نلقي في هذا الفصل نظرة على الذين طالبوا بإلغاء العهد القديم، ولماذا فكروا هكذا؟ مع إن العهد القديم له الفضل الأول في إرساء علاقة الإنسان بخالقه الواحد، في عصر تاه فيه الإنسان في غياهب الوثنية، والعهد القديم هو المرجع الوحيد الصحيح في العالم كله الذي يخبرنا عن قصة وجودنا على هذه الأرض، حيث خلقنا الله من العدم بعد أن رتب لنا كل الأمور، وسقوطنا بغواية الحيَّة القديمة إبليس، وتعهد الله لنا بالمراحم والرآفات، وإن كان الله قد طرد الإنسان الأول من الفردوس عقب سقوطه، فإن ذلك كان خوفًا عليه لئلا يأكل من شجرة الحياة فيحيا إلى الأبد في خطيئته، ولذلك طرده من الفردوس إلى حين أن يتجسد ويرفعه إلى الملكوت السمائي، وخلال هذه الفترة لم يترك الله الإنسان إنما تعهده بالناموس والأنبياء، وقد هيئ ذهن البشرية لقبول فكرة تنازله وتجسده لكيما يحيينا من موت الخطية، ويهبنا حياة أبدية في ملكوته السماوي من خلال ابنه الوحيد وفاعلية روحه القدوس.
وللعهد القديم يرجع الفضل الأول في إرساء العلاقات الأسريَّة، ومنح المرأة حقوقها، وإليه أيضًا يرجع الفضل في إرسال العلاقات الاجتماعية، وإهتم العهد القديم بالأرملة، واليتيم، والفقير، والغريب، والأجير، والعبد، وساوى العهد القديم بين اليهودي والأممي، وأكد على نزاهة القضاء، وحسن معاملة الأعداء، وأوصى بالرفق بالحيوان ووحوش البرية.. إلخ.
وجاء الرب يسوع في العهد الجديد لكيما يشهد بصحة العهد القديم بصورة حاسمة وقاطعة وقوية، وبهذا ثبَّت العهد القديم ولم يلغه، وكشف لنا عن ارتباط العهدين معًا القديم والجديد، فأدرك الأباء أن العهد الجديد كان مستورًا في العهد القديم، والعهد القديم صار مشروحًا في العهد الجديد، وأدركنا أن المسيحية لم تأتِ من فراغ إنما لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ تصل بنا إلى جنة عدن. كما أدركنا مدى ارتباط العهدين معًا، فالمسيحية لم تأتِ من فراغ، بل جاءت من ملء العهد القديـم، وأدركنا أن مسيحية بدون عهد قديم سابق هي شجرة بلا جذور، فالعهد الجديد يتجذَّر في العهد القديم، فمن يفصل العهدين، فإنه يفصل الشجرة عن جذورها، فلا فائـدة تُرجى من شجرة بلا جذور، ولا من جذور بلا شجرة. كما إننا أدركنا جيدًا أن مسيحية بدون عهد قديم هي بناء ضخم ولكن بدون أساس، فمن يريد أن يفصل العهدين، فإنه يفصل المبنى عن أساسه، ولا فائدة تُرجى من بناء بلا أساس، ولا من أساس بلا بناء. حقًا إن العهد الجديد إرتبط بالعهد القديم، حتى إن إلغاء أحدهما لا بُد أن يسئ إلى الآخر.
وعلى نفس المنوال سار الآباء الرسل الذين دوَّنوا لنا العهد الجديد، مؤكدين على ثبات العهد القديم، وربطوا بين العهدين بصورة رائعة، وبذلك أصبح لزامًا على كل إنسان مسيحي الالتزام بالشريعة الأدبية للعهد القديم، ومطالعة ودراسة أسفار العهد القديم المقدَّسة، والتعلُّم من أحداث الكتاب وشخصياته، فهناك أعداد ضخمة من قديسي العهد القديم الذين نتشفع بهم. وإنعكس ارتباط العهدين معًا على إيمان الكنيسة وعبادتها، فشكَّلت العبادات الكنسيَّة نسيجًا واحدًا لحمته العهد الجديد وسداه العهد القديم، والذين ينادون بإلغاء العهد القديم أو أجزاء منه ويدَّعون أنهم مسيحيون، لا يدركون أن هذا الأمر يؤول إلى تمزيق الإيمان القويم وتشويه العبادة الحسنة، وأخيرًا نسوق في ختام هذا الفصل الحجج التي ساقها المبتدعون في هذا الشأن ونرد عليها.
والآن دعنا يا صديقي نناقش الأمور الآتية:
أولا ً: الذين يطالبون بإلغاء العهد القديم ودوافعهم.
ثانيًا: العهد القديم.. قصة الله والإنسان.
ثالثًا: العهد القديم أرسى دعائم العلاقات الإنسانية.
رابعًا: ارتباط العهدين القديم والجديد.
خامسًا: حجج القائلين بإلغاء العهد القديم والرد عليها.
أولًا: الذين يطالبون بإلغاء العهد القديم ودوافعهم
الدعوة لإلغاء العهد القديم ليست بجديدة، إنما قديمة جدًا، ويرجع تاريخها إلى الماركونية في القرن الثاني الميلادي، وطفت على السطح ثانية في القرن السادس عشر إبان الصراع بين الأرية والسامية، وإن كانت قد تجدَّدت حديثًا في هذا العصر لسبب أو لآخر، فهذا ما تعودنا عليه، وهو عودة البدع القديمة في زي جديد، وربما يكون الزي الذي إرتدته هذه البدعة اليوم زيًا سياسيًا، فالبعض فيما هم يهاجمون إسرائيل وأفعالها الخاطئة، فإنهم يطعنون في العهد القديم بهدف سياسي، وهم لا يدركون أن الهجوم على العهد القديم هو إساءة للعهد الجديد، ودعنا يا صديقي نتناول النقاط الآتية:
أولًا: الماركونيَّة والدعوة لإلغاء العهد القديم.
ثانيًا: الصراع بين الآرية والسامية والدعوة لإلغاء العهد القديم.
ثالثًا: الصراع مع إسرائيل والدعوة لإلغاء العهد القديم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/index2c.html
تقصير الرابط:
tak.la/2abzpsj