أفسحت حكمة وفِكْر المُعلِّمين السكندريين الطريق ومهَّدته للآباء الكبَّادوك الذين عاشوا في العصر الذهبي في الكنيسة، وكان هؤلاء الآباء مُتحفظين نوعًا ما تجاه التربية الكلاسيكية، خاصَّة القديس يوحنَّا ذهبي الفم (347 – 411 م) أشهر آباء أنطاكية الذي كتب قائلًا: ”لقد تركت عني هذه الخُرافات (يعني الفلسفة) لأنَّ الإنسان لا يُمكنه أن يقضي كلّ حياته في لعبة أطفال“.
أمَّا أهم الآباء الكبَّادوك أي القديس باسيليوس (330-379 م.) وأخوه القديس إغريغوريوس النيصي (335-385 م.) وصديقه القديس إغريغوريوس النزينزي (330-390 م.) فقد كانوا أقل تحفُظًا تجاه الفلسفة (5)، ورغم أنَّ القديس باسيليوس يُنبهنا أن نكون حذرين ونختار ما ندرسه من الأعمال الكلاسيكية (6)، إلاَّ أنه لا يستطيع أن يُخفي إعجابه بالتعليم الكلاسيكي، وقد كتب ذات مرَّة (7) إلى السوفسطائي الشهير ليبانيوس Libanius مُعبِرًا عن إعجابه به وبخطبته وبالفلسفة والتعليم الكلاسيكي.
وعندما نُقارِن بين هؤلاء الآباء الكبَّادوك الثَّلاثة العِظام ، نستطيع أن نقول أنَّ القديس إغريغوريوس النزينزي كان شاعرًا نبيل النَّفْس، وصديقه الحميم باسيليوس، المُعلِّم المسكوني، كان رجُل عقيدة وعمل، أمَّا القديس إغريغوريوس النيصي أخو باسيليوس فقد كان فيلسوفًا مُتصوفًا... هؤلاء هُم الكبَّادوكيين الثَّلاثة الذين كان لإسهاماتِهم في الفِكْر اللاهوتي وفي حل مُعضلة ”الهيللينية والمسيحية“ وفي نشر الحياة الرهبانية أثرًا دائمًا على الكنيسة الجامعة كلَّها (8).
على أيَّة حال، لم يكُن هؤلاء الآباء جميعهم قادرين تمامًا على دحض الحِجَج التي قدَّمها المُعارِضون لـ ”الفلسفة العالمية“ منذ البداية، ومن هؤلاء كان العلاَّمة الأفريقي ترتليان الذي كتب مُتسائلًا: ”أي اتفاق بين أثينا وأورشليم؟ بين الأكاديمية والكنيسة؟“ (9) كذلك تُعبِّر دسقولية الرُّسُل Didasclia Apostolarum -هي وثيقة من القرن الثَّالِث- عن مُعارضة قوية للفلسفة وتقول:
”لا يكُن لك أي صِلة بكُتُب الوثنيين...
فأي صِلة يُمكن أن تكون للمسيحي مع كلّ هذه الأخطاء التي تتضمنها؟
الكتاب المُقدس ليس فقط يُغذي الحياة الروحية.
بل وأيضًا يُشبِع الاحتياجات الثقافية...
كلّ هذه الكُتُب السِمجة لابد أن تُرمَى بعيدًا“ (10).
في ذلك الوقت لم يكُن الأدب اليوناني مُجرَّد ميثولوچيا (أساطير) قديمة مائتة، بل كان أداة في يد الوثنية وديانة الدولة ضد المسيحية التي اضطرت أن تُجابهه، وهذا يُفسِر لنا لدرجةٍ ما سبب هذا الرفض له، وفي نفس الوقت يُوضِح عظمة عمل وتعب الآباء في الجمع بين الجمال الكلاسيكي والحق المسيحي.
وباختصار، نظر مُفكِرو الكنيسة الأولى إلى المسيحية كديانة ذات أبعاد مسكونية، وأدركوا أنه لابد أن يحدُث تلاقي بينها وبين الثقافة المُتوارثة الموجودة في العصر قبل أن تستطيع أن تغيَّر العالم اليوناني الروماني.. وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وهكذا بينما كانت الكنيسة تُعمِّد العالم المُتحدِّث والمُفكِر باليونانية، صارت هي نفسها هيللينية يونانية إلى حدٍ ما، وكانت الخطوة الأولى التي اتخذتها المسيحية في طريقها نحو الهيللينية هي استخدام اللُغة اليونانية، وعندما دخل إلى الكنيسة بعض الفِكْر الفلسفي الذي لم يتعمَّد أي لم يتنقَّى ويتفِق مع الإيمان القويم، أدَّى ذلك إلى ظهور الهرطقات والبِدَع، ويقول ترتليان: ”حقًا الهرطقات نفسها نابعة من الفلسفة“ (11).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/58tk3np