«فَقَالُوا: "مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ"!» (مَتى27: 4).
(متى5:27-10) |
(أعمال16:1-20) |
فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: "لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ". فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهذَا سُمِّيَ ذلِكَ الْحَقْلُ "حَقْلَ الدَّمِ" إلَى هذَا الْيَوْمِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: "وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَني إسْرَائِيلَ، وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ". |
يَهُوذَا الَّذِي صَارَ دَلِيلًا لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ، إذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ. فَإنَّ هذَا اقْتَنَى حَقْلًا مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ، وَإذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسْطِ، فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. وَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى دُعِيَ ذلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ "حَقَلْ دَمَا" أَيْ: حَقْلَ دَمٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَابًا وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ. وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَرُ. |
«طَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ!» (متى5:27)
حاول رؤساء الكَهنة أن يُلقُوا بالمَلامة على يَهوذا. أنت الَذي أتيتَ تَطلُب تَسليم سَيِّدك، وما ذَهبنا نحن إليك! وحاول يَهوذا أن يُلقِي بالملامة عَليهم، إذ «طَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ»، وكأنهُ لَم يأخُذ شَيئًا ولَم يَبِع سَيِّده. والحَقيقة أن الإنسان لا يُمكنهُ أن يُبَرِّئ نَفسه بالكلام، بل بالتوبة الحَقيقية. فَكان عَليهِ أن يَتوب باكيًا مُعلنًا تَبَعيَّته للمصلوب.
ويَبْدو أن حوارًا شَديدًا دار بَينهم، فيه حاول كُل منهما أن يُبرئ نَفسه ويُلقي بالملامة على الآخَر ولم يَتفقا. فذهب يهوذا يَرُدُّ الفضّة في ندامة بلا توبة، ومرارة بلا رجاء، حتى لم يَطِق حياته.
يقول ذهبي الفم: [كانت مشكلة يهوذا أنه أبطأ في نَدَمِه، فدَانَ نفسَه، إذ نُفِّذَت جريمته ولا سبيل لإصلاحها. هذا هو إبليس يحاول أن يُخفي عن الإنسان رؤية شرّه ونتائج خطيته في الوقت المناسب؛ لئلا يتوب. حذره الرب أكثر من مرة، لكنه كان يَصُم أذنيه. وبعد أن تمَّم جريمته، مضى به إلى اليأس.][274] نَدِمَ، وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، وطَرَحَها فِي الْهَيْكَلِ، واعترف قَائِلًا: «قَدْ أَخْطَأْتُ»، وهذا مقبول وجيد، لكنه «مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ!» (مَت27: 5،3). هَذهِ العبارة تُبين مَعنى نَدم يَهوذا، فالنَّدم المُقدس هو نَدم الإنسان لأنه أغضب الله. أما النَدم الَذي يَنتهي بأن يَمضي الإنسان ويَشنُق نَفسه، فَهَذا ليس ندمًا بل يأسًا، وهو شرٌ لا يُغفر.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
«ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ!» (مَتى27: 5)
خاتمةٌ مأساوية، خسِر بها يَهُوذَا نَفسه ورَبَّه ودُنياه وأبديته. خسر الدنيا والآخِرة، والمال أيضًا. كان مُمكنًا أن يَطرح نفسه عند قدمَي المصلوب تائبًا باكيًا نادمًا، فيربح كل شيء.
لكنه في فَشلٍ ويأس مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ.
ويُبرِزُ القديس جيروم اختلافا في قصة انتحار يهوذا فيقول:
[هذا النص غريب عن متَّى. هناك تقليدٌ آخَر لموت يهوذا في (أعمال 1: 18-19) يظهر فيه اختلافات محددة؛ فيهوذا هناك يشتري الحقل بنفسه، ويموت بسقوطه وليس بالانتحار. ويُفهَم النصان بشكل أفضل كموادٍ ملحمية حول موت يهوذا.][275]
ويُقدم الباحث تصوُّرًا للسيناريو الذي يمكن أن يحدث أثناء انتحار يهوذا، فيُوَفِّق بين الإنجيل وسفر الأعمال، كما يلي:
عَلَّق يهوذا نَفسهُ بحَبْلٍ مُتهالِك وَجدهُ ساقطًا في الطريق. إذ صَعدَ على حَجَر، وعَلَّق عُنُقَهُ بِفَرْع الشَجرة، فشنقه الحبل. ولما انقطع الحَبلُ المُتهالك أو انكسر فَرعُ الشَجرة اليابسة، سَقطت جُثة يَهوذا الثَقيلة على سِنِّ الَحجر الَذي صَعد عليه، فانشقت بَطنُهُ وانسكبَتْ أحشاؤه. كما صَوَّرَهُ سِفرُ الأعمال، إذ قال: «فَإنَّ هذَا اقْتَنَى حَقْلًا مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ، وَإذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ انْشَقَّ مِنَ الْوَسْطِ، فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا. وَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى دُعِيَ ذلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقَلْ دَمَا» أَيْ: حَقْلَ دَمٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَابًا وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ. وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَرُ.» (أع18:1-20).
«فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: "لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ".» (متى6:27)
الْخِزَانَة: هي بَيت القُربان وعطايا الشَعب لله، وقد قال الله: "زيت الخاطئ لا يدهن رأسي" (مزمور141: 5 السبعينية). فَالعطايا يَنبغي أن تَكون مُقدسة، وهَذا حق. ولَكن إذا كان رؤساء الكَهنة يفكرون في نَقاء مَصدر المال الَذي يُقَدَّم لله، فَما مَعنى طلَبِهم قَتْل البريء!
لم يَقبَلوا أن تُوضَع الفضّة في الخزانة؛ لأنها ثمن دمٍ، فاشتروا بها حقل الفخَّاري، مقبرةً للغرباء. وقد دُعيَ بحقل الدم، شهادةً لما فعلتْه البشريّة بمُخلِّصها.
ويُعلِّق القدّيس كيرلّس الأورشليمي على كلمات رؤساء الكهنة والشيوخ ليهوذا قائلًا: [يا للعجب! القتلة يقولون: «مَاذَا عَلَيْنَا؟» ويطلبون مِن الذي قَبِل ثمن الجريمة أن يُبصِر، أمَا هم قاتلوه! أليس عليهم أن يُبصروا... يقولون في أنفسهم: «لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». إن ما نَطقْتم به هو الذي يدينكم؛ لأنه إذا كان وضع ثمن الدم في الخزانة يُعتبَر إثمًا، فكم يكون إهدار الدم؟! وإذا كنتم تَرون عُذرًا لصَلْب المسيح، فلماذا ترفضون قبول الثمن؟][276]
كانت الثلاثون من الفضة مُلطخة بدماء القدوس البريء، فلم يَستطيعوا أن يَضعوها في خزانة الهَيكل، «فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهذَا سُمِّيَ ذلِكَ الْحَقْلُ "حَقْلَ الدَّمِ" إلَى هذَا الْيَوْمِ.» (متى8،7:27).
يقول ذهبي الفم: [وحينما اشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ أعلنوا إثمهم للأجيال اللاحقة بشراء الحقل "حَقْلَ الدَّمِ" الذي اشتُرِي بالثلاثين من الفضّة كمَقْبَرَةٍ لِلْغُرَبَاءِ لكي يُدفَن فيه الأُمميون.][277]. ويُكمل: [فصار هذا التصرُّف شاهدًا عليهم ودليلًا على خيانتهم.][278]
يقول القدّيس جيروم: [اشْتَرَوْا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ كمَقْبَرَة لِلْغُرَبَاءِ، إشارةً إلى العالم الذي افتداه الرب بدمه، اُشترِيَ لأجلنا بثمن دم المسيح... الحقل هو العالم الحاضر (مت13: 36)، والثمن هو آلام الرب، الذي اشترى العالم بدمه ليخلِّصه (يو3: 17). وعِوضَ أن يعيشوا غرباء تحت الناموس صاروا قريبين بدم المسيح (أف2: 11-13).][279]
الحَقْل هو العالم، والخزَّاف هو الله الذي صنع أجسادنا من الطين (تكوين7:2)، ثم أحيا هذه الطينة بنَفخَته. ولما أخطأنا، حُكِم علينا بالموت، ودُعِيَ حَقْلُ الْفَخَّارِيِّ بـ«حَقْلَ الدَّمِ». اشتعلت الذبيحة على مذبح المحرقة، وبدم المسيح اشتُرِي الحقل كُله، وصار للغرباء في هذا العالم.
«حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإرْمِيَا النَّبِيِّ الْقَائِلِ: "وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ، ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَني إسْرَائِيلَ، وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ".» (متى9:27-10).
يقول القديس جيروم: [هذه النُبُوَّة ليست بإرميا النَّبِيِّ بل بزكريا النَّبِيِّ (زكريا12:11).
إذ قسَّم اليهود الأسفار المقدسة إلى ثلاثة أقسام، الأول الشريعة وهي أسفار موسى الخمسة. والثاني المزامير، والثالث الأنبياء. وكان يطلق عليها اسم إرميا؛ لأنها كانت تبدأ بسفره][280].
«لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ الْمَزَامِيرِ: "لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَابًا وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ. وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَر.» (أعمال20:1)، ومن سِفْرِ الْمَزَامِيرِ اقتبس القديس بطرس الرسول هذه النُبُوَّة، وقالها في حديثه عن يهوذا بعد انتحاره: «فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيرًا، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ. إذَا حُوكِمَ فَلْيَخْرُجْ مُذْنِبًا، وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً. لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً، وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ. لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَامًا وَامْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً... أَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ» (مزمور6:109-18)
_____
[274]القديس يوحنا ذهبي الفم، PG, vol.58: p.759 ; NPNF, series 1: vol.10: p. 507.
[275]"This passage is peculiar to Matthew. There is another tradition of the death of Judas in Acts 1:18-19 which shows definite variations; Judas there, purchases the field himself, and he dies by a fall and not by suicide. Both passages are better understood as legendary material about the death of Judas."Brown, Raymond E., Joseph A. Fitzmyer, and Roland E. Murphy. The Jerome Biblical Commentary, Prentice-Hall 1968, p. 111.
[276]القديس كيرلُّس الأورشليمي،Catechism Lectures 13 .
[277]القديس يوحنا ذهبي الفم، PG, vol.58: p.760- 61; NPNF, series 1: vol.10: p. 508.
[278]المرجع السابق، vol.10: p. 509.
[279]القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير الإنجيل بحسب القديس متى، طبعة أولى 1983م، ص544.
[280]القديس جيروم (إيرونيموس).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/trials-of-jesus/judas-end.html
تقصير الرابط:
tak.la/9b8gn3r