ج: 1- تكلَّم أليهو في هذا الأصحاح عن عدل الله في عنايته بالإنسان (أي 36: 1-15)، ثم أوضح لأيوب أن خطاياه منعت عنه البركات (أي 36: 16-23)، ثم انتقل من عمل الله مع الإنسان إلى عمله مع الطبيعة (أي 36: 24-33) ومن أعمال الله العظيمة في الطبيعة دورة الأمطار: "لأَنَّهُ يَجْذُبُ قِطَارَ الْمَاءِ. تَسُحُّ مَطَرًا مِنْ ضَبَابِهَا الَّذِي تَهْطِلُهُ السُّحُبُ وَتَقْطُرُهُ عَلَى أُنَاسٍ كَثِيرِينَ. فَهَلْ يُعَلِّلُ أَحَدٌ عَنْ شَقِّ الْغَيْمِ أَوْ قَصيف مظَلَّته؟ هُوَذَا بَسَطَ نُورَهُ عَلَى نَفْسه، ثُمَّ يَتَغَطَّى بِأُصُولِ الْيَمِّ" (أي 36: 27-30).
وهنا يتناول أليهو الحديث عن دورة المياه في الطبيعة بطريقة علمية في منتهى الدقة، فالله يُشرِق شمسه على المسطحات المائية، فتتبخر المياه التي على السطح وتتحوَّل إلى بخار يرتفع لأعلى مكوّنًا السحب: "لأَنَّهُ يَجْذُبُ قِطَارَ الْمَاءِ " وقطار الماء أي قطرات المياه الصغيرة التي تصاعدت في شكل بخار وتجمعت وكوَّنت السُّحب، وسبق أيوب وتعجب من هذا العمل وقال: "يَصُرُّ الْمِيَاهَ فِي سُحُبه فَلاَ يَتَمَزَّقُ الْغَيْمُ تَحْتَهَا" (أي 26: 8)، فبخار المياه الذي يتجمع مكوَّنًا السُّحب تسوقها الرياح وترفعها دون أن تتمزَّق، بل ترتفع إلى طبقات الجو، لأن كثافتها أقل من كثافة الهواء الجوي، ثم تبرد وتتكثَّف وتهطل مطرًا: "تَسُحُّ مَطَرًا مِنْ ضَبَابِهَا. الَّذي تَهْطِلُهُ السُّحُبُ وَتَقْطُرُهُ عَلَى أُنَاسٍ كَثيرينَ"، فتنمو النباتات ويرتوي الإنسان والحيوان، وهذا ما تغنى به المُرنِّم قائلًا: "الْمُصْعِدُ السَّحَابَ مِنْ أَقَاصي الأَرْضِ. الصَّانِعُ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ. الْمُخْرِجُ الرِّيحِ مِنْ خَزَائنه" (مز 135: 7).
" الْكَاسِي السَّمَاوَات سَحَابًا، الْمُهَيِّئ للأَرْض مَطَرًا، الْمُنْبت الْجبَالَ عُشْبًا" (مز 147: 8).
" السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَليه... الْمُنْبتُ عُشْبًا للْبَهَائم، وَخُضْرَةً لخدْمَة الإِنْسَانِ، لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْضِ" (مز 104: 13، 14).
" الَّذِي يَدْعُو مِيَاهَ الْبَحْرِ وَيَصُبُّهَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، يَهْوَهُ اسْمُهُ" (عا 5: 8).
وسبق أليهو ودعى أيوب للتأمل في هذا الأمر عندما قال له: "اُنْظُرْ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَأَبْصِرْ، وَلاَحِظِ الْغَمَامَ. إِنَّهَا أَعْلَى مِنْكَ" (أي 35: 5) فإن الغمام والسحاب بمثابة ينابيع تنساب فتروي الأرض العطشى وتعطي الحياة، ولو صارت السماء حديدًا لصارت الأرض نحاسًا كما حذر الله شعبه: "وَإِنْ كُنْتُمْ مَعَ ذلِكَ لاَ تَسْمَعُونَ... أُصَيِّرُ سَمَاءَكُمْ كَالْحَدِيدِ وَأَرْضَكُمْ كَالنُّحَاسِ" (لا 26: 18، 19).
لقد تكلَّم
الكتاب المُقدَّس
عن دورة المياه في الطبيعة بطريقة علمية دقيقة في الوقت الذي جهل فيه الإنسان
هذه الأمور، حتى أن بعض الشعراء اليونانيين واللاتينيين ظنوا أن هناك بحر ضخم
يحيط بالأرض دعوه بالأوقيانوس، وقالوا أن منه تنبع الأنهار والأمطار، ثم ترجع
المياه تحت الأرض لكيما تصب في هذا الأوقيانوس Oceanus، بينما كان الكتاب واضحًا
وصريحًا في أكثر من موضع، فقال سليمان الحكيم:
" كُلُّ الأَنْهَارِ
تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ
الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً"
(جا 1: 7) وقال إرميا النبي: "إِذَا
أَعْطَى قَوْلًا تَكُونُ كَثْرَةُ مِيَاهٍ فِي السَّمَاوَاتِ، وَيُصْعِدُ
السَّحَابَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ. صَنَعَ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ، وَأَخْرَجَ
الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ"
(إر 10: 13).
2- جاء في "الترجمة القبطية": "قطرات المطر معدُودة لديهِ، ثمَّ تهطل مطرًا مِن السُّحب تغطيها الغيوم، وتصبُّها على البشر وابلًا. فهل من يفهم كيف انتشار السُّحب؟ وكيف قصِف مظلَّته؟ ينتشر (نورهُ) عليه ويتسربل بغمار البحر".
ويقول " القديس كيرلس الأورشليمي": "منذ فترة قليلة اجتاحتنا السيول متأخرًا وأهلكتنا، أحْصي قطرات الأمطار التي سقطت على هذه المدينة وحدها. لا بل أقول إن استطعت فأحْصي فقط القطرات التي سقطت على منزل، وليس على المدينة، لمدة ساعة واحدة! إنك لا تستطيع!
إذًا فلتعرف ضعفك، ولتعلم من هذه اللحظة قدرة الله "المحصي قطرات الأمطار" على المسكونة كلها، ليس الآن فقط، بل خلال كل الأزمنة.
والشمس هي من صُنع الله. ومع عظمتها هي أشبه بنقطة وسط السماء. تأمل الشمس، وبعد ذلك تفرَّس في رب الشمس مندهشًا: "لاَ تَطْلُبْ مَا يُعْيِيكَ نَيْلُهُ، وَلاَ تَبْحَثْ عَمَّا يَتَجَاوَزُ قُدْرَتَكَ، لكِنْ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ فِيهِ تَأَمَّلْ" (ابن سيراخ 3: 22)(1).
3- عندما تكون هناك أمطار رعدية يسبق سقوط الأمطار البروق والرعود، وقد عبَّر أليهو عن هذه الرعود بقوله: "فَهَلْ يُعَلِّلُ أَحَدٌ عَنْ شَقِّ الْغَيْمِ أَوْ قَصِيفِ مِظَلَّتِهِ؟" (أي 36: 29)، وفي " ترجمة كتاب الحياة": "أَهنَاكَ من يَفهَمُ كيفَ تَنْتَشِرُ السُحُبُ، وكيفَ تَرعِدُ سماؤُهُ"، وفي ذلك الزمان لم يكن أحد يُدرِك أن الرعود تنتج من تصادم سحب تحمل شحنات كهربائية موجبة مع أخرى تحمل شحنات سالبة، فالسحب الرعدية تمثل طبقة سميكة جدًا من قطرات المياه تصل إلى 18 كم، وكل جسيم من السُّحب يحمل شحنة كهربائية، فإذا كانت الشحنة موجبة فإنها تتحرك إلى أعلى، وإذا كانت سالبة فإنها تتحرك إلى أسفل، فعند التقاء سحابة رعدية تحمل شحنات موجبة مع أخرى رعدية تحمل شحنات كهربائية سالبة تحدث شرارة كهربائية عظيمة (البرق) وترتفع درجة حرارة الهواء فيمكن أن تصل إلى 33 ألف درجة مئوية، وعندما يصطدم الهواء الساخن مع الهواء البارد تنشأ موجة عملاقة من الهواء المتحرك فتحدث الرعود، وحيث أن سرعة الضوء 300 ألف كيلومتر في الثانية، بينما سرعة الصوت ثلث كيلومتر في الثانية، لذلك يصل إلينا البرق قبل الرعد. أمَّا في زمن أيوب فقد نسبوا هذه الرعود لآلهتهم مثل " أنليل"، و"حداد " أو " هداد"، و"مردوخ".
كما عبَّر أليهو عن البروق بقوله: "هُوَذَا بَسَطَ نُورَهُ عَلَى نَفْسِهِ" (أي 36: 30).
وفي " الترجمة اليسوعية": "نَشَرَ بَرقَه حَولَه وغَمَرَ أُسُسَ البَحْر".
وفي " الترجمة العربية المشتركة": "ينشُرُ النُّورَ ويَتسربَلُ به، ويملأُ أعماقَ البحارِ".
وفي هامش الترجمة جاء مقابل " يملأُ " " أو يغطي البحار".
كما قال أليهو: "يُغَطِّي كَفَّيْهِ بِالنُّورِ، وَيَأْمُرُهُ عَلَى الْعَدُوِّ" (أي 36: 32) وكأنه أمسك بيديه البروق مثلما يقبض الجندي على سلاحه بكلتا يديه.
وكرَّر أليهو نفس المعنى بعد آيات قليلة عندما قال: "اسْمَعُوا سَمَاعًا رَعْدَ صَوْتِهِ وَالزَّمْزَمَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ فِيهِ. تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ يُطْلِقُهَا، كَذَا نُورُهُ إِلَى أَكْنَافِ الأَرْضِ" (أي 37: 2، 3). ثم قال عن الله: "يَتَغَطَّى بِأُصُولِ الْيَمِّ" (أي 36: 30) ومن المعروف أن اليم هو الماء، وكأن الله يسكن في هذا الضباب والغمام، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. كقول داود النبي: "جَعَلَ الظُّلْمَةَ سِتْرَهُ. حَوْلَهُ مِظَلَّتَهُ ضَبَابَ الْمِيَاهِ وَظَلاَمَ الْغَمَامِ" (مز 18: 11)، وما ذكره أليهو لأيوب كان بقصد أن يسأله: هل تفهم يا أيوب كيف يحدث كل هذا؟، وإن كنا لا نفهم تلك الأمور، فكيف نحاول أن نفهم مقاصد الله، ونطلب منه أن يعطينا تبريرًا عن كل تصرف يقوم به، ونفس السؤال الذي قدمه أليهو لأيوب ضمنًا، سأله الله لأيوب مباشرة قائلًا له: "مَنْ فَرَّعَ قَنَوَاتٍ لِلْهَطْلِ، وَطَرِيقًا لِلصَّوَاعِقِ، لِيَمْطُرَ عَلَى أَرْضٍ حَيْثُ لاَ إِنْسَانَ، عَلَى قَفْرٍ لاَ أَحَدَ فِيهِ، لِيُرْوِيَ الْبَلْقَعَ وَالْخَلاَءَ وَيُنْبِتَ مَخْرَجَ الْعُشْبِ؟ هَلْ لِلْمَطَرِ أَبٌ؟ وَمَنْ وَلَدَ مَآجِلَ الطَّلِّ؟" (أي 38: 25-28).
4- يقول " القمص تادرس يعقوب": "هُوَذَا بَسَطَ نُورَهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَغَطَّى بِأُصُولِ الْيَمِّ: يرى أليهو في السُحُب والرعود والبرق عجائب تشهد لقدرة الله ورعايته. هذه الظواهر تبدو كأنها مظلة الله أو خيمته. تنتشر السحب في السماء، ويظهر النور أو البرق منتشرًا أيضًا إلى لحظات. وكأن هذه الظواهر تكشف عن أمور عجيبة تبدو مضادة لبعضها، فالسحاب المنتشر يبسط ظلالًا على الأرض، والبروق التي تحدث بسبب السحب تبسط أنوارًا تخترق السحب.
السحب الكثيفة مع البرق تقدم صورة مثيرة ومبدعة.
يرى المُرتِّل في السحب الكثيفة والبرق أشبه بثوبٍ سماويٍ مبدعٍ، فيقول: "اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ، الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ. الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ" (مز 104: 2-3).
بينما يكشف الله عن سقوط الأمطار خلال البروق المنيرة إذ به يغطي أعماق البحار بفيض الأمطار التي تسقط وتصب في البحار كما لو كانت تغطي أعماقها. تمتد يد الله للعمل في الأعالي في السماء وسط السحب الكثيفة، وعلى الأرض حيث تهطل الأمطار، وفي أعماق البحار. هو ضابط الكل"(2).
5- يقول " فرانسيس أندرسون": "تُظهِر السحب والأمطار سيطرة الله المذهلة على العالم في أعمال بمثل هذه الدقة والقوة حتى أن البشر لا يستطيعون فهمهما أو تقليدها. فلو لجأ إنسان القرن العشرين إلى علم الأرصاد الجوية، الذي يفيده في التنبؤ بالطقس وتنظيم الوقت، لكي يقلل من أهمية تعجب أليهو، فإن تلك الكبرياء والزهو سريعًا ما يتضاءل لأنه بالرغم من معلوماتنا المتزايدة عن الكون فإن أسئلة أليهو تصبح أيضًا بلا إجابات على نطاق الكون الواسع المترامي في الأطراف... والعلم الدقيق ليس من المحتمل أن يقدم الإجابات المطلوبة.
وحيث أن السماء يُشار إليها أحيانًا كخيمة الله فأسطح السحب التي نراها بمثابة فرش الأرضية... وبالرغم من عدم إلمامنا بكل التفاصيل إلاَّ أن التأثير العام واضح وقوي. فقوة الله في العاصفة الرعدية مرعبة بنوع خاص وتعبير عن " الغضب ضد الإثم" (عدد 33 في النص الإنجليزي RSV يقول " يخبر به رعده فهو يتقد غضبًا ضد الإثم ") وعن الدينونة (أي 36: 31)، ومع ذلك فهي أيضًا الوسيلة التي بها (يرزق القوت بكثرة) (أي 36: 31)، فعمل واحد من أعمال الله يمكن أن يكون مفيدًا ومدمرًا في آن واحد"(3).
_____
(1) تفسير سفر أيوب جـ4 ص 1243.
(2) تفسير سفر أيوب جـ4 ص 1245.
(3) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - أيوب ص 305، 306.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1601.html
تقصير الرابط:
tak.la/2cra63y