مشربًا، فماذا يكون موقفكم عندما تروننى صاعدًا إلى السماء؟ ألا يزول الشك حينئذ من قلوبكم وتؤمنون إني ابن الله القادر على كل شيء.
اسمعوا اسمعوا یا تلاميذ "الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئًا. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحيوة". لا تتكلوا على الشيء الحسي الملموس المُشَاهَد، فإن الإيمان ضد العيان، الإيمان له قدرة تفوق إدراك البشرية: "جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق". فلم يقبل كثير من تلاميذه هذه التعاليم، ورجعوا إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه. لأنهم وجدوا أن هذه التعاليم لا يطيقها العقل البشري. فهل ذهب المسيح لِيُطَيِّب خواطرهم، وقال لهم تعالوا يا تلاميذی أنا أفهمكم كما تريدون. أنا اعدل لكم التعليم حسب عقولكم؟! كلا! كلا! بل نراه على الضد من ذلك، إذ التفت إلى الاثني عشر وقال لهم: "ألعلكم انتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟! فأجابه سمعان بطرس: يا رب إلى مَن نذهب كلام الحيوة الأبدية عندك". من هذه الأقوال والتعاليم نتأكد تأكيدًا ثابتًا أن يسوع المسيح قصد ما قال.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
أيها الأعزاء:-
ما القصد من مجيء المسيح إلى العالم؟ هل لتضليله جاء أم لإرشاده؟ بكل تأكيد تجيبون: لقد جاء له المجد لإرشاد العالم وتعليمه الحق الناصِع البياض: فهل مَن يكون هذا مقصده يكون باطن تعاليمه بخلاف ظاهرها؟ كلا: ولا كيف تُفْهَم أن لم تكن صريحة ظاهرة المعنى حتى يدركها الجميع، ومع كون يسوع المسيح لا يتغاضَى عن أحد ويفهمه كل الحق، فإنه أيضًا لا يراوِغ في الحق أبدًا، ومع التسليم جدلًا أنه تغاضَى عن اليهود، فما قولكم في التلاميذ أنفسهم؟! اتركوا اليهود على سبيل الفرض. شك التلاميذ ولم يقبلوا الكلام، أما كان المسيح عالمًا بما في أفكارهم وبضعف إيمانهم، وإنهم شكوا ولم يقبلوا التعليم ولم تَسْتَسِغْهُ عقولهم؟ نعم، كان عالِمًا بذلك. فهل كان يسوع المسيح عاجزًا عن إظهار حقيقة التعليم لهم، إذا لم يكن قوله هو الحق؟ أم هو يخفي عنهم الحق؟ ألم تكن رغبة المسيح تَقويَة إيمانهم وتقويم اعوجاج ضمائرهم، وإزالة ما فيهم من شك وعدم إيمان؟ نعم، وهو لهذا كان يكلمهم كلامًا حقيقيًا لا شك فيه. ولا ريب كان هذا قصد المسيح، فهل كان -له المجد- ضعيفًا في اللغة حتى أنه لم يستطع أن يُفْهمهم الحقيقة بعبارة تقبلها عقولهم، أو بالحري يقبلها الذين في الإيمان؟ أما اللغة يا حضرات الأحباء، فإني لست في حاجة أن أقول لكم أنه هو خالق جميع اللغات وهو حكيم الحُكماء وخالق السموات والأرض وكل ما فيها، هو فيلسوف الفلاسفة يصوغ من الألفاظ ما يفك كل مُعْضِلَة، ويحل كل مشكلة لِيُبَيِّن مَرْمَاه ومقصده واضحًا جليًّا.
ومن هذه المُباحثة التمهيدية التعليمية، نرى أن يسوع المسيح كان يقصد حقًا أنه سيعطي كنيسته الطاهرة جسده ودمه الأقدسين عهدًا للمُصالحة الجديدة بينه وبين البشر.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iskander-hanna/eucharist/teachings-of-christ.html
تقصير الرابط:
tak.la/w4ht5pn