ج: بين لامارك وداروين: جاء داروين بعد لامارك بنحو خمسين سنة وكان لداروين موقف متضارب مع لامارك:
أولًا: اتهم داروين لامارك بأنه استقى آراءه من مؤَلف جده " إرازمس داروين " Erasmus Darwin " زنوميا " حيث كتب فصلًا من 173 صفحة تحدث فيها عن التطوُّر، وذكر تطوُّر مناقير الطيور، والحقيقة إن داروين هو الذي استقى آراء جده إرازمس، بل آراء لامارك أيضًا، ويقول دكتور كمال شرقاوي غزالي " وحين خرج داروين بنظريته تلك وجد أن " لامارك " قد سبقه في جوهر أفكاره، وأدرك بعض المدققين أن داروين أخذ عامدًا ما كان يظن أنه يمثل اللاماركية، وضمَّنه كتبه دون إشارة أو اعتراف بالفضل، فصب جام غضبه على لامارك وجعل يُسفه آراءه ويتعمد تحقيره، وادعى أن لامارك ما أتى بأفكار من عنده، بل سرقها من جده إرازمس داروين (وفي رسائل داروين الخاصة كان يستجير بالسماء لكيما تحميه من حماقات لامارك).. واستعان داروين بهكسلي الذي وصف نفسه بأنه (كلب داروين الحارس) في تشويه صورة لامارك، وأفلح هكسلي فيما انتدب إليه. بل وأخذ هكسلي ينسب إلى لامارك في سلسلة من المحاضرات التي كان يلقيها على العمال آراء لم يكن لها أصل ولا أساس وغير معقولة بالمرة، مما دفع الكثيرين إلى تحقير لامارك وآرائه، وانزوى لامارك في نهاية حياته، وكف بصره، ومات مسكينًا لا يدري به أحد"(1).
ثانيًا: عندما أصدر داروين كتابه "أصل الأنواع" أظهر اقتناعه بأفكار لامارك قائلًا "كان لامارك Lamarck هو أول إنسان أثارت استنتاجاته عن الموضوع الكثير من الانتباه... وقد نشر آراءه في عام 1801م، وأضاف إليها الكثير في عام 1809م في كتابه " الفلسفة الحيوانية " وبعد ذلك في عام 1815م في كتابه " التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية " وقد وضع في هذه الأعمال مبدأ أن جميع الأنواع الحيَّة - بما فيها الإنسان قد انحدرت من أنواع أخرى، وكان لامارك هو أول من... لفت الانتباه لوجود احتمال بأن جميع التغيُّرات في العالم العضوي، وكذلك العالم غير العضوي، ناتجة عن قانون، وليست تدخل إعجازي... مثل العنق الطويل للزراف من أجل الرعي على أغصان الأشجار، ولكنه كان يؤمن أيضًا بمبدأ خاص بالنشوء الارتقائي"(2).
كما قدم داروين مثلًا آخر لنمو عضو بسبب استخدامه فقال "ومن الممكن أن أُقدم مثالًا آخر لتركيب يبدو أنه يدين بنشأته بالكامل إلى الاستخدام أو السلوك، فطرف الذيل في بعض أنواع القردة الأمريكية قد تحوَّر إلى عضو إمساك بالالتفاف إلى درجة مدهشة من الإتقان، يتم استخدامه بمثابة يد خامسة"(3).
داروين وصديقه والاس: كان الفريد رسل والاس A. R. Wallace (1833 - 1913م) صديقًا لداروين، وقد قام بعمل أبحاث عن التاريخ الطبيعي في جزر الملايو جنوب شرقي آسيا (ماليزيا الآن) بعيدًا عن داروين وكان والاس يهوى جمع الأزهار والحشرات وتحنيطها وإرسالها إلى الجمعيات العلمية، وتوصل إلى نفس نتائج داروين عن التطوُّر، وقد أصدر والاس كتابًا عن "حول القانون الذي ينظم ظهور الأنواع الجديدة " وفي سنة 1854م أرسل والاس مقالًا لداروين بعنوان "في اتجاه الأشكال المختلفة للحياة إلى التباعد المستمر عن النوع الأصلي" وقال والاس " إن كل نوع من الحيوان والنبات أتى إلى الوجود على إثر نوع مشابه له أو قريب منه، أو بمعنى أصح تطوُّر من نوع مشابه"(4) كما بيَّن والاس أن الكائنات الحيَّة التي تتكيف مع بنيتها هي التي تستطيع مواصلة الحياة، ولذلك يُرجع البعض نظرية التطوُّر إلى كل من داروين ووالاس، وقال داروين " لم أرَ في حياتي أعجب من هذا الاتفاق والتوارد، فلو إن والاس كان قد اطلع على تخطيط مسودتي... لما استطاع أن يستخلص منه خلاصة وجيزة أفضل مما كتبه إليَّ"(5) كما قال داروين أيضًا " إن نظرية الانتقاء الطبيعي قد أُعلنت بواسطة السيد والاس، وذلك بشكل شديد القوة والوضوح"(6) وقد تأثر كل من داروين وصديقه والاس بعالِم الاجتماع الإنجليزي القس مالثوس، ولذلك تشابهت أفكارهما.
تأثر داروين بالقس توماس مالثوس Thomas Malthus (1766 - 1834م): كان مالثوس قسًا بروتستانتيًا في كنيسة إنجلترا، وقد اهتم بعلم الاجتماع، فناقش موضوع الفقر المتفشي في إنجلترا، وأرجعه إلى زيادة عدد السكان، وقال مالثوس أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية (2-4-8-160. إلخ) بينما يتزايد الغذاء بمتوالية عددية فقط (2-4-6-80. إلخ) مما يقود إلى الصراع من أجل البقاء، وبالرغم من أن توماس مالثوس أحد رجال الدين، لكنه كان قاسي القلب، ففي سنة 1798م كتب كتابًا باسم " مقال حول مبدأ السكان " دون أن يوضح اسمه، وتكلم عن المشكلة السكانية، واقترح عدم تقديم أي عون للفقراء الذين يعيشون ولا ينتجون، وهو ما دُعي بقانون الفقراء Poor Law وهو قانون لا إنساني، حيث قال مالثوس " لا يستحق البقاء إلاَّ من هم أقدر على الإنتاج. أما أولئك الذين وهبتهم الطبيعة حظًا أدنى فهم أجدر بالهلاك والاختفاء"(7) وأعتبر مالثوس أن الذي يهلكون بسبب الفاقة، فإن هلاكهم يعتبر قضاءًا وتدبيرًا إلهيًا، لأن الخالق ينفذ خطته في الخليقة بالطريقة التي يراها، وبهذا بَّرر مالثوس الثراء الفاحش الذي عاش فيه رجال الصناعة وسكنهم في القصور الفخمة، بينما يكد الأطفال في المناجم نظير أجور ضئيلة جدًا، وعندما نادت الثورة الفرنسة بالإخاء والمساواة والحرية هاجمها مالثوس، معتبرًا أن هذه أمور خيالية.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر اجتمع أعضاء الطبقات الحاكمة في أوروبا لتنفيذ فكر مالثوس بمحاولة زيادة معدل الوفيات بين الفقراء، وانتهوا إلى التوجيهات الآتية " بدلًا من توصية الفقراء بالنظافة يجب أن نشجعهم على العادات المناقضة، لذا يجب أن نُضيق الشوارع في بلدتنا , ونحشر مزيدًا من الناس في المنازل، ونشجع على عودة الطاعون، وفي الريف يجب أن نبني قرانا قرب البرك الراكدة، ونشجع على وجه الخصوص إستيطان المستنقعات غير الصحيَّة" (ثيؤدور دي هول - الخلفية العلمية لبرامج التطهير العرقي النازي"(8) وفي خلال القرن التاسع عشر أجبرت إنجلترا الأطفال من سن الثامنة والتاسعة على العمل ست ساعات يوميًا في مناجم الفحم مما أفضى إلى موت الآلاف منهم.
وفي تلك الأجواء غير الصحيَّة ظهر داروين ورغم أنه شعر أن أفكار مالثوس بشعة ومخيفة، إلاَّ أنها تُعبر عن الواقع، وتساءل داروين لماذا لا ينطبق فكر مالثوس " الصراع من أجل البقاء " على المجتمع الحيواني أيضًا، وتوصل إلى فكرة " الانتقاء الطبيعي " حيث تختار الطبيعة وتنتقي الأصلح والأقوى للبقاء على حساب الضعفاء، وأعلن داروين أفكاره هذه عن طريق الجمعية الملكية بلندن، وقد هاجم جراسيه في كتابه " الإنسان متهمًا " فكر داروين الذي تأثر بأفكار مالثوس اللإنسانية فقال جراسيه " تعدُّ الداروينية أكثر المبادئ عداءًا للدين وأكثر المذاهب إيغالًا في المادية. ومرد ذلك إلى التوجيهات الأساسية التي قامت عليها وإلى الاستنتاجات النهائية التي توصلت إليها"(9).
_____
(1) التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 72، 73.
(2) أصل الأنواع ص 38، 39.
(3) المرجع السابق ص 369.
(4) د. أنور عبد العليم - قصة التطوُّر ص 64.
(5) دكتور كمال شرقاوي عزالي - التطوُّر بين الضلال وممارسة حق النقد ص 27.
(6) أصل الأنواع ص 49.
(7) أورده موريس بوكاي - ما أصل الإنسان؟ ص 47.
(8) أورده هارون يحيى - خديعة التطوُّر ص 10.
(9) أورده موريس بوكاي - ما أصل الإنسان؟ ص 48، 49.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/223.html
تقصير الرابط:
tak.la/6pbr62t