14- أعجب كنيسة: تسالونيكي:
+ وانتقلا من هناك إلى تسالونيكي. وكعادة بولس ذهب إلى المجمع أولًا. فآمن البعض ورفض البعض الآخر. وكان بين المستمعين عدد غير قليل من اليونانيين. ولم يستطع اليهود المقاومون أن يتقبّلوا صورة السيد المسيح المهان الذي انتهى على الصليب. فهيجوا الرعاع والمشاغبين والعاطلين ضده إلى درجة أن بولس لم يتمكن من الظهور في الشارع. وبعد شهرين من الفشل الظاهر اضطر إلى مغادرة المدينة. وهنا نرى القوة الباطنية للمسيحية إذ كان من المتوقع أن تموت الكنيسة التي ما كادت تتنفس حتى داهمها البطش. ولكن، ألم يقل السيد المسيح أن ملكوت الله يشبه البذرة؟ والبذرة تحتوي حياة مختبئة، تحّتم عليها حياتها المختبئة أن تنمو. والتسالونيكّيون صورة لأسرع نمو حدث في الكنيسة عامة. ففي شهرين فقط نشأت كنيستهم وبقيت. وحين كتب بولس رسالته إليهم قال فيها: "وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ، إِذْ قَبِلْتُمُ الْكَلِمَةَ فِي ضِيق كَثِيرٍ، بِفَرَحِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَتَّى صِرْتُمْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وَفِي أَخَائِيَةَ. لأَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ قَدْ أُذِيعَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ، لَيْسَ فِي مَكِدُونِيَّةَ وفي أَخَائِيَةَ فَقَطْ، بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَيْضًا قَدْ ذَاعَ إِيمَانُكُمْ بِاللهِ" (تسالونيكي 1: 6-8).
+ فكم هو جدير بنا أن يتضاعف إيماننا بقوة البذرة الحية. فنحن نبذر بذار الحياة الأبدية وليس من قوة تستطيع أن توقفها: إنها تحتوي الحياة ذاتها. ولما اضطر بولس ومن معه إلى مغادرة تسالونيكي قسرًا ذهبوا إلى بيرية حيث قابله اليهود لأول مرة بالتعقّل وبفحص الكتب. وكان بينهم يونانيون أيضًا. ويقول عنهم الكتاب: "فَآمَنَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ النِّسَاءِ الْيُونَانِيَّاتِ الشَّرِيفَاتِ، وَمِنَ الرِّجَالِ عَدَدٌ لَيْسَ بِقَلِيل" (أعمال 17: 12)(1). على أن يهود تسالونيكي لم يكتفوا بإخراجه من مدينتهم بل تابعوه إلى بيرية وهيّجوا الجموع فيها، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فخاف الأخوة وأرسلوه نحو البحر. والذين صاحبوه أوصلوه إلى أثينا.
+ وهنا أيضًا نقف لنبهت، فزيارة بولس لهذه العاصمة كانت أفشل زيارة! ولكن لو دققنا قليلًا لعرفنا السبب. فقد كانت هذه المدينة - إلى جانب أصنامها العديدة - مركزًا للفلسفة الإنسانية حيث يرتكن الناس على عقلهم فقط، وحيث يتباهون بفصاحتهم وبلاغتهم فلم يستطيعوا استساغة ما وصفه رسول الأمم "بجهالة الله" التي أثبت أنها أحكم من حكمة الناس إلا أنه على الرغم من الفشل نجد أشخاصًا التصقوا به وآمنوا: "مِنْهُمْ دِيُونِيسِيُوسُ الأَرِيُوبَاغِيُّ، وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا دَامَرِسُ (داماريس) وَآخَرُونَ مَعَهُمَا" (أع 17: 34). ولنلحظ دقة إبراز المرأة وإيمانها في هذا السفر العجيب، إنه إعلان عن محو اللعنة القديمة وتوكيد للنعمة التي شاء الخالق المبدع أن يمنحها للمرأة ليجعل منها خادمة له وحاملة لرسالته.
+ ومن اللائق بل من الجدير أن نذّكر أنفسنا باستمرار بجملة ذات أهمية وردت في حديث بولس إلى الأثينيين وهي: "وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ،" (أع 17: 26). أليس في هذه الكلمات دليل آخر على أن الشعوب جميعًا -على اختلاف أجناسها- قد احتفظت في عمق أعماقها بالوعد الإلهي بالفداء؟(2).
_____
(1) ألا نرى في مداومة حضور اليونانيين لسماع الكلمة حيثما ذهب بولس تجاوب أعماقهم للعمق الإلهي؟ أليس في هذا التجاوب الدليل على أن وعد الله للمرأة بأن نسلها سيسحق رأس الحية قد كمن داخل قلوب البشر جميعًا؟ فما أن ومض أمامهم تحقيق الوعد حتى سارعوا إلى الإيمان به.
(2) أنظر "مسيحنا فوق الزمان" و "لماذا نسينا؟" للمؤلفة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/paul-the-apostle/thessaloniki-church.html
تقصير الرابط:
tak.la/warsfq3