لقد كان القديس كيرلس كسكندري أصيل، تابعًا متحمسًا للتفسير الروحي للكتاب المقدس، وأيضًا في إطار التعليم عن شخص المسيح يشرح لنا التفسير الروحي. فكما أن ناسوت المسيح يؤكد ألوهيته تاريخيًا، هكذا أيضًا الحرف أو التاريخ يُعلنان المعني الروحي الإلهي المقصود من الكلام المكتوب.
والتفسير الروحي، بحسب القديس كيرلس، يتخذ الحرف أو التاريخ أساسًا له إذ فيه يتعرف على سر المسيح "سر التدبير الإلهي". فالتجسد يُعلن هدف التدبير الإلهي ويتعرف عليه عندما ننظر إلى أقوال وأعمال المسيح المدونة في الكتاب المقدس وفق هذا التجسد "الإخلاء".
لذلك، بحسب القديس كيرلس، يجب أن نعبر من حرف الكتاب والذي يصف الكلمة بطريقة بشرية، أي وفق مقاييس بشرية، إلى الفهم الروحي الإلهي. إذن التفسير الروحي عند القديس كيرلس يستلزم التمييز الواضح بين عالمين: العالم المحسوس المادي؛ والعالم الروحي الذهني، ويستلزم أيضًا التأكيد على الإتحاد بين هذين العالمين بدون امتزاج، كما تحقق هذا الإتحاد في شخص المخلص الواحد ربنا يسوع المسيح. وبناء على ذلك فتطبيق التفسير الروحي يُنظر إليه على أنه تجلي وتغيّر للعنصر التاريخي والإنساني (الحرفي) وتحوله إلى العنصر الإلهي والروحي والذي هو متحد معه بغير امتزاج ولا انفصال.
(1) يؤكد القديس كيرلس على أن الكتاب المقدس يتكلم عن الله بشريًا لأن الله لا يستطيع أن يتكلم أو يُعلن عن نفسه إلاّ بطريقة بشرية قريبة من الإنسان ومفهومة لديه (تفسير المزامير)، وهذه الطريقة لا تقلل من سمو المجد الإلهي، ولكن على العكس، فإن عجز العقل البشري واللغة البشرية هما السبب الذي جعل الكتاب يتكلم بطريقة بشرية عن الله. وهكذا فالكلام عن الله يحاكي ويتكيف بحسب الحاجة مع مقاييس الكلام البشري. ولكي نعرف سمو المجد الإلهي، علينا أن نفهم الشواهد التاريخية والإنسانية عن الله، المدونة في الكتاب المقدس وذلك بطريقة خاصة. إذ أن الإنسان موجود في كثافة جسدية وتحكمه قوانين بيولوجية، ويجب عليه ألاّ ينحصر في الفهم البشري للكلمات " اللاهوتية " ولا يعيها بطريقة حرفية صارمة أو بطريقة تاريخية فقط ولكن وفق العنصر الإلهي.
ستظل الكلمة البشرية قاصرة وغير كافية لوصف الإلهيات، فتعبيرها دائمًا نسبي، فهي محصورة داخل حدود اللغز والنموذج والعلامة والمثال. وبواسطة الكلمة نستطيع أن نفهم جانبًا ما من العنصر الإلهي الروحي. فالكلمة الكتابية لا تعلن ماهية الله بالضبط، ولكن تعلم بعض مفاهيم عن الله (ضد نسطور 3:1 P.G. 76, 33C).
والذي حدد هذه المفاهيم ليست الكلمات اللغوية أو المفاهيم التاريخية في حد ذاتها، ولكن المعني الروحي المختفي والعميق السري، وذلك بحسب التدبير. والتدبير هو الذي يقودنا إلى الفهم الصحيح للأقوال البشرية (تفسير إشعياء 1:3)، (P.G. 70, 565C).
إذن التفسير الروحي للكتاب ليس هو قضية لغوية أدبية صارمة، تقتصر فقط على الفهم الحرفي أو التاريخي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولكن هدف التفسير هو "المعرفة الإلهية " والتي تستلزم عدم بقاءنا في الحرف أو التاريخ، ولكن نعبر فيه إلى الروح، فما يرمي إليه التفسير هو المعرفة الخلاصية لعمل التدبير الإلهي. لا يمكن أن نظل في الحرف (الكلمة المكتوبة) لأن الغرض منها هو الصعود الدائم نحو الأسمى، من المحسوس إلى الروحي. فالحرف يخدم سر التدبير الإلهي، والمحسوسات البشرية تتغير وتتجلى بفضل التجسد، نحو الحالة الإلهية في المسيح يسوع (تفسير متى، P.G. 75, 429C).
(2) يشدد القديس كيرلس على عدم إحتقار الحرف أو التاريخ، فلكي نصل إلى التفسير الروحي لابد أن نفهم أولًا الخاصية التاريخية واللغوية للنص، وعن طريق هذا الفهم يستطيع المفسر أن يتعرف على قوة الكلمة التي تقود إلى الرؤية الروحية. فالتفسير التاريخي والحرفي عند القديس كيرلس مهم لأنه::
أ- يعتبر الظل الذي يقود إلى عمق الروحيات
ب- يُؤّمن حقيقة المفاهيم الروحية الإلهية بعيدًا عن التأمل الروحي المريض، لأن التاريخيات أو الحروف هي نماذج وظلال للحقيقة.
ج- له هدف تربوي، وتعليمي، وأدبي لأن مختارى الله سواء في العهد القديم أو العهد الجديد هم نماذج وقدوة للحياة المسيحية الحقيقية.
تاريخي وروحي، والذي يقودنا إلى التفسير الصحيح هو الإيمان، لأن الإيمان يسبق المعرفة، إذ بواسطة الإيمان يصل الإنسان إلى المعرفة الكاملة (شرح إنجيل يوحنا2:4،4)، والإيمان هنا هو المعرفة الصحيحة عن الله داخل حياة الفضيلة (شرح يوحنا12)، الإيمان بالاتحاد بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية بغير إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير في شخص المسيح، أعاد الوحدة بين المحسوس والروحي، وأيضًا بين أنشطة الإنسان الجسدية والحياة الروحية. ولكي نصل إلى المفهوم العميق والسري للكلمة الكتابية، هناك إحتياج دائم لتطبيق الهدف العام، بمعنى أن نتعرف داخل شخصيات وأحداث وروايات الكتاب على فعل التدبير الإلهي وبالتحديد سر المسيح. هذه الطريقة تمنع وجود أي مسافة فاصلة بين العهدين القديم والجديد كما أنها تمنع وجود خلط بين العهدين. فالعهد القديم والعهد الجديد بينهما علاقة لا تنقطع، والتقليد الأسكندرى الذي ينتمي إليه القديس كيرلس يستند على تفسير (2كو6:3) " الذي جعلنا كفاةً لأن نكون خدام عهد جديد. لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي"، و(عب1:10) " لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبدًا بنفس الذبائح كل سنة التي يقدمونها على الدوام أن يكمل الذين يتقدمون".
فالعهد القديم هو نص نبوي له شكل الظل والمثال والنموذج، فهو يتنبأ عن سر المسيح، وهذا يسري على أسفار موسى الخمسة وأيضًا على كل الكتب النبوية. (العبادة والروح والحق ج6، تفسير إشعياء5:2)، والعهد القديم هو ظل للعهد الجديد، وذلك في حالة فهمه بالتفسير الروحي، لأن طبيعة الكلمة الكتابية هي لغز وظل ومثال.. وبدون اللجوء للمحتوى الذي يُعلن بواسطة الكلمة فهي تظل بلا فائدة كما في (شرح يوحنا4:5).
1- بالعهد القديم نرى أن سر المسيح ليس شيئًا جديدًا ولا مستحدثًا، بل هو موجود من البداية وقد عُبّر عنه في شكل الرمز والظل في الأحداث والأعمال التعبدية وأيضًا في الأعياد المذكورة في العهد القديم.
2- كان المسيح حاضرًا في أحداث وشخصيات العهد القديم ولكن أيضًا بالرمز والمثال، وذلك بسبب ضعف السامعين.
3- حضور المسيح في العهد القديم يُبرهن على أن الكتب المقدسة أوحيت بنور روح المسيح.
وهكذا يُشدّد القديس كيرلس على أن نقبل العهد القديم لا بالمفهوم الحرفي بل بالمفهوم الروحي
+ ومن كل ما سبق نستطيع أن نفهم أن القديس كيرلس كان ينتمي الي مدرسة التفسير الروحي العميق لأسفار الكتاب المقدس مستخدمًا العهد القديس كأساس روحي قوي وسليم لكل متجاء في العهد الجديد، رابطًا بينهم في تناغم وتناسق يفوق الوصف، بارعًا في انتقاء الأيات التي تفيد المحتوي الفكري الذي يتكلم عنة، شارحًا وموضحًا ومفسرًا لكلمة الحق بكل استقامة وإستنارة وحق.
ولإلهنا كل المجد والإكرام والسجود من الآن وإلي الأبد امين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-botros-elbaramosy/ebooks/cyril-paschal-messages/commentary.html
تقصير الرابط:
tak.la/m5wb865