5- عجز الكل عن التمتع الدائم بالصلاح الأسمى
من يستطيع أن يتأمل في هدوء مدركًا مجد العظمة الإلهية أثناء هذا العمل؟! وهو "المنقذ المسكين مِمَّن هو أقوى منهُ، والفقير البائس من سالبهِ" (مز 10:35)، "هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانهِ خطفت الفريسة" (أي 17:29). من يقدر أثناء اهتمامه بالفقراء.. أن يتأمل في عظمة السعادة، وبينما هو منشغل باحتياجات الحياة الحاضرة بالنسبة لهم يكون قلبه مرتفعًا على الدوام فوق أقذار الأرض؟!.. مَن مِنَ الناس حتى وإن كان رئيسًا للأبرار القديسين نظن أنه في وقت ما يقدر وهو مقيد بقيود هذه الحياة أن يصل إلى هذا الصلاح الرئيسي دون أن يتوقف عن التأمل المقدس؟ أما ينجذب ولو إلى وقت قصير عن ذاك الذي وحده صالح بواسطة أفكار أرضية؟ أما لا يهتم ولو إلى حين من أجل طعام أو لباس أو أمور جسدية أخرى أو يهتم باستقبال الإخوة أو تغيير مكانه أو بناء قلايته...؟
علاوة على هذا فإننا نؤكد بثقة أنه حتى الرسول بولس الذي فاق جميع القديسين من جهة عدد مكابداته وأتعابه لم يستطع أن يتخلى عن هذه الأمور، إذ كما يشهد بنفسه للتلاميذ في سفر أعمال الرسل قائلاً: "أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتْها هاتان اليدَان" (أع34:20). وعندما كتب إلى أهل تسالونيكي شهد بأنه كان يشتغل بتعب وكد ليلاً ونهارًا (2تس8:3). وإن كان بمثل هذه الأعمال صارت له مكافآت عظيمة من أجل فضائله، إلا أن عقله مهما يكن مقدسًا وساميًا لكنه أحيانًا ينجذب عن التأمل الإلهي بانشغاله بالأعمال الأرضية.
علاوة على هذا، إذ رأي نفسه غنيًا بثمار فعلية كهذه وقد أدرك صلاح التأمل، مقارنًا فائدة هذه الأعمال كلها بمباهج التأمل الإلهي المقدس جذبه هذا إلى ترك هذه الحياة. وأخيرًا في حيرته كان يصرخ قائلا: "فماذا أختار لست أدرى0 فإني محصور من الاثنين، لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًّا، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في22:1-24). إنه لا يمكن للعقل الذي تعوقه اهتمامات متعددة كهذه وتعرقله اضطرابات متعبة كهذه أن يتمتع على الدوام بالرؤية المقدسة...
لأنه من منا قد أكثر الخلوات في الصحراء وتجنب اللقاء مع الناس بطريقة لم يعد فيها فكره يجول قط في أمور غير هامة ولا ينظر أبدًا إلى أعمال أرضية منحدرًا بعيدًا عن التأمل في الله الذي بالحقيقة وحده الصالح؟ من استطاع أن يحفظ روحه متقدة في كل وقت حتى لا يعبر به أي فكر يشغله عن هدفه للصلاة ويحدره من التأمل في الأمور السماوية إلى الأمور الأرضية فجأة؟ من منا حتى في اللحظة التي يرفع فيها نفسه للصلاة لله بسمو لا يسقط قط في التشتيت؟... إنني أتساءل: من هو متيقظ وساهر هكذا حتى لا يسمح بعقله أبدًا أن يتحول عن معنى الكتاب المقدس أثناء ترنمه بالمزمور لله؟ من هو هكذا محب لله ومتحد به تمامًا حتى يطوب نفسه عندما ينفذ ليوم واحد وصية الرسول الذي أمرنا أن نصلي بلا انقطاع (1تس17:5)؟
مع أن هذه الأمور جميعًا قد تبدو للمنغمسين في خطايا جسيمة على أنها أمور تافهة وبعيدة تمامًا عن الخطية، لكن الذين يدركون قيمة الكمال، يرون حتى الأمور البسيطة جدًا عظيمة الخطورة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-23-highest-good.html
تقصير الرابط:
tak.la/4gpptv4