من المعروف عن القديس باسيليوس أنه نشأ في أسرة عريقة تحمل داخلها إيمانًا نقيًا يبعد كل البعد عن أي شائبة.
وكان يتسم بالبعد التأملي والألفاظ الواضحة عن لاهوت السيد المسيح ومساواته مع الآب في الجوهر واشتراك الروح القدوس معهم في كل شيء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقد رأينا ذلك واضحًا جليًا في قداسة الذي نصليه في أغلب أيام السنة وهو (القداس الباسيلي) فهو الذي وضعة وأصاغ ألفاظه الواضحة التي تشرح لنا الثالوث القدوس وشرحه لتجسد الابن الوحيد الجنس: [يا الله العظيم الأبدي الذي جبل الإنسان علي غير فسادٍ والموت الذي دخل إلي العالم بحسد إبليس هدمته، بالظهور المحيي الذي لابنك الوحيد الجنس ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح..]
وفي قطعة تجسد وتأنس أوضح لنا عمل الروح القدس في التجسد والتأنس عندما قال [هذا الذي من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم].
وغيرة الكثير والكثير من العبارات التي أوضحت لنا وحدة الثالوث القدوس وعملة الخلاصي وفدائه للبشرية، وقد وضع لنا شرحًا وافيًا عن الثالوث قال فيه:
عندما سلمنا ربنا صيغة الإيمان بالآب والابن والروح القدس، لم يقرن هذه النعمة بعدد فهو لم يقل باسم الأول والثاني والثالث ولا أشار إلى واحد واثنين وثلاثة. بل منحنا نعمة معرفة الإيمان الذي يقودنا إلى الخلاص، حتى أننا نخلص بالإيمان وبمعرفتنا بأسماء الأقانيم المقدسة، أما العدد فقد اخترعه العقل كوسيلة لحصر الكميات. أما الذين يجلبون الدمار على أنفسهم، فيريدون استخدام طريقة “العد” ضد الإيمان. ومع أن الأشياء لا تتغير إذا حسبت عدديًا كلٌ بعد الأخر في تسلسل عددي، إلا أن أولئك الذين يرون استخدام العدد في الكلام عن الطبيعة الإلهية يتجاوزون الإكرام اللائق بالباراقليط.. ونحن نعلم عن كل أقنوم على حده، وإن كان يجب علينا استخدام الأعداد، فإننا لا نسمح لأنفسنا، فإننا لا نسمح لأنفسنا بأن تحملنا قواعد الحساب إلى تعدد الآلهة في الوثنية. نحن لا نجمع بالإضافة واحد زائد واحد وبذلك نتدرج من الوحدة إلى الكثرة. كما أننا لا نقول واحد، اثنان، ثلاثة ولا نقول أولًا وثانيًا وثالثًا بل مكتوب “أنا الله الأول وأنا الآخر” (إش44: 6). ولم نسمع قط حتى هذا اليوم عن إله ثان بل أننا نعبد الإله من الإله، ونعترف بتمايز الأقانيم وفي نفس الوقت نتمسك بالوحدانية. ولا نبدد اللاهوت بتجزئته إلى أقسام متعددة، بل جوهر واحد غير مجزأ نراه في الله الآب والله الابن الوحيد. ووحدة بلا انقسام لأن الابن في الآب والآب في الابن وهو ما ينفى وجود اختلاف بينهما، بل يجعلهما جوهرًا واحدًا. وبالتمايز هما الاثنان أقنوم وأقنوم وبالاشتراك في الطبيعة الإلهية الواحدة هما واحد. كيف إذًا وهما واحد وواحد ليس اثنين؟
السبب هو أننا نتحدث عن ملك واحد وعن صورته، وهذا لا يعنى وجود ملكين. فلا السلطة ولا القدرة ولا المجد ينقسم، بل السيادة والسلطة والحكمة هي واحدة. وفي اللاهوت نفس الوضع لأن المجد الذي نقدمه لله يقدم إلى الواحد وليس إلى تعدد الآلهة، لأن إكرام صورة الملك هو إكرام الملك. وفي حالة الملك والصورة فإن الفرق بين الملك والصورة هو في الطبيعة، إذ هي تمثل الملك، أما في حالة الآب والابن فالطبيعة واحدة. وفي الفنون يحاول الفنان أن يرسم شبيهًا متقنًا، أما في اللاهوت فالطبيعة الإلهية بسيطة غير مركبة فإن الوحدة بين الآب والابن هي وحدة قائمة على الشركة في الجوهر الإلهي بينما الوحدة بين الملك والصورة هي وحدة في الملامح فقط. واحد هو الروح القدس الذي هو واحد مع الآب الواحد والكل هو الثالوث المبارك المسجود له.
وواضح بشكل كافٍ أن الروح القدس قائم في شركة الجوهر مع الآب والابن، لأنه لا يحسب ضمن الخليقة المتعددة بل نتكلم عنه كواحد لا مثيل له في الخليقة. وكما أن الآب واحد والابن واحد، كذلك الروح القدس واحد وهذا يجعله بعيدًا تمامًا عن الطبيعة المخلوقة لأن الفكر السليم لا يسمح لنا بأن نضع الواحد الذي لا مثيل له والبسيط غير المركب مع الخليقة المركبة القائمة في كثرة من الأجساد. أما الروح القدس فهو متحد مع الآب والابن في وحدة لا مثيل لها.
وما ذكرناه سابقًا ليس هو المصدر الوحيد للبراهين على الشركة في الجوهر، بل لأن الروح القدس “هو من الله” (1كو1: 12)، ومعنى “من الله” ليس مثل الكلام عن الخليقة التي هي أيضًا من الله، بل المعنى الدقيق المتعارف عليه وهو أنه صار من الله، ليس بالولادة مثل الابن وإنما مثل النفخة الصادرة من الفم. ولكن الفم هنا لا يعنى مطلقًا ذلك العضو الجسدي، ولا نفخة الفم التي تتبدد بمجرد خروجها من الفم، بل هو الفم على المستوى الإلهي الذي منه يصدر الروح القدس أقنومًا حيًا متميزًا بطبيعة التقديس الفائقة. وهكذا يمكننا أن ندرك وحدته مع الآب والابن، بينما يظل كيانه الإلهي غير المدرك فوق القدرة على التعبير.
ويقال عن الروح القدس أنه روح المسيح لتأكيد علاقته الروحية بالابن كما قيل “من لم يكن فيه روح المسيح فهو ليس منه” (المسيح) (رو8: 9). فبالروح هو وحده الذي يمجد الرب حسبما قيل “هذا يمجدني” (يو16: 14).
ولكن ذلك التمجيد ليس مثل تمجيد الخليقة، بل يمجده لأنه “روح الحق” (يو14: 17). الذي يعلن الحق في ذاته بكل وضوح وكروح الخدمة يعلن لي عظمة المسيح الذي هو ”قوة الله وحكمة الله” (1كو1: 24).
ولكي ندرك أن الروح القدس ليس مثل الخليقة ولا منها، علينا أن نميز بين المجد الذاتي الذي يشع من ذات الله مثل إشعاع نور الشمس، والمجد الذي يعطى بحرية لمن يستحقه وهو مجد يضاف من الخارج. والمثل الواضح هو ما قيل أن ” الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده” (ملاخى6:1). وإكرام العبد هو ما تقدمه الخليقة، أما الإكرام الآخر الذي يمكن أن يقال أنه إكرام المتساويين في الكرامة فهو ما يحققه الروح القدس. وكما قال ربنا “أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني قد أكملته (يو17: 4) يقال نفس الكلام عن الباراقليط ”ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويعلنه لكم” (يو16: 14) وكما أن الابن يُمَجدْ من قِبل الآب كما قال ” مجدتك وسوف أُمجدك أيضًا” (يو12: 28). وأيضًا يمجد الروح فالشركة في الجوهر التي له مع الآب والابن، وبشهادة الابن الوحيد عنه التي يقول فيها ” كل خطية وتجديف يغفر للناس، أما التجديف على الروح فلن يغفر” (مت12: 31).
وعندما نستنير بالقوة التي فينا، ونحدق النظر في جمال صورة الله غير المنظور، ومن الصورة نبلغ إلى الجمال الفائق الذي للأصل وعندما يكون روح المعرفة حاضرًا بلا انفصال فإنما في ذاته، لمن يحب رؤية الحقيقة وقوة معاينة الصورة، لا من الخارج بل يقودهم إلى معاينتها في ذاته (الروح القدس). وكما أنه لا أحد يعرف الآب إلا الابن (مت11: 27)، وأيضًا لا يقول أحد أن يسوع هو الرب إلا “بالروح القدس” (1كو12: 3) ولم يقل بواسطة الروح القدس، بل يقول بالروح القدس، لأن الله روح والذين يسجدون له، فبالروح والحق يجب أن يسجدوا (يو4: 24)، كما هو مكتوب، في نورك نعاين النور أي باستنارة الروح ” النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتٍ إلى العالم” (مز36: 9) (يو1: 9) وهذا يوصلنا إلى أن الروح القدس هو الذي يعلن في ذاته مجد الابن الوحيد وأنه هو الذي يمنح للساجدين الحقيقيين المعرفة الحقيقية لله. إذن طريق معرفتنا بالله يبدأ بالروح الواحد من خلال الابن الواحد إلى الآب الواحد ولكن بعكس ذلك يصلنا الصلاح الإلهي وقداسة الله ومجد الملكوت من الآب بالابن الوحيد في الروح القدس. وفي كلا الاتجاهين يظهر الاعتراف بالأقانيم ولا ينتهك الإيمان الحق بالوحدانية، أما أولئك الذين يعتمدون على فلسفة الأعداد ويقولون أول وثان وثالث بقصد إظهار اختلاف الأقانيم، فعليهم أن يعرفوا أنهم يجلبون مبدأ تعدد الآلهة من ضلال الوثنية ويحاولون إدخاله في لاهوت المسيحيين النقي. وضلال الاعتماد على الأعداد ظاهر، لأنه يؤدى إلى الاعتراف بأكثر من إله ويصبح ثمة إله أول وثان وثالث. أما نحن فيكفينا التسليم الذي سلمه إلينا الرب، وكل من يمزج بين هذا التسليم والمعرفة الغريبة فإنه ليس أقل جرمًا في تعدى الشريعة من الوثنيين الضالين(1).
وقال أيضًا عن الثالوث:
* "إنه يملأ الكل بقوته، لكنه يُشترك فيه بالنسبة للمتأهلين وحدهم.. والذين لهم شركة الروح يتمتعون به قدر ما تسمح طبيعتهم، وليس قدر ما يستطيع هو أن يهب نفسه في الشركة".
* "الباراكليت مثل الشمس للعين النقية يُظهر لك في نفسه الصورة (الابن) التي (للآب) غير المنظور. وبالتأمل الطوباوي للصورة سترى الجمال غير المنطوق به الذي للأصل. إنه هو الذي يشرق في أولئك الذين يتطهرون من الدنس، ويجعلهم روحيين خلال الشركة معه. وكما أن الأجسام البهية الشفّافة متى سقطت عليها أشعة الشمس، تصير بهية تعكس منها بهاءً على الآخرين، هكذا النفوس الحاملة للروح إذ تستنير بالروح تصير هي نفسها روحية وتبعث نعمة على الآخرين".
وينقل القديس باسيل تمجيد قديم من القرون الاولي من الكنيسة اليونانية يقول "نسبح الآب والابن وروح الله القدوس".
_____
(1) عن كتاب الروح القدس للقديس باسيليوس الكبير، الفصل الثامن عشر، الفقرات: 44ـ46، ص. 123ـ128.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/ebooks/patristic-trinitarian/basil.html
تقصير الرابط:
tak.la/jkb334t