تدور فكرة "لاهوت الأديان" حول إن الله هو محور جميع الديانات، سواء كانت هذه الديانات هندوسية أو بوذية أو يهودية أو إسلام أو عبادة أوثان... إلخ، وقام "لاهوت الأديان" على أساسين هما:
1- إن الله الصالح يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.
2- إن لله طرق خاصة نحن نجهلها، وبواسطة هذه الطرق يحقق الخلاص لجميع البشر في جميع الديانات.
ويوضح الأب عزيز الحلاق هذه الفكرة فيقول "إن لاهوت الأديان في الفكر المسيحي (يقصد في الفكر الكاثوليكي) يستند إلى مقولتين... المقولة الأولى: هي تأكيد إرادة الله الخلاصيَّة التي تشمل كل البشر... والمقولة الثانية: نقول بأن الله بداعي إرادته الخلاصيَّة الشاملة يستعمل طرقًا أخرى نجهلها كي يحقق الخلاص للبشر في أوضاعهم الخاصة. صحيح إن يسوع هو المخلص الأوحد، ولكن كل إنسان يستطيع نيل الخلاص هذا مهما كان وضعه، وانتماؤه الديني، أو الثقافي. غرس الله في الأديان والشعوب حقيقته وإرادته اللتين أودعهما الكنيسة. لقد عبَّر المجمع الفاتيكاني الثاني عن هذا الموقف عندما قال {فالكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ شيئًا مما هو حق ومقدَّس في هذه الديانات، بل تنظر بعين الاحترام الصادق إلى تلك الطرق طرق المسلك والحياة}" (14).
وعلى مدار القرن العشرين برز عدَّة رجال من رجال اللاهوت الغربي، وكلٍ منهم وضع لبنة في بناء عقيدة لاهوت الأديان، مساوين بين المسيحية وبقية الأديان، وفيما يلي نعرض باختصار لخمسة أشخاص من هؤلاء مع عرض سريع لأفكارهم:
1- إرنست ترولتش
2- كارل بارت
3- كارل راهنر
4- هانس كونغ
5- جاك دوبوي
1- إرنست ترولتش Ernst Troeltch:
هو صاحب فكرة أن المسيحية لا تمتلك " الحقيقة المطلقة"، فهو لاهوتي بروتستانتي ألقى محاضرة سنة 1902م بعنوان " المسيحية في صفاتها الكونية وتاريخ الأديان " وقال لا يصح أن تنسب المسيحية لنفسها صفة الأبدية والحقيقة المطلقة، وعندما قال "هيجل" بأن المسيحية تعتبر قمة التطور الديني، أي أن المسيحية تعتبر أرقى الديانات، رفض ترولتش هذا الرأي، وجاء في مجلة الشرق اليسوعية سنة 1996م حول مؤتمر لاهوت الأديان " ترفض (نظرة ترولتش) إدعاء هيجل أن المسيحية تمثل قمة التطور الديني لدى البشرية، فالأديان الأخرى، وفق التطور التاريخي، لا تقل في نظره شأنًا عن المسيحية... يجب أن تتخلى المسيحية عن قولها بأنها تمثل الحقيقة الأبدية الشاملة... وعندما يقارن ترولتش بين الأديان يعتبر المسيحية من أرقى أنواع الحياة الدينية المعروفة... يصعب تصوُّر أوروبا من دون المسيحية، فهي جزء لا ينفصل عن الثقافة الأوربية، لذلك هي الديانة المطلقة للإنسان الأوربي... إن المطلقية مسألة شخصية، مما يجعل المقارنة بين الأديان أمرًا مستحيلًا... وفي نهاية المطاف فإن الله وحده قادر أن يقارن بين الأديان لأنه هو الذي سمح بتعدديتها" (15).. لقد أنكر ترولتش أن المسيحية تمتلك " الحقيقة المطلقة " لأن الديانات الأخرى تمتلك حقائق أيضًا.
2- كارل بارت Karl Barth (1886 - 1968م):
هو صاحب فكرة أن الدين يمثل جهدًا بشريًا لمعرفة الله، ولذلك كل دين يحوي صوُّر مشوهة وأصنامًا بعيدة عن الله الحقيقي، وقد وُلِد كارل بارت في 10 مايو 1886م في مدينة بازل السويسرية، وكان والده أستاذًا في كلية اللاهوت، ودرس كارل بارت "لاهوت التحرر" في برلين وبعض الدول الألمانية، ولكنه عندما عمل راعيًا لكنيسة في جنيف بسويسرا أدرك أن "لاهوت التحرر" لا يسد احتياجات شعبه الروحية، فعكف على دراسة الكتاب المقدَّس بفكر جديد، وقام بتدريس "اللاهوت النظامي" في جامعات ألمانيا خلال الفترة 1921 - 1935م وألف خمس وعشرين مجلدًا في اللاهوت النظامي، بالإضافة إلى عشرين كتابًا آخر، وبينما كانت مدافع الحرب العالمية الأولى تدوي كان بارت يدرس الكتاب المقدَّس ويتكلم عن الإيمان التلقائي.
وفي خلال الفترة بين الحربين العالميتين كان كثيرون من رجال اللاهوت البروتستانت الألمان يعتبرون أن المسيحية مجرد نتاج بشري، ويعتبرون أن الوحي هو محصلة المعرفة التاريخية التي جمعها الإنسان عن ذاته وعن الله، فهاجم بارت هذه الأفكار، وقال وإن كان الدين يمثل الجهد الإنساني لمعرفة الله، إلاَّ أن الوحي هو المعرفة التي يكشفها الله عن ذاته، وهكذا أعتبر بارت أن الدين يمثل الجهد والنشاط الإنساني للوصول إلى إدراك الله، وقد "يستعيض الإنسان عن صورة الله الحقيقية بصورة من صنعه وبنات أفكاره، ويرى بارت في كل ديانة أصنامًا تبعد عن الله الحقيقي. لا يستثني بارت المسيحية... إن المسيحية كسائر الأديان ليست في مأمن من هذا التشويه، لذلك ينفي بارت وجود ديانة حقيقية" (16).
3- كارل راهنر Karl Rahner (1904 - 1984م):
وهو صاحب فكرة أن الأديان الأخرى تحتوي على قيم أخلاقية وروحية وثقافية، فيمكن أن تكون طريقًا لخلاص أتباعها، وراهنر هو من رجال اللاهوت الألمان، وقد ساعد في صياغة قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني الخاصة بخلاص غير المؤمنين، ويقول الأب عزيز الحلاق عن فكر راهنر "ينطلق لاهوت راهنر من حيث ينتهي بارت، فهو يقر استنادًا إلى تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني بالقيم الأخلاقية والروحية والثقافية لدى الأديان الأخرى، بل يؤكد أن الأديان غير المسيحية يمكن أن تكون طريق لخلاص أتباعها، وهذا معناه أن نعمة الله تعمل أيضًا خارج المسيحية، وإن غير المسيحيين يمكن أن يخلصوا بطرقهم الخاصة حتى إذا لم يعرفوا المسيحية... يقر راهنر أنه من المستحيل حتى من الناحية اللاهوتية الحكم على الملايين بالهلاك لمجرد انتمائهم إلى ديانة غير المسيحية... فهناك وسائل مختلفة للخلاص" (17).
4- هانس كونغ Hans Kong:
هو صاحب فكرة إنشاء مشروع أخلاقي شمولي تقبله كل الأديان، ولعل كونغ قد تأثر بالمذهب الأخلاقي المنبثق من مدرسة النقد الأعلى، والذي تزعَّمه إيمانويل كانط (1724 - 1804م) والذي اهتم بالتعاليم الأدبية والأخلاقية أكثر من العقائد والتاريخ والنبوءات فقال إن:
أ - الهدف الرئيسي من الأديان هو التشريعات الأدبية والأخلاقية.
ب- لأن مبادئ الأخلاق واحدة في العالم، لذلك لا يوجد إلاَّ ديانة طبيعية واحدة.
ج- تقاس صلاحيته بمدى قربه أو بعده عن هذه الديانة الطبيعية وليس بالوحي.
وأيضًا لعل الرئيس السادات اقتبس فكر كونغ عندما فكر في إنشاء " مجمع الأديان " الذي يجمع ديانات التوحيد الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.
وهانس كونغ لاهوتي ألماني نشر كتابًا سنة 1985م عرض فيه لعقائد البوذية والهندوسية والإسلام كما يفهمها أصحابها، وفي سنة 1990م نشر كتابًا تحت عنوان "مشروع لأخلاق شمولية" كمحاولة لإيجاد القاسم المشترك بين الأديان المنتشرة في أوروبا وأمريكا، فقد رأى كونغ " أن التعايش بين الأديان المختلفة يجب أن يقوم على أساس قانون مشترك يخضع له الجميع، ولكن مثل هذا القانون يتطلب وجود قيم وقواعد ومعايير أخلاقية يقر بها الجميع، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. من هنا الضرورة لمشروع أخلاقي شمولي يقوم على أُسس أخلاقية يقبل بها الجميع على الرغم من الاختلافات العقائدية بين الأديان" (18) وبينما لاقى مشروع كونغ استحسانًا من البعض، فقد لاقى استهجانًا من قِبل الباحثين غير المسيحيين إذ رأوا فيه مشروعًا إمبرياليًا جديدًا يتستر تحت قناع اللاهوت.
5- جاك دوبوي Jacques Dupuis:
وهو صاحب فكرة أن السيد المسيح حاضر وفاعل في كل الأديان، فهو يخص كل الأديان، بل بالحري كل الأديان خاصته، وجاك دوبوي بلجيكي الأصل، وقد عاش في الهند ثلاثين عامًا اطلع خلالها على العبادة الهندوسية وتحاور مع أتباعها، وفي سنة 1996م درس في الجامعة الغريغورية في روما، وأصدر كتابه الشهير "يسوع المسيح في لقائه مع الأديان" فاعتبر أن المسيح حاضر وفاعل في كل الشعوب والأديان، وبالتالي فإن العامل المشترك بين الأديان هو " سر المسيح " فيقول دوبوي " الشمولية تكمن في المسيح، فهو يخص كل الأديان، بل بالحري كل الأديان خاصته وفاعل بها بقدر ما هو حاضر وفاعل في كل البشر... كما يمكن التعرف أيضًا في كتب الأديان الأخرى، كلامًا إلهيًّا لا يخاطب فقط أتباع هذه الديانات بل المسيحيين أنفسهم" (19) ويؤكد جاك على أن المسيح موجود في الأديان الأخرى فيقول "فعلى سبيل المثال، يعتقد المسلمون أن المسيح هو نبي خاص حقًا، في حين يعتقدون بأن محمدًا هو " النبي " ويقول البوذيون أن يسوع هو مجرد " بوذيتافا" (مؤهل للوحي) في حين "كوتاما" هو البوذا" (20).
فقد اعتبر دوبوي أن " سر المسيح " منطلق العلاقة بالآخر، ورأى دوبوي أنه يوجد لاهوت متعدد للأديان مثل اللاهوت الهندوسي واللاهوت البوذي. إلخ. وهذا اللاهوت المتعدد يقر بالفوارق بين الأديان، ويقرُّ التعددية، بعكس اللاهوت الموحَّد الذي يسعى لجمع الأديان تحت مظلة واحدة، ويعلق الأب عزيز الحلاق قائلًا " هذا المنطق يفتح الباب لوجود لاهوت متعدد للأديان يقرُّ بالفوارق الموجودة بينها ويعكس تعددية التقاليد الدينية لدى البشرية بعكس اللاهوت الموحد الذي يسعى إلى لاهوت شامل يجمع جميع الأديان تحت مظلة واحدة... لأن لاهوت الأديان غايته البحث عن أسس الشمولية... عندما يطبق دوبوي هذا المبدأ على لاهوت الأديان المسيحي يعتبر سر المسيح هو مبدأ الشمولية، وليس الكنيسة كما هو شائع في اللاهوت التقليدي" (21).
وقد استمد جاك دوبوي أفكاره من كلود جِفْرة Claude Geffre اللاهوتي الفرنسي الذي أصدر كتابه " المسيحية عرضة للتأويل " ولخص الخطوط العريضة لهذا الكتاب في مقال نشره سنة 1985 بمجلة إسلامو كرستيانا (المختصة بالحوار الإسلامي المسيحي) وقال بما معناه أنه بعد مرور عشرين عامًا من انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني لم يدرك الكاثوليك " لاهوت الأديان " فأخذوا يؤكدون على الصفات التي تنفرد بها المسيحية، وهذا نوع من احتواء الآخر.
ومن رجال الشرق الذين تبنوا عقيدة خلاص غير المؤمنين الآباء اليسوعيين (الجزويت) ومنهم الأب عزيز الحلاق اليسوعي، والأب لاسلو صابو اليسوعي، والأب فاضل سيداروس اليسوعي، والأب جوزيف بوُحَجَر، فمثلًا لخَّص الأب عزيز الحلاق اليسوعي عقيدة خلاص غير المؤمنين في أن الإنسان يمكنه أن يَخلُص خارج الكنيسة فقال " إن المسيح هو الطريق الوحيد الذي يعطي من خلاله الله ذاته للبشر، والمؤمنون من الديانات الأخرى يمكنهم تحقيق هذا اللقاء (مع المسيح) بصورة ضمنية... إن الله حاضر لمؤمني الأديان الأخرى في ممارسة دياناتهم وإيمانهم... وهكذا يبقى سر الخلاص واحد، وهو سر المسيح، ولكن هذا السر هو بمتناول جميع البشر حتى خارج حدود المسيحية... إن الله يلتقي بالبشر خارج المسيحية في المسيح، ولكن وجهه الإنساني يبقى مجهولًا، أما في المسيحية فإن لقاء الله والبشر يتم في وجه يسوع الإنساني الذي يعكس صورة الآب. فإن كان الله في كل ديانة يقترب من الإنسان، فإن هذا الاقتراب يتحقق في المسيحية في إنسانية يسوع المسيح... إن حضور سر المسيح في الأديان الأخرى يتطلب من المسيحي انفتاحًا واستقبالًا للآخر بروح التمييز... وإذا أصبح سر المسيح منطلق لاهوت الأديان فيجب ألا نغفل دور الروح القدس الذي يتجاوز تأثيره حدود الكنيسة. إن الروح يعمل في المؤمنين من الأديان الأخرى... علينا أن نتمسك بأن الروح القدس يقدم للجميع الإمكانية للاشتراك في سر الفصح بطريقة يعرفها الله وحده" (الكنيسة في عالم اليوم 22/5) (22).
وأخيرًا أرجو التمعن في العبارات الآتية:
أ- "كل إنسان يستطيع نيل الخلاص. هذا مهما كان وضعه، وانتماؤه الديني والثقافي" (خارج الكنيسة) (الأب عزيز الحلاق).
ب- "في كل ديانة أصنامًا تبعد عن الله الحقيقي، ولا توجد ديانة حقيقية ولا حتى المسيحية" (كارل بارت).
ج- "الأديان غير المسيحية يمكن أن تكون طريق لخلاص أتباعها... وإن غير المسيحيين يمكن أن يخلصوا بطرقهم الخاصة حتى إذا لم يعرفوا المسيحية" (كارل راهنر).
د - "المسيح يخص كل الأديان، بل بالحري كل الأديان خاصته" (جاك دوبوي).
ه- "المؤمنون من الديانات الأخرى يمكنهم تحقيق اللقاء (مع المسيح) بصورة ضمنية، وإن الله حاضر لمؤمني الأديان الأخرى في ممارسة ديانتهم وإيمانهم... إن الله في كل ديانة يقترب من الإنسان" (الأب عزيز الحلاق).
_____
(14) هل من خلاص لغير المؤمنين - مؤتمر حول " لاهوت الأديان " ص 344.
(15) هل من خلاص لغير المؤمنين؟ ص 345، 346.
(16) هل من خلاص لغير المؤمنين؟ ص 346، 347.
(17) هل من خلاص لغير المؤمنين ص 349.
(18) هل من خلاص لغير المؤمنين ص 350، 351.
(19) هل من خلاص لغير المؤمنين ص 352.
(20) المرجع السابق ص 367.
(21) هل من خلاص لغير المؤمنين ص 351.
(22) هل من خلاص لغير المؤمنين - مؤتمر حول " لاهوت الأديان " ص 357 - 359.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/unbelievers/theology.html
تقصير الرابط:
tak.la/sjx5jd9