وإن كانت تعوزنا القدوة في وقتنا الحاضر فنرجع إلى الكتاب المقدس لنجد فيه الأمثلة عن مختلف الفضائل. والدرس الأول الذي نستقيه عن الشجاعة يأتينا من رصفة بنت أية التي امتازت ببسالة نادرة. فقد كانت احدي نساء شاول الملك. وبعد سقوطه صدر الآمر بصلب ابنيها وخمسة من أحفاد شاول معهما. ولما كان المعلق على خشبة ملعونًا فقد كان دفنه يستلزم اذنًا خاصًا. ومن غير صدور هذا الاذن يظل جسمه معلقا على الصليب طعاما للجوارح نهارًا وللوحوش ليلًا. ولما نفذ الحكم على هؤلاء الرجال السبعة المنحدرين من صلب شاول أخذت رصفة مسحًا وفرشته على الصخرة مقابل المكان الذي أقيمت فوقه الصلبان السبعة وجلست تحرس الجثث ابتداء من حصاد الشعير حتى انصب عليهم الماء من السماء. فتمكنت بهذه الحراسة من أن تمنع الجوارح والوحوش عن جثث أحبائها. ولكي نعرف مدى تفانيها وبسالتها علينا أن نعرف أنها ظلت على هذه الحراسة مدى خمسة أشهر. وليس من الصعب أن نتصور هذه الصورة الموجعة: صورة امرأة محزونة القلب جالسة على المسوح أو واقفة أحيانًا لتصد الجوارح والوحوش عن جثث ولديها وأبماء أخوتهم. وهي صورة قاتمة لا يلقي عليها ضوء غير تفاني هذه الأم الثكلي. ولئن كان أتباع شاول قد خانوا عهده بعد مقتله فانهم أمنعوا في الابتعاد عنه ساعة أن نفذ في سبعة من سلالته حكم الصلب. ولم يوجد بين كل المنتمين إلى بيت شاول ومن كانت لديه الشجاعة الكافية أو الولاء الكافي للذود عنهم في حياتهم ولا للتعرض لمخاطر الجوارح والوحوش دفاعًا عن جثثهم في موتهم. فلم يقف إلى جانبهم غير رصفة، أم اثنين منهم وزوجة لجد الخمسة الباقين(62).
ورصفة -في آلامها- صورة لجميع الأمهات أو الأخوات أو الزوجات اللواتي يسهرن في محبة إلى جانب أسرة أحبائهم المرضي أو يقفن في حسرة أمام قبورهم. وهي أيضًا صورة لجميع الذين يتحملون الآلام نتيجة لأخطاء الآخرين. فلقد خلق الله الناس مترابطين. وهما قيل من أن الإنسان مسئول عن عمله فقط فإن الكتاب المقدس يقدم لنا الدليل على الترابط الإنساني. والا فلماذا أعلن لنا الله بأن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون؟ ثم لماذا قال تعالي بأنه يصنع الرحمة مع محبيه وحافظي وصاياه إلى الجيل السادس والسابع؟ أن الواجب يقضي على كل مفكر أن يتمعن في هذا الأثر الذي تحدثه أعماله في الآخرين لأنه سيدرك إذ ذاك المسئولية الموضوعه عليه من الخالق نحو مخلوقيه.
ورصفة أيضًا صورة لمن يعرفون أن يواجهوا الحياة بلا مواربة ولا استكانة: فقد لبست الب والأرجوان ولاقت كل إكرام وهي في قصر الملك. فلما تبدل هذا النعيم بؤسًا اتشحت بالرماد وجلست على الصخرة الجرداء خمسة شهور لا يثنيها حر ولا برد ولا تخيفها الجوارح والوحوش. ظلت على ثباتها ووفائها إلى أن بلغت هدفها فرأت جند داود ينزلون أجساد أحبابها ويدفنونها في القبر الملكي. فهي قد ثابرت على تأدية الواجب إلى النهاية.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى الشبه بين رصفة وبين النسوة اللواتي تبعن الفادي الحبيب إلى صليبه. لقد كان يقال عن الصليب أنه خشبة اللعنة. ولم تكن النسوة السائرات خلف يسوع الواقفات عند صليبه يعرفن بانه سيمحو هذه اللعنة ويجعل من الصليب خشبة البركة. فسيرهن خلفه ووقوفهن تحت صليبه إلى النهاية إنما كان لولائهن له ومحبتهن فيه. وكان هذا الولاء وهذه المحبة من القوة بحيث ملأهن شجاعة الوقوف حول خشبة اللعنة في الوقت الذي جبن فيه الرجال فهربوا وتفرقوا(63).
_____
(62) (2 صموئيل 21: 1-14).
(63) ووقوفهن جعلهن عرضة للاستخفاف والسخرية ولولا أن رب المجد فيه الكفاية وحده لتعرضن للقتل أيضًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/woman-christ/rizpah.html
تقصير الرابط:
tak.la/4tx4ggk