قدم القديس يوحنا ذهبي الفم تفسيرًا كاملًا للأربعة أناجيل، ومنها يَعرض هذا الكتيب جزء من العظة 88 الخاصة بالآيات 45 إلى 48 من إصحاح 27 لإنجيل متى. وقد وَجَدتُ أن هذه العظة مترابطة في كثير من أجزائها، لذلك نقلت إلى اللغة العربية جزء كبير منها. فهو يتحدث عن أن الصليب والظلمة كانت أكثر العلامات التي تُشير أن هذا هو ابن الله. وحتى اللحظة الأخيرة من حياته على الأرض كان أمينًا لما لأبيه وتفوه بكلمات المزمور ال 22 مشيرًا بذلك أنه حتى لحظاته الأخيرة كان له نفس الغرض والذهن مع الله أبيه. فغرض الظلمة وغرض الكلمات في هذا الوقت هو أن يُحرك قلوب صالبيه ليفهموا ويدركوا أنه هو ابن الله. فهو إلى آخر لحظة يُكرِم الآب ويتكلم بنفس كلامه الذي كَلَّم وتكلم به الأنبياء في العهد القديم.
ترجمة عظة القديس يوحنا ذهبي الفم على انجيل متى الإصحاح 27.
{هذه إذا هي العلامة التي وعد أن يعطيها لهم عندما سألوه، فقال: "جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. " وهو يقصد صليبه، وموته، وقبره، وقيامته. ثم مجددًا يُعلن بطريقة آخري استقامة غرض الصليب حيث قال: " مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ "، وما قاله كان لهذا المغزى (كأنه يقول): "عندما تصلبونني، ستظنون أنكم تغلبتم علي، ولكنكم ستعرفون قوتي".
لأن المدينة، بعد الصليب، قد تحطمت؛ وانتهت دولة اليهود، وسقطت سيادتهم وحريتهم، وازدهرت البشارة، وانتشرت الكلمة إلى أقصى العالم، (عن طريق) كلًا من البحر والبر، وفي كلًا من الأرض المأهولة والصحاري، مُستمرةً في اعلان قوته. فهذه إذًا هي الأمور التي قصدها، تلك التي حدثت في وقت الصلب تحديدًا. لأنه بالفعل كان أمر مثير للعجب أن هذه الأمور وجب أن تحدث عندما سُمّرَ على الصليب، (أكثر ملائمة) من أن تحدث عندما كان يمشي على الأرض. وليس العجب في هذا الصدد فقط، إنما من السماء أيضًا حدث هذا الذي بحثوا عنه[30]، وكان على كل العالم وهو الأمر الذي لم يحدث مسبقًا، بل قد حدث في مصر فقط، حينما تُمم الفصح، لأن هذه الأمور هي ظل تلك.
ولاحظ أيضًا متى حدث هذا الأمر. في منتصف النهار، حتى أن كل من سكن الأرض يقدر أن يعرف، حيث كان نهارًا على كل الأرض؛ والذي كان قادرًا على تغييرهم، ليس فقط بسبب عظمة المعجزة، ولكن أيضًا بسبب حدوثها في الزمن المناسب. لأنه بعد كل اهاناتهم وسخريتهم غير القانونية، حدث هذا، حينما انهوا كل غضبهم، وحينما أبطلوا التعيير، حينما أُتخموا من سخريتهم، وتكلموا بكل ما في أذهانهم؛ حينئذ أظهر (المسيح) لهم الظلمة، حتى أنهم على الأقل، وبعد أن نفّسوا عن غضبهم، يستفيدوا من المعجزة. لأن هذا كان يستحق العجب أكثر من لو كان نزل من على الصليب، حيث أنه بكونه على الصليب، فهو الذي صنع هذه الأمور. لأنهم سواء فكروا أنه هو نفسه الذي صنع هذه، لكان يجب عليهم أن يصدقوا أو يخافوا، أو إذا لم يكن هو، بل الآب، لوجب أن يتحرك فيهم الندم، لأن هذه الظلمة كانت علامة غضبه على جريمتهم. لأن هذا لم يكن خسوفًا، ولكن غضب وسخط؛ ولم يكن ذلك واضحًا وحده فقط، بل أيضًا (واضحًا) من خلال الزمن، لأنها (الظلمة) استمرت ثلاث ساعات، ولكن الخسوف يأخذ لحظة من الزمن، وهم يعرفون ذلك، الذين رأوا هذه؛ وبالفعل قد حدث هذا حتى في جيلنا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ولكنك يمكن أن تقول كيف لم يصنع كل المعجزات، و(مع ذلك) نعده إلها؟ لأن جنس البشر كان مقبوض عليه في حالة عظيمة من اللامبالاة والرذيلة. وهذه المعجزة لم تكن إلا واحدة، وعندما تحدث ستعبر فورًا، ولن يهتم أي واحد أن يستفسر عن سببها، (لأن) التعصب والفجور تعاظما جدًا. فلم يعرفوا سبب حدوث هذا (الظلام)، وقد ظنوا أنه ربما قد حدث هذا (الظلام) هكذا مثل خسوف أو ظاهرة طبيعية. ولماذا لا تتعجب منهم، الذين لا يعرفون شيئًا، ولا استفسروا بسبب اللامبالاة العظيمة، الذين كانوا في اليهودية نفسها، وبعد كل المعجزات الكثيرة، ومع ذلك عاملوه هكذا، بالرغم أنه أظهر لهم بوضوح أنه هو نفسه الذي صنع هذه.
من أجل هذا السبب، حتى بعد أن تكلم لكي يعرفوا أنه مازال حيًا، أنه صنع هذه بنفسه، حتى يكونوا هم أكثر لطفًا، قال: "إيلي، إيلي، لما شبقتني؟" حتى أنهم يروا أنه للنفس الأخير يُكرِم والده، وأنه ليس خصمًا لله. لأجل ذلك أطلق صياحًا معينًا من النبي[31]، حتى ساعته الأخيرة ظل حاملًا الشهادة للعهد القديم، وليس ببساطة صراخ النبي، بل أيضًا بالعبرية، حتى يكون واضح ومفهوم لهم؛ وعن طريق كل الأشياء أظهر كيف أنه له نفس فكر أبيه.
ولكن لاحظ هنا أيضًا فسقهم واسرافهم وحماقتهم. لقد ظنوا أنه ينادي إيليا، وفورًا أعطوه خلًا لكي يشرب. ولكن جاء آخر إليه، وطعن جنبه بحربة. ماذا يمكن أن يكون أكثر فوضوية، أكثر وحشية، من هؤلاء الرجال الذين أخذوا جنونهم إلى أقصى الحدود، وصنعوا اهانات للنهاية حتى إلى جسد ميت؟} [32]
وبذلك نجد أن القديس يوستين والقديس يوحنا ذهبي الفم اهتموا اهتمامًا خاص بذكر المزمور وأهميته في هذه الساعة من الصليب وأنه كان من المهم أن ينطق المسيح بهذه الكلمات لكي يُذَكّر اليهود بهذا المزمور.
_____
[30] يقصد الظلمة.
[31] (مزمور 22: 1).
[32] St. Chrysostom, Homily LXXXVIII, NPNF110, Pg. 501, 502.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-pakhomius-marcos/god-forsaken-me/chrysostom.html
تقصير الرابط:
tak.la/s6dn9j9