(4)
(18) قلتَ في خطابك أنه يبدو أو بالأحرى قد بدا لك أن البر (العدل) ليس له جوهر حي، ولذلك لا يمكنك أن تفكر في الله الذي طبيعته حية مثل تفكيرك في البر، لأن البر كما تقول ”لا يوجد في ذاته بل فينا. وإنما نحن نعيش بمقتضاه. ومع ذلك فالبر نفسه ليس لديه وجود ذاتي“. وحتى تجيب على نفسك، انظر هل من الصحيح أن تقول إن الحياة نفسها تحيا، وهي مبدأ الحياة لكل شيء نصفه بالصواب بأنه حي. أظن أنك رأيت الآن كيف من العبث أن يُقال إن الحياة تجعل أشياءً أخرى تحيا لكنها نفسها لا تحيا.
وبالتالي إذن إذا كانت الحياة -التي هي المبدأ الحي لكل الموجودات- هي في ذاتها حية بشكل متميز، فمن فضلك تذكر ما يقوله الكتاب المقدس عن نفوس الموتى. وستجد بالتأكيد أنها خاطئة وبلا تقوى وبلا إيمان. نحن نسلم أن هذه النفوس هي مبدأ الحياة لأجساد الأشرار الذين قيل عنهم: ”دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ“ (مت 8: 22)، وهناك نفهم أيضًا أنه حتى النفوس الخاطئة لا تخلو من نوع من الحياة. وإلا ما أمكن لأجسادها أن تحصل على الحياة منها، إذا لم يكن لديها نوع ما من الحياة، التي لا يمكن أن تخلو النفوس منه تمامًا. لهذا السبب تدعى بحق غير فانية. ومع ذلك هذه النفوس تدعى مائتة لأنها فقدت البر، باعتباره الحياة لحيواتها، ولأن البر يمثل حياة أصدق وأعظم من أي نوع آخر من الحياة، حتى للنفوس التي تحيا بلا فناء بنوع ما من الحياة. ولأن النفوس توجد في الأجساد، فالأجساد نفسها تكون حية، بينما الأجساد لا حياة فيها من ذاتها. ولذلك إذا لم تستطع النفوس أن تحيا بأي شكل كان سوى في ذواتها، لأن أجسادها تعتمد عليها في الحياة، وحين تهجرها تموت، فكم بالأحرى كثيرًا يجب أن يُفهم البر كشيء حي في ذاته، لأن النفوس تحيا به، ويُقال إنها مائتة عندما تفقده، برغم أنها لا تتوقف عن أن تحيا بشكل ما من أشكال الحياة الأدنى.
(19) غير أن البر الذي يحيا في ذاته هو بلا شك الله، وله حياة غير قابلة للتغيير. هكذا بينما تكون الحياة موجودة بذاتها، لكنها تصبح حياة فينا عندما نشارك فيها بطريقة ما، هكذا برغم أن البر موجود بذاته، فإنه يصير برًا فينا عندما نعيش بالفضيلة بالتشبث به، ونصير أكثر أو أقل برًا بقدر ما نتشبث بقوة أكثر أو أقل.
لذلك مكتوب عن الابن الوحيد ابن الله، إذ هو بلا شك حكمة الله وبره، وهو موجود بذاته دائمًا، فإنه ”صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. حَتَّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ»“ (1كو 1: 30، 31). هذا رأيته بنفسك حين أضفتَ الكلمات التالية: ”ربما إذا لم نؤكد أن البر ليس جزءًا من هذا السمو البشري، وأن الله فقط هو البر “. حقًا إن الله الفائق هو البر الحقيقي أو أن الله الحقيقي هو البر الفائق. في نفس الوقت فبرنا في هذا الترحال هو أن نجوع ونعطش له، وبرنا الكامل في الأبدية عندما نمتلئ به بعد ذلك. وبالتالي إذن لا يصح أن نظن أن الله مثل برنا، بل لا بُد أن نفكر بالأحرى أننا سنتشبه بالله أكثر كلما صرنا أكثر قدرة على أن نكون بارين بمشاركة أكبر في بره.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(20) فإذا أردنا أن نتحصن ضد فكرة أن الله يشبه برنا، لأن النور الذي يشرق هو أسمى بلا منازع من الشيء الذي يشرق عليه، فكم بالأحرى كثيرًا لا بُد أن نَتَحَصَّن ضد تصديق أن الله هو شيء أدنى أو بمعنى ما معتم أكثر من برنا. لأنه ما هو البر حين يكون فينا، أو أي فضيلة تجعلنا نحيا حسنًا وبحكمة، سوى جمال الإنسان الداخلي؟ وأننا يقينًا في هذا الجمال وليس في الجسد قد خُلقنا على صورة الله. ولذا قيل لنا: ”لاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ“ (رو 12: 2).
وبالتالي إذا كنا نقول أو نعرف أو نريد للذهن أن يكون جميلاً، ليس في كتلته ولا في أجزائه القابلة للانفصال، كما نميز أو نفكر في الأشياء المادية، وإنما في فضيلته العقلية، مثل البر، وإذا أُعيد تشكيلنا من جهة هذا الجمال إلى صورة الله، فمن المؤكد أن جمال الله نفسه، الذي شكلنا ويشكلنا على صورته، لا يجب أن نبحث عنه في كتلة جسمية، ولا بُد أن نؤمن أنه أكثر جمالاً لا يُضاهى مقارنة بأذهان الأبرار، بقدر ما هو أكثر برًا بلا منازع.
كتبتُ لسماحتك بتفصيل مطوَّل ربما أكثر مما كنت تنتظر، أو أكثر مما يتطلبه الخطاب المعتاد، لكن في معالجة موضوع على هذا القدر من الأهمية فهذا لا يمثل أكثر من موجز مختصر، لا يهدف إلى إشباع ذهنك المثقف، لكنه يكفي ليحثك على مراجعة كتاباتك الخاصة، بعد أن تكون قد تثقفت جيدًا بقراءة وسماع أعمال أخرى، وهذا سينجح بقدر ما تفعله بتواضع وإيمان.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/augustine-consentius-120/god-is-righteousness.html
تقصير الرابط:
tak.la/xtxxxc3