الاعتراض بأن بولس رسول الأمم لا العبرانيين - الاعتراض بفصاحة أسلوب الرسالة وعامية بولس الرسول - الاعتراض باختلاف ديباجة الرسالة عن رسائل البولس الأخرى
نعم إن مار بولس هو رسول الأُمم، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكتب رسالة إلى العبرانيين الذين في الشتات، أو أنه لم يهتم ببني جنسه.
كان مار بولس مهتمًا جدًا بالتبشير لليهود كما كان للأمم. فقد كانت رسالته منذ البدء التي اختاره لها الرب يسوع هي التبشير باسمه ليس أمام الأُمم فقط بل أمام بني إسرائيل، ففي حديث الرب يسوع للأسقف حنانيا حدد رسالة مار بولس وقال لحنانيا الرسول: «اذْهَبْ! لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي». (أع15:9). ولذلك وجدنا مار بولس يبحث عن اليهود بكل غيرة ويدخل مجامعهم يبشر بينهم ويقودهم إلى الإيمان. هذا ما سجله سفر الأعمال عندنا تكلم عن القديسين بولس وسيلا فقال: "وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي، حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ الْيَهُودِ. فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ، وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ الْكُتُبِ، مُوَضِّحًا وَمُبَيِّنًا أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَنَّ: هذَا هُوَ الْمَسِيحُ يَسُوعُ الَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. فَاقْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ وَانْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيلاَ،"(أع1:17-4).
وكانت غيرة مار بولس مُتقدة على إيمان العبرانيين، فنجده في رسالته إلى رومية يقول: "أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: إِنَّ لِي حُزْنًا عَظِيمًا وَوَجَعًا فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ. فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ، الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ، وَلَهُمُ الآبَاءُ، وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. (رومية 1:9-5).
كما يقول أيضا: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنَّ مَسَرَّةَ قَلْبِي وَطَلْبَتِي إِلَى اللهِ لأَجْلِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِلْخَلاَصِ. (رومية 1:10) وهكذا لا يصح الاعتراض بأن مار بولس ليس كاتبًا لرسالة العبرانيين باعتباره أنه رسول الأُمم فقط، لأنه قد ثبت بالبرهان الكتابي أن الرسالة التي اختارها الله لمار بولس هي التبشير بين الأُمم وأمام بني إسرائيل أيضًا كما كان مار بولس يبحث عن العبرانيين ويبشرهم في مجامعهم ويواظب على هذا العمل حتى أصبح تبشيره لليهود في السبوت في مجامعهم عادة معروفة عنه. وكان قلبه يلتهب بمحبة هؤلاء العبرانيين يبحث عن خلاصهم ويشتهي إيمانهم. أيمكن بعد هذا القولُ بأن مار بولس لم يعمل وسط العبرانيين، ولم يكتب لهم؟
وهو اعتراض لوثري: وعجيب أن يأتي لوثر مؤسس البروتستانتية في القرن السادس عشر ويتهم مار بولس الرسول بعدم فصاحته ويستكثر عليه أن يكون كاتِبًا للرسالة إلى العبرانيين التي كتبت بأسلوب فصيح يتناسب مع أبولس وليس مع بولس، ويسوق لوثر كباقي الهراطقة، نصوص الكتاب المقدس لخدمة فكرته فيجد من نصوص الكتاب ما يمكن أن يستخدمه حسب الظاهر لإثبات أفكاره:
فقد ذكر سفر الأعمال عن أبولس أنه: «يَهُودِيٌّ اسْمُهُ أَبُلُّوسُ، إِسْكَنْدَرِيُّ الْجِنْسِ، رَجُلٌ فَصِيحٌ مُقْتَدِرٌ فِي الْكُتُبِ. كَانَ هذَا خَبِيرًا فِي طَرِيقِ الرَّبِّ. وَكَانَ وَهُوَ حَارٌّ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ وَيُعَلِّمُ بِتَدْقِيق مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ.... فَلَمَّا جَاءَ سَاعَدَ كَثِيرًا بِالنِّعْمَةِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا، لأَنَّهُ كَانَ بِاشْتِدَادٍ يُفْحِمُ الْيَهُودَ جَهْرًا، مُبَيِّنًا بِالْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ. (أع24:18، 28).
أما مار بولس في نظر لوثر لم يكن فصيحًا إذ قال عن نفسه: "إن كنت عاميًّا في الكلام" (2كو6:11)، فاستنبط مؤسس البروتستانتية أن مار بولس ليس كاتب رسالة العبرانيين بهذا الدليل.
وعجيب أن ينفي لوثر عن القديس مار بولس الفصاحة ويقيم دليله بقول مبتور يذكرنا بأن أنصاف الحقائق ليست جميعها حقائق، ويجعلنا ندرك خطورة استخدام الآية الواحدة، أو أنصاف الآيات.
إن قول الرسول: "وان كنت عاميا في الكلام" جاء ضمن عتاب الرسول بولس لأهل كورنثوس، فيقول لهم: "لَيْتَكُمْ تَحْتَمِلُونَ غَبَاوَتِي قَلِيلًا! بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيَّ. فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ. وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ... وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيًّا فِي الْكَلاَمِ، فَلَسْتُ فِي الْعِلْمِ، بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ. (2 كُورِنْثُوسَ 1:11-6).
فمار بولس هنا باتضاع يصف نفسه بالغباوة ويطلب من أهل كورنثوس أن يحتملوا غباوته. فهل يستنتج لوثر بأن بولس كان غبيًا أيضا؟ ومار بولس فيلسوف المسيحية الأول، في اتضاع يتمشى مع عقليه أهل كورنثوس يطلب منهم ألا ينساقوا إلى الفلسفات بل يرجعوا الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ، وهنا يتكلم معهم كلاما بسيطًا وعاميًا. فهذا يتمشى مع الرسالة المسيحية التي شرحها بأسلوبه الرائع قائلا: "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ». أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ اللهُ حِكْمَةَ هذَا الْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ. لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ. لأَنَّ جَهَالَةَ اللهِ أَحْكَمُ مِنَ النَّاسِ! وَضَعْفَ اللهِ أَقْوَى مِنَ النَّاسِ!.. بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ (1كُورِنْثُوسَ ا:19-27).
ثم يقول لهم أيضًا: " وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الْكَلاَمِ أَوِ الْحِكْمَةِ مُنَادِيًا لَكُمْ بِشَهَادَةِ اللهِ،...وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ الْحِكْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالْقُوَّةِ، لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ النَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ اللهِ...لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ (1كُورِنْثُوسَ1:2، 4، 5، 13). أما فصاحة مار بولس الرسول وقدراته في الإقناع فالأدلة كثيرة:
* في مدينة لسترة أقام الرسول بولس الرجل المقعد من بطن أمه. فهتفت الجموع قائلين "إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس ذ كان هو المتقدم في الكلام" (أع 8:14-15)، ونلاحظ أن هرمس هذا هو إله الفصاحة في لسترة وقد نسب أهل لسترة هذا الاسم على بولس لفصاحته.
* وشهد مار بطرس عن فصاحة رسائل مار بولس حينما قال: "كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضًا بحسب الحكمة المعطاة له كما في الرسائل كلها أيضًا متكلما فيها عن هذه الأمور. التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء، وغير الثابتين كباقي الكتب أيضًا لهلاك أنفسهم (2بط16؛ 15:3).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
افتتح القديس بُولُس الرَّسُول رسائله الثلاثة عشر الأولى، بتقديم اسمه في بداية كل رسالة لتحمل بذلك برهان قانونيتها باعتباره كاتبها، وليعرف المؤمنون الذين أرسلت إليهم بكاتبها الحقيقي ليسهل قبولها. كما كانت عادة ذلك الزمان الذي كتب فيه مار بولس لا في نهايتها كعادتنا نحن الآن.
وهى عبارات ذات تركيب واحد لكاتب واحد، بها يُعرِّف الرسول نفسه ويستهل بها رسائله فتأتي جميعها في العدد الأول من الإصحاح الأول لكل رسالة ما خلا رسالة غلاطية فتشمل العددين الأول وَالثاني، وفِي الرسالة إلى فليمون تشمل العدد التاسع بجوار العدد الأول.
ما خلا رسالة واحدة من رسائله الأربعة عشر التي شملها العهد الجديد هي الرسالة إلى العبرانيين.
وهنا نريد أن نجيب على تساؤل يطرح نفسه سريعا، لماذا لم يفتتح الرسول بولس رسالته إلى العبرانيين باسمه كعادته في جميع الرسائل الأخرى؟ وهل هناك شك أن يكون الكاتب ليس مار بولس؟
لقد تسلمت الكنيسة المقدسة رسالة العبرانيين كرسالة تقرأها بغير جدل ضمن قراءات البولس منذ العصور الأولى، ولقد وُجد في أحد الأديرة القديمة في مصر مخطوطة قديمة على أوراق البردي يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الثالث الميلادي أي أنها أقدم من المخطوطة السينائية codex sinaiticus)) المعتبرة بنحو مئة عام، وتشمل هذه المخطوطة رسالة العبرانيين ضمن الرسائل البولِسية وتقع في ترتيبها بعد رسالة رومية. فالتقليد، والتسليم الرسولي يشهدان بأن كاتب الرسالة هو مار بولس، وتشهد المخطوطات التي يرجع تاريخها إلى القرون الأولى. والمجامع التي سجلت أسفار العهد الجديد وكاتبيها مثل مجمع اللاذقية ومجمع قرطاجنة ذكرت أن كاتب رسالة العبرانيين هو مار بولس الرسول. كما شهد بذلك القديسون أمبروسيوس، وأوغسطينوس وإيرونيموس (جيروم). ومن أقوال هذا القديس في حديثه عن اللغة التي كُتبت بها رسالة العبرانيين أن قال: "لأن مار بولس عبراني كتب إلى العبرانيين باللغة العبرانية[6].
كتب القديس مار بطرس رسالتيه الشهيرتين إلى العبرانيين المتغربين في الشتات، وفِي فاتحة رسالته الأولى يقول: بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى الْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، الْمُخْتَارِينَ (1بط1:1)، ثم يشير في نهاية رسالته الثانية إلى رسالة مار بولس اليهم فيقول: كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا، مُتَكَلِّمًا فِيهَا عَنْ هذِهِ الأُمُورِ، الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْر الثَّابِتِينَ، كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ. (2 بط 15:3، 16).
وهكذا أشار بُطْرُسَ الرَّسُولِ وهو يكتب ليهود الشتات المتغربين إلى رسالة كَتَبَها إِلَيْهُمْ أَخُوه الْحَبِيبُ بُولُسُ، تلك هي رسالة العبرانيين فليس لمار بُولُس رسائل أخرى مكتوبة لليهود غير هذه.
_____
[6]اللغة العبرانية هنا هي السريانية التي كانت تدعى هكذا، وربما يكون القديس لوقا هو الذي ترجمها إلى اليونانية وهذا هو السبب الذي جعل أسلوبها في اليونانية يتشابه مع أسلوب مار لوقا، فجعل العلماء يشكون أن كاتبها هو مار لوقا وليس مار بولس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/st-paul/Hebrews.html
تقصير الرابط:
tak.la/zh7n82f