إن نفسك أمانة في عنقك.
ستقدم عنها حسابًا في اليوم الأخير.
فاهتم بنفسك، واهتم بأبديتك، وحاذر من أن تعيش حياتك خارج نفسك.
فما أقسى أن يعيش الإنسان خارج نفسه.
هل فكرت أيها القارئ العزيز في أبديتك؟ أعني في مصيرك الأبدي، في المكان الذي ستستقر فيه أخيرًا بعد رحلة هذا العمر؟ إنه سؤال خطير ينبغي أن تفكر فيه، وأن تعد حياتك كلها من أجله...
إن لك نفسًا واحدة إن ربحتها، ربحت كل شيء وإن خسرتها خسرت كل شيء.
ففكر في مصير هذه النفس، التي لا يوجد في هذا العالم كله ما هو أثمن منها. وفي ذلك قال السيد المسيح:
"ماذا يستفيد الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! "
إن الشيطان مستعد أن يعطيك كل شيء، في مقابل أن يربح نفسك له... هو مستعد أن يعطيك الغنَى والشهرة والمجد واللذة، في مقابل أن يأخذ منك نفسك... وكثير من الناس تغريهم أمثال هذه الأمور، فينسون أنفسهم...
كثير من الناس تغريهم أمور العالم الحاضر، حتى يصبح التفكير في الأبدية أمرًا ثقيلًا عليهم! تراهم يهربون من هذا الموضوع، ولا يحبون التحدث فيه، لأنه يزعج بهجتهم، ويعطل تمتعهم بالحياة... ومع ذلك فهذا الموضوع حقيقة قائمة، الهرب منها لا يمنع وجودها...
والشيطان مستعد أن يشغل الإنسان بأي شيء، على شرط ألا يفكر في أبديته، وألا ينشغل بخلاص نفسه...
والشيطان مستعد أن يشغل الإنسان بأي شيء، لكي لا يضع أمام عينيه ذلك اليوم الرهيب الذي يقف فيه أمام منبر الله العادل، ليعطي حسابًا عما فعله في هذه الحياة الدنيا. نعم ذلك اليوم الرهيب، الذي تفتح فيه الأسفار، وتكشف الأعمال، وتعلن الأفكار والنيات...
ما أكثر المشغولين عن نفوسهم بأمور أخرى، لذلك هم يعيشون خارج نفوسهم...
قد جرفهم العالم بكل مشاغله ومشاكله، وبكل شهواته ونزواته، وبكل أخباره وأفكاره... وإن فكروا في نفوسهم، فإنما يفكرون من حيث ارتباطها بأمور العالم، وليس من حيث ارتباطها بالأبدية...!
آمالهم وأحلامهم مركزة هنا، في هذا التراب، في أمجاد هذا العالم الزائل الذي قال عنه الكتاب إن "العالم يبيد، وشهوته معه". ويندر أن يفكر أحد منهم في العالم الآخر، في أمجاد السماء، في ذلك النعيم الأبدي الذي قال عنه بولس الرسول: "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله لمحبي اسمه القدوس"...
إننا نعيش في عالم مشغول... عن خلاص نفسه... ليس لديه وقت للتفكير في مصيره (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)... عالم تجرفه دوامة عنيفة في أبعاد سحيقة، خارج نفسه... لذلك حسن قال الكتاب عن الابن الضال الذي تاب أخيرًا، إنه " رجع إلى نفسه"...
لقد نجح الشيطان في أن يشغلنا جميعًا، حتى لا يبقى لنا وقت للتفكير في أبديتنا... بل إن استطاع واحد منا أن يهرب من مشغوليات العالم، لكي ينشغل بالله وحده، بأن يهدأ في البرية عابدًا ناسكًا مصليًا، مهتمًا بخلاص نفسه، مناجيًا الله طوال ليله ونهاره، مرتفعًا عن تفاهات العالم وأباطيله، نرى الشيطان يتهكم عليه ويقول: انظروا هذا الهارب من العالم!! هذا الخائف العاجز!! أية رسالة له؟ وأية منفعة؟! إن هدف الشيطان واضح: يريد أن يشغل هذا العابد أيضًا، أو هذا المصلي، حتى يرجع إلى مشاكل العالم ومشاغله...!
إن الشيطان يعدل خططه وأساليبه طبقًا للظروف ومقتضيات الحال...
كان يقنع الناس في القديم بأن الله هو تلك الأصنام والأوثان... فلما فشل في ذلك الأمر، قدم للبشر فلسفات مضلة... فلما فشلت تلك أيضًا، قدم لهم الشهوات واللذة حتى يغريهم بعيدًا عن الله... فإن تنبه الناس لإغراءاته، يقدم لهم شيئًا آخر هو المشغولية الدائمة...
إنه لا يهمه نوع السلاح الذي يحارب به... إنما المهم عنده أن يربح على كل حال قومًا... فقد يحارب بهذا السلاح أو ذاك، أو بكل تلك الأسلحة جميعها، لكي يصل إلى هدف واحد، وهو أن ينفرد بالإنسان، بعيدًا عن الله، في متاهة... خارج نفسه...
وإن اتجه الإنسان نحو الصلاح والخير، وعجز الشيطان عن إبعاده، يحاول حينئذ أن يجعل سعي الإنسان للخير خارج نفسه...! فيدعو الناس للخير، دون أن يهتم بالسلوك فيه.
يكون كما قال أحد الآباء، كمن يشبه أجراس الكنائس، التي تدعو الناس إلى دخول الهياكل دون أن تدخل هي إليها... أو كما قال أحد الاقتصاديين: يكون الخير عنده للتصدير الخارجي، وليس للاستهلاك المحلى...!
هذا الإنسان يتصل بالخير عن طريق المعرفة، وليس عن طريق الممارسة.
إنه يتحمس للخير لكي يسير فيه الناس، لا لكي يسير هو فيه. إنه يشبه ذلك الرجل الذي بكته الشاعر بقوله:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذوي الضعفى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
من أجل هذا الإنسان قال السيد المسيح له المجد: "أخرج أولًا الخشبة من عينك، قبل أن تخرج القذى من عين أخيك"...
إن كثيرين يهتمون بأخطاء غيرهم، دون أن يهتموا بأخطاء أنفسهم.
يتحمسون في مناقشة أخطاء الغير، كأنهم بلا أخطاء! يتأثرون بأخطاء الغير ويثورون عليها، كأنهم هم الذين سيحاسبون عليها في اليوم الأخير...! وأما أخطاؤهم هم فلا يبصرونها... هم أمام أنفسهم ولا يصلحون لذلك، لأنهم يعيشون خارج أنفسهم! بل أن أخطاءهم ينسبونها إلى غيرهم، كما قال الشاعر(1):
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
أيها القارئ الكريم، اهتم بنفسك... وقبل أن تفكر في أخطاء غيرك، جاهد لكي تصلح أخطاءك...
وقبل أن تطبق المثاليات على غيرك من الناس، طبقها على نفسك أولًا. وبدلًا من أن تكون واعظًا لسواك، كن عظة، كن قدوة، كن درسًا عمليًا، كن نموذجًا... ولكن حاذر من أن تفعل الخير لكي تكون قدوة، وإلا عشت خارج نفسك. وإنما افعل الخير من أجل نفسك، لكي تكون نقيًا ومقبولًا أمام الله ومحبًا له...
وإن كنت قد عشت هذا الزمان كله خارج نفسك، ادخل الآن إليها، واكتشف خباياها، وأصلحها... ولا تنشغل بأخطاء الناس، أو ما تظنها أخطاء، فربما تكون ظالمًا في ظنك... ضع أمامك ذلك المثل المشهور الذي يقول:
" مَن كان بيته من زجاج، لا يقذف الناس بالحجارة".
_____
(1) إضافة من الموقع: الشِّعر من كلمات أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي [الإمام الشافعي] (767-820 م.)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
Connection failed: SQLSTATE[08004] [1040] Too many connections