إن تركنا التفاصيل وتطلعنا إلى طقس البخور منذ بدء رفع البخور -عشية أو باكر- حتى نهايته نقف أمام صورة بديعة أو أيقونة حية للحياة السماوية مع عدم تجاهل للواقع الزمني الذي نعيشه. إنه لا يفصل بين الخبرة السماوية حيث يرفعنا روح اللّه إلى العرش الإلهي ونشترك مع السمائيين، وبين الشعور بالالتزام نحو كل نفس بشرية، مع الطلبة من أجل احتياجات كل العالم.
مع عدم تجاهلنا ما لليتورجية القبطية من تأكيد لدور الشعب الرئيسي في الخدمة يمكننا أن ندرك العناصر الرئيسية لطقس رفع البخور من الصلوات التي يمارسها الأسقف، في حضوره، لتكشف لنا عن دور هذا الطقس في حياة المؤمنين.
1. فتح باب الستر = التمتع بخبرة السماء.
2. صلاة الشكر = التمتع بالطبيعة الشاكرة.
3. صلاة "إفنوتي ناي نان - ارحمنا اللّه" = الشفاعة عن الجميع.
4. قراءة (تسبيح) الإنجيل = الاختفاء في كلمة اللّه.
5. العظة = الحاجة المستمرة إلى التعلم.
6. أوشية الاجتماعات = حضرة اللّه وسط شعبه.
7. التحليل = الحاجة إلى مغفرة الخطايا.
حسب الطقس القبطي هذه الصلوات والتسابيح السبع يمارسها الأسقف إن كان حاضرًا، وهي تكشف عن الجوانب المتباينة والمتكاملة في طقس رفع البخور:
أولًا: غاية الطقس هو التعرف على السماء، لا معرفة الوعظ والحوار فحسب وإنما اولًا وقبل كل شيء معرفة الخيرة والتذوق لعربونها. فإذ يبدأ الأسقف أو الكاهن بفتح ستر الهيكل بعد أن يرفع غطاء الرأس (العمامة) إنما يدعو الكل أن يدخلوا إلى المقادس السماوية، ويعيشوا فيها. وقد جاءت كلمة هيكل بالقبطية مقتبسة عن كلمة السماء. وكما نقول في إحدى قطع الساعة الثالثة: "إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [متى رأيت ستر الباب قد انفتح فثق حينئذ أن السماء قد إنفتحت في العلاء(5).]
هكذا يرتفع قلب كل مؤمن لينطق في أعماقه مع الكاهن وهو يفتح ستر الهيكل، قائلًا:
"ارحمنا يا اللّه الآب الضابط الكل.
أيها الثالوث القدوس إرحمنا.
أيها الرب إله القوات كن معنا،
لأنه ليس لنا معين في شدائدنا وضيقاتنا سواك".
وكأنه في كل مرة يبدأ المؤمن شركته في رفع البخور يعلن أنه في وسط الشدائد والضيقات التي تلازمه، وتحت كل الظروف، يجد خلال مراحم الثالوث القدوس أبواب السماء مفتوحة، مدركًا أنه قد انضم إلى القوات السمائية كجندي صالح ليسوع المسيح، لذا يعتز بلقب "الرب إله القوات".
إنه يطلب معية الرب: "كن معنا"!
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثانيًا: يصلي الأسقف أو الكاهن صلاة الشكر... فإنه لا يقبل اللّه صلواتنا كرائحة بخور ذكية مالم تخرج من قلبٍ شاكرٍ له. القلب الجاحد يقف حاجزًا عن صعود البخور خارج سقف الكنيسة... أما الشكر فيحول النفس كما إلى بخور لا يحجزه أحد عن الدخول حتى عرش اللّه.
ثالثًا: صلاة "إفنوتي ناي نان"، حيث يمسك الأسقف أو الكاهن بالصليب ومعه ثلاث شمعات موقدة في خشوع ويرفع يديه متضرعًا:
"اللهم إرحمنا،
قرر لنا رحمة، (يرشم الصليب نحو الشرق)
تراءف علينا.
واسمعنا (يرشم الصليب وهو متجه نحو الشمال)
وباركنا (يرشم الصليب وهو متجه نحو الغرب)
واحفظنا (يرشم الصليب وهو متجه نحو الجنوب)
وأعنا (يرشم الصليب وهو متجه نحو الشرق)
ارفع غضبك عنّا،
تعهدنا بخلاصك، واغفر لنا خطايانا.
هكذا تحتمي الكنيسة كلها في المسيح المصلوب، الذي ينير العالم لتطلب الرحمة والبركة والعون مع بهجة الخلاص وغفران الخطايا للكنيسة في المشارق والمغارب.
رابعًا: قراءة الإنجيل المقدس. عمل الأسقف أو الكاهن أن يختفي في كلمة اللّه، ليتحدث الرب نفسه مع كل شعبه، ويتمتع الكل ببشارة الخلاص... إنه لا يُقرأ بل يُرنم، لأنه أنشودة حب يقدمها اللّه لكنيسته، كهنة وشعبًا، كي يختبروا الفرح الدائم فيه.
خامسًا: كلمة الوعظ، فالكنيسة تبقى كأم تقدم الغذاء الروحي لأبنائها لأجل نموهم الروحي. والأسقف أو الكاهن وهو يعظ يخاطب أعماقه قبل أن يخاطب الغير. وكما يقول القديس أمبروسيوس إنه ليس أحد وهو يُعلم لا يحتاج إلى تعلُّم مستمر إلا اللّه وحده. هذه مشاعره كأسقف له شهرته... إنه محتاج أن يتعلَّم كل يوم!
سادسًا: أوشية الاجتماعات حيث يطلب الكاهن من الرب مباركة شعبه بحضوره في وسطهم.
سابعًا: التحاليل، وسط هذا الجو السماوي الإنجيلي التعليمي يشعر الكل، الأسقف مع بقية رجال الكهنوت والشعب، بالحاجة إلى مغفرة الخطايا، لذا يطلب الأسقف (أو الكاهن) من اللّه أن يهبه وكل الحاضرين بل وكل الشعب غفران الخطايا، ليخرج الكل من هذه الخدمة وقد ألقوا كل أتعابهم وخطاياهم عند قدميً المخلص، فينطلقوا كما بجناحي الروح إلى ممارسة الحياة السماوية خلال غربتهم على الأرض.
هكذا من العناصر الرئيسية السابقة لطقس رفع البخور نتلمس مفهوم العبادة المسيحية.
إنها عبادة السماء المفتوحة، مع تمتع بالطبيعة الجديدة الشاكرة.
عبادة الانفتاح على البشرية بالحب والصلاة لأجلهم.
عبادة الاختفاء في كلمة اللّه المفرحة، مع الشعور بالحاجة إلى التعلم المستمر.
عبادة إلقاء كل الخطايا عند قدمي المخلص لينطلق الإنسان كسحابة خفيفة نحو السماء!
_____
(5). القس منقريوس عوض اللّه: منارة الأقداس، جـ3، ص 86.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/praise/incense-rite.html
تقصير الرابط:
tak.la/s6y3g8m