ويقول أوتو أ. بيبر " في كلمات أخرى إن الكتاب المقدَّس هو كلمة الله بسبب، وعندما يستخدمه الله كوسيلة النعمة التي تجعلني أؤمن بغرضه المُخلّص"(1) ويقول ريتشارد سن " إن معنى الوحي في الكتب المقدَّسة، وفقًا للمعنى المسيحي المنضبط، أن أجد فوق رسالة الله المرسلة إلى العالم أسمي وعنواني، وسلطان الكتاب المقدَّس يعني بالنسبة لي، ما تطلبه رسالة الله مني، طاعتي وإيماني، إذ ينبغي أن أنصت إلى ما يقول الله وأسرع إلى توجيه حياتي وفق مشيئته"(2) وبذلك يكون الوحي الإلهي مرتبط بقبولي لكلمة الله، فالكلمة التي أقبلها شخصيًا هي كلمة الله، والكلمة التي لا تؤثر فيَّ ليست هي كلمة الله، وبهذا يتحول الحق الكتابي إلى حق شخصي، فما لا يقبله الشخص فليس هو كلمة الله.
ج: المفهوم السابق لكلمة الله هو طعن في صميم الوحي الإلهي، فالوحي في المسيحية هو مطلق بمعنى أن جميع الأسفار المقدَّسة بكل ما جاء فيه هو بالحقيقة كلمة الله، التي حملها روح الله إلينا من خلال رجال الله القديسين، ولذلك فإن الكتاب المقدَّس ككلمة الله يحمل سلطانًا في ذاته، وليس في مدى قبولنا لكلماته وأفكاره، وإذا أخذنا بالمفهوم السابق فإن النص الواحد قد يتأثر به شخص دون الآخر، فهل هذا النص مُوحى به لأنه أثر في البعض، أم أنه غير مُوحى به لأنه لم يؤثر في البعض الأخر؟!!
ويقول د. ادوار ج. يونج " ما أوسع الفرق بين هذا الرأي المسيحي التليد وهذه المزاعم العصرية، فالرأي العصري لا يُرجع سلطان الكتاب إلى الكتاب ذاته، بل عندما يتقابل حق الكتاب مع الإنسان في ملاقاة إلهية إنسانية، عندئذ يصبح الكتاب في هذه الحالة الخاصة كلمة الله له... إن المسيحية التاريخية المؤسَّسة منذ مطلع تاريخها على الكتاب المقدَّس، تعلم على الدوام أن الكتاب هو ذاته كلمة الله ذات السلطان، والكتاب المقدَّس ذو سلطان سواء تمت هذه الملاقاة الإلهيَّة للإنسانية أو لم تتم، أو وصلت رسالته إلى النفس البشرية أو لم تصل، وسواء آمن الإنسان أو لم يؤمن، وسواء قبِل المسيح أو لم يقبل. إن سلطان الكتاب وفق الرأي المسيحي قائم بذاته، وراجع إلى الحقيقة الواحدة، إنه كلمة الله!!"(3)
لقد اعتقد الليبراليون بنظرية الوحي الطبيعي، فنظروا للوحي على إنه الحماس أو الإلهام الذي يلهم الشاعر أو الكاتب، كما كان إلهام هوميروس وأفلاطون، واعتقدوا أن بعض الترانيم موحى بها من الله، وخلطوا بين عمل الروح القدس في الإنارة وعمل الروح القدس في الوحي، فكثير من المؤمنين يستطيعون تأليف الترانيم الرائعة، بينما يعجزون عن كتابة سفر أو جزء من سفر موحى به من الروح القدس. إذًا هناك فرق جوهري بين مؤلفي الترانيم وبين كتَّاب الأسفار المقدَّسة، ولا يمكن أن نساوي بين هؤلاء وأولئك...
لقد خلط أصحاب النقد بين الكتاب المقدَّس ككلمة الله، وبين عمل الروح القدس في فتح البصيرة الداخلية للإنسان لكيما يدرك ويفهم كلمة الله، والحقيقة إن الكتاب المقدَّس كله كلمة الله سواء قبلها الإنسان أو رفضها، سواء أثرت في الإنسان أو لم تؤثر، فهذا التأثر أو عدم التأثير ناتج عن استعداد الإنسان وليس بسبب ضعف كلمة الله على الإطلاق، ويقول د. ادوار ج. يونج " إن النقد السطحي لهذا الموقف قد يخلط بين الوحي والإنارة الداخلية للروح القدس، إذ لا شبهة على الإطلاق في أن رسالة الكتاب المقدَّس لا يمكن أن تفيد شخصًا من دون الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث في الثالوث، الذي يفتح بالنعمة الفعالة عيني الإنسان، وينير ذهنه فيرى الكتاب المقدَّس كلمة الله بالحقيقة"(4).
ويعلق د. إميل ماهر على هؤلاء القائلين بأن كلمات الكتاب المقدَّس أنها كلمات بشريَّة تتحول إلى كلمات إلهيَّة عندما يستخدمها الروح القدس في اللقاء مع شخص المسيح الفادي، فيقول " وعلى حد زعم أصحاب هذه النظرية فإن هؤلاء الكتبة أدرجوا في كتاباتهم أساطير وحكايات خرافية عن خوارق معجزية فائقة للطبيعة بهدف نقل حقائق روحيَّة، ووظيفة المفسر -من وجهة نظرهم- هي تجريد النص وتعريته تمامًا من كل التزيينات الأسطورية سعيًا وراء الحقيقة الروحية المجردة.
فهذه النظرية تنكر الوحي بالكتاب، وترفض القول بعصمته، وتنادي بأن الكتاب يتضمن أخطاء، ليس فقط في الأمور الدنيوية، وإنما أيضًا في الأمور المختصة بالدين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فمن بين من يتبنون هذه النظرية يوجد أناس ينكرون جميع المعجزات، وأناس ينكرون النبوءات... وينكرون تأكيدات المسيح وشروحاته لتلك النبوءات. والبعض ينكرون وجود الأرواح والملائكة والشياطين... ويقولون أن المسيح وتلاميذه طوَّعوا كلامهم بما يلاءم الاعتقادات الخاطئة لمعاصريهم، وكثيرون منهم ينكرون قيامة الموتى والدينونة.."(5).
ويفرق " ج. و. بروملي " بين عمل الروح القدس في الوحي، وبين عمله في الاستنارة الباطنية، فيقول " ولقد أمسك بعض اللاهوتيين المعاصرين بموضوع هذه الإنارة كأنها وحي حقيقي، حسب التصوُّر الإصلاحي. أي أن الكتاب المقدَّس مُوحى به فقط بقدر ما يستعمل الروح القدس هذه الفقرة أو تلك لينجز استنارة داخلية في الفرد المسيحي... فالكتاب المقدَّس سجل موحى به لإعلان الله لنفسه سواء قبِل هذا الفرد أو ذاك شهاته، أو لم يقبل. إن الوحي وتسجيله في صورة مكتوبة كليهما عملان ظاهريان. أما الإنارة بواسطة الروح القدس فهي التكملة الباطنية لهذه التأثيرات في داخل الفرد وبغرض خلاصه. وكما أن الله الروح القدس الذي أعطى السجل المنظور، كذلك هو الله الروح القدس الذي ينتج الاستنارة الباطنية. فالرسالة وتطبيق الرسالة كلاهما من الله"(6)(7).
ويعتبر د. إكرام لمعي مدرسة التفسير الذاتي (التفسير الكهربائي) التي تعتمد على التفسير الشخصي للكتاب المقدَّس، نوعًا من تدخل القارئ في الوحي الإلهي(8).
_____
(1) أصالة الكتاب المقدَّس - ترجمة القس إلياس مقار ص 261.
(2) المرجع السابق ص 262.
(3) أصالة الكتاب المقدَّس - ترجمة القس الياس مقار ص 263.
(4) أصالة الكتاب المقدَّس - ترجمة القس الياس مقار ص 264.
(5) الكتاب المقدَّس - أسلوب تفسيره السليم وفقًا لفكر الآباء القويم ص 45، 46.
(6) G. W. Bromiley , M.A, Ph. D., Litt.
(7) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 1 ص 17، 18.
(8) راجع وحي الله وخيال الإنسان ص 20، 21.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/92.html
تقصير الرابط:
tak.la/9aanzzh