كان السجنُ الذي احتضن ميلانيه وإيلارية وماريا عبارة عن غرفة واحدة مُظلمة رطبة رائحتها نفّاذة وكأنّها قبرٌ تسكنه الأجساد العفنة.. يوجد به طاقة واحدة أعلى الغرفة تجلب نسمة هواء لئلا تختنق الفتيات.
لم تكن الفتيات المسيحيّات وحدهن في المكان، إذ جمع المكان اثنتي عشرة فتاة وامرأة في تلك الغرفة الضيّقة، أغلبهن عبداتَ لسادةٍ أردن تأديبهن لعدم الطاعة أو لخطأ لا يغتفر أو لعدم الموافقة على مُمارسة الخطيئة كمحظيّات.. كان يرتسم على وجوههن الأسَى وكأنّه صار لهن قناعًا..
إلاّ أنّه كانت هناك فتاةٌ تجلس وحيدةً في الركن الغربي من السجن وكأنّها أرادت أنْ تنزوي حتّى عن رفقة الأسَى، كانت أحزان الفتاة تنسدل دموعًا على وجنتيها وتتصاعد تنهّدات وزفرات من أعماقٍ مختنقةٍ بأظافر منايا الدهر المريرة.
لم تنس الفتيات المسيحيّات عملهن الأساسي في محاولة رفع صخور الألم والهمّ عن الصدور..
ذهبت إليها ماريا وهي الصغرى، وقالت لها بوجه باسمٍ، مشرق الأسارير، ملائكي الملامح، وكأنّ الملائكة نفثن فيه لمحة من طهر النور:
- ما لكِ تبكين وتنزوين وحيدة هكذا؟
- لا شيء..
- لا تقلقي فأنا أريد مساعدتك.
نظرت إليها الفتاة وقالت: أنا لا أحتاج مساعدة من أحد.
- ولكننا نحتاج لعون بعضنا البعض حينما يحاصرنا اليأس.
أجابتها وكأنّها تقذف بالخواطر والأفكار خارجًا عن خرائب النفس المتوجّعة: أنا أشكي همومي لأدوناي، وهو الذي يرفع عني الظلم كما نجّا أستير وشعبنا قديمًا.
- هل أنت يهوديّة؟
- نعم، أجابت بقلقٍ
- وما اسمك؟
- سارة..
- آه.. سارة تعني أميرة..
- وأنت؟
- ماريا.. إنّ أدوناي إله حاني يسمع دعوات الصارخين إليه ليل نهار ولا يصمّ أذنه عن صراخ البائس والمسكين.
انفرجت أسارير الفتاة قليلًا وهي تقول بصوتٍ مشوبٍ بأملٍ ذابلٍ: هل أنت يهوديّة أيضًا؟
أجابتها ماريا: إنّ أجدادي كانوا يهودًا ولكنّهم آمنوا بالمسيّا حينما جاء.
- مَنْ تقصدين؟
تقهقرت سارة بجذعها إلى الخلف وحوّلت وجهها وهي تقول: أنا لا أتحدّث مع المسيحيّات.
- ولم لا؟
- لأنّكم انحرفتم عن ديانة آبائنا وتركتم عبادة أدوناي القدّوس لعبادة إنسان.
مالت نحوها ماريا وهي تقول بصوتٍ ناعم: ليس هذا صحيحًا، فلقد قال الربّ: لم آت لأنقض بل لأُكمّل.. كما أنّ المسيّا ليس إنسانًا ولكنّه الله المُتجسّد من أجل محبّته..
وهل تحفظين السبت؟ سألتها سارة مستنكرة كلامها.
أجابتها ماريا: إنّنا نحفظ الأحد لأنّ فيه قيامة الربّ من بين الأموات، ونحتفل بالقيامة معًا في الكنيسة.
- ألم أقل لك إنكم انحرفتم عن إيمان الأجداد، فلقد أمر الربّ بحفظ السبت كفريضةٍ أبديّةٍ، وأنتم رفضتم كلام الربّ..
ابتسمت ماريا كما لو كانت أمام طفلٍ قد تشبّث برأيه وهي تقول: هل تعلمين أنّ كلمة سبت تعني راحة بالعبريّة؟
- بالطبع.
- إذًا فإنّ الوصيّة هي أنْ نحفظ يومًا للراحة نُكرّسه للربّ، نرتاح فيه من أعمالنا الخاصة لنتفرّغ للصلاة وعمل الخير.
- إنكم تُحوِّلون الوصيّة.
- بل نفهمها حسبما أراد الربّ.
- أنا لا أريد الدخول في جدالٍ معك، فقط اتركيني وحدي.
- وأنا لم آت لأخوض معك في جدلٍ، فقط جئت لأطمئن عليك ولأرى إنْ كنت في حاجة للحديث مع أحدٍ..
- شكرًا.. ولكنّي لا أتحدّث مع مسيحيّات..
ابتسمت ماريا وهي تقول، بينما ترفع عينيها صوب الطاقة أعلى الغرفة: الربّ يملأ قلبك بالسلام والراحة والفرح..
رجعت ماريا إلى ركنها بجوار ميلانيه وإيلارية وبدأن في التسبيح بصوتهن العذب السماوي فتردّد صداه في أروقة السجن ..
الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ،
الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا
وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ.
الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ،
لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ.
الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ.
لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ كَخِرَافٍ ضَالَّةٍ،
لَكِنَّكُمْ رَجَعْتُمُ الآنَ إِلَى رَاعِي نُفُوسِكُمْ وَأُسْقُفِهَا
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/light/prison.html
تقصير الرابط:
tak.la/dq96dbw