أولًا : الفكرة الأساسية في أسفار العهد الجديد هي أن ذبيحة المسيح على الصليب هي الذبيحة النهائية الكاملة للتكفير عن خطية الإنسان وخلاصه، فالذبائح جميعها لم تكن إلا رموزًا لذبيحة المسيح، فلم يكن الناموس بكل ذبائحه وفرائضه وأحكامه "بقادر أن يحيي"، بل كان الناموس "مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان" (غل21:3، 24). "لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا... نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة. وكل كاهن يقوم كل يوم يخدم ويقدم مرارًا كثيرة تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية، أما هذا فبعد ما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله... لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين" (عب 4:10-14)، ومن ثم فقد أبطلت ذبيحة المسيح كل الذبائح. وقد تعددت الذبائح في العهد القديم لأن ذبيحة واحدة لم تكن بكافية للتعبير عن الجوانب المختلفة لذبيحة المسيح.
وجميع أسفار العهد الجديد (ما عدا يعقوب ويهوذا) تشير إلى موت المسيح كالذبيحة الكاملة عن الخطية، وقد أشار المسيح نفسه ثم الرسل إلى ذلك، فإليه ترمز:
(1) ذبيحة العهد (مرقس 24:14؛ مت 28:26؛ لو20:22؛ عب 15:9-22).
(2) المحرقة (أف 2:5؛ عب 4:10-9).
(3) ذبيحة الخطية (رو 3:8؛ 2 كو21:5؛ عب 11:13؛ 1بط 18:3).
(4) خروف الفصح (1 كو7:5؛ انظر أيضًا يوحنا 29:1، 36).
(5) ذبيحة يوم الكفارة (عب 17:2؛ 12:9-14).
ثانيًا: علاقة ذبيحة المسيح بخلاص الإنسان: هناك نتائج هامة لموت المسيح الكفاري:
(1) الفداء أو الخلاص من لعنة الخطية: وهو ما تضمنته كلمات الرب يسوع: "لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليُخدم بل ليَخدُم وليبذل نفسه فدية كثيرين" (مرقس 45:10؛ مت 28:20)، فالإنسان عبد للخطية، وقد أرسل الله الآب ابنه ليدفع الفدية ليخلصنا من العبودية، وكان موته هو الثمن الذي دفعه لتحريرنا. ويؤكد الرسول بولس ذلك بالقول:"متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (رو24:3، 25). فالرسول يبني التبرير على أساس الفداء، والفداء بالدم. أي أن موت المسيح هو الذي تمم الفداء، والفداء أتى لنا بالتبرير. كما يقول أيضًا في (غلاطية 13:3) إن "المسيح افتدانا من لعنة الناموس"، لأن الناموس وضع الإنسان تحت اللعنة لأنه لم يستطع أن يحفظه،فاللعنة هي نتيجة الناموس المكسور، والتي يجب على الخاطئ أن يتحملها، وقد حمل المسيح هذه اللعنة نيابة عنا (انظر أيضًا غل 5:4). كما يقول أيضًا:"الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا" (أف 7:1؛ كو14:1)، "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1تي 6:2). ويؤكد كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن المسيح "بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًا" (عب 12:9)، ويقول الرسول يوحنا:"الذي أحبنا وقد غسلنا (أو حررنا) من خطايانا بدمه" (رؤ 5:1). ويقول الرسول بطرس: "عالمين أنكم افتديتم... بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح" (1بط 18:1، 19)، فذبيحة المسيح هي أساس الفداء.
(2)المصالحة: تتضمن المصالحة وجود طرفين. لقد حدث انفصال بين الإنسان والله، والمصالحة هي استعادة العلاقة بين الطرفين، "لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رو10:5)، وهكذا يؤكد الرسول بولس أن موت المسيح هو أساس المصالحة (انظر أف 13:2، 14، 18؛ 10:1). كما يعلمنا الرسول يوحنا أن المسيح هو شفيعنا الذي يصالحنا مع الله (1يو 1:2، 2).
(3)غفران الخطايا: المصالحة تعني الغفران، غفران الله للإنسان الخاطئ. وأساس الغفران هو دم المسيح، أي موت المسيح على الصليب. ويقول الرب نفسه: "لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (مت 28:26). ويربط الرسول بولس تمامًا بين غفران الله للإنسان وذبيحة المسيح (رو21:3-21:5؛ بخاصة 7:4؛ أف 7:1؛ كو 14:1)، وكذلك الرسول يوحنا (1يو 7:1-9).
(4)محو الذنب: تتضمن المصالحة والغفران محو الذنب، فيختم الرسول بولس كلامه عن شمول الخطية لكل البشر، بتأكيده:"لكي يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله" (رو19:3)، ولكنه يقول أيضًا: "إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع... فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية (أي ليقدم نفسه ذبيحة عن الخطية) دان الخطية في الجسد" (رو1:8، 3)، فالذنب الذي جعل الإنسان عرضة لغضب الله، ومن ثم لدينونته، قد انمحى بموت المسيح إذ "محا الصك الذي علينا... الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب" (كو14:2).
(5) التبرير: أو الوضع الصحيح من نحو الله. فغفران الخطايا ومحو الذنب هما الجانب السلبي من القضية. أما وضعنا في الوضع الصحيح من نحو الله،أي وضع القبول أمامه، فهو الجانب الإيجابي "لأنه جعل الذي لا يعرف خطية، خطية (أو ذبيحة خطية) لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كو 21:5)، فكأن تبريرنا كان هو القصد الإلهي من موت المسيح الكفاري وقيامته: "لأنه أسلم من أجل خطايانا وأقيم من لأجل تبريرنا" (رو 25:4).
(6) التطهير أو التقديس: نتعلم من الأصحاحات السادس والسابع والثامن من الرسالة إلى رومية، أن التقديس هو نتيجة منطقية للتبرير الذي تحقق بموت المسيح. ويؤكد لنا الرسول أيضًا في الرسالة إلى فيلبي، أن موت المسيح وقيامته هما القوة الفعَّالة في تغيير الحياة:"لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته، لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات" (في 10:3، 11)، كما يستخدم كاتب الرسالة إلى العبرانيين صور التطهير في العهد القديم رموزًا لعملية محو الخطايا، من الكفارة إلى التقديس، فدم المسيح، أي موته، هو وسيلة التطهير (عب 3:1؛ 14:9-23؛ 2:10)، كما يؤكد الرسول يوحنا ذلك أيضًا إذ يقول:"دم يسوع المسيح ابنه (ابن الله) يطهرنا من كل خطية" (1 يو7:1؛ انظر أيضًا رؤ 14:7).
(7) البنوية: يرجع أيضًا الرسول بولس ببنوية المؤمن لله، إلى موت المسيح الكفاري، فيقول: "أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رو 15:8، 16، 19)، كما يقول:"أرسل الله ابنه... ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني. ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب. إذا لست بعد عبدًا بل ابنًا..." (غل 4:4-7).
وهكذا نرى عملية الخلاص ابتداء من الفداء والمصالحة مع الله إلى تبني الخاطئ المخلَّص ليكون واحدًا من أهل بيت الله (أف19:2) ترجع كلها إلى موت المسيح الكفاري. وكما يقول "هولتزمان" (E.Holtzmann): "إن على موت المسيح يرتكز كل عمل الخلاص".
ثالثًا : أساس كفاية ذبيحة المسيح:
(أ) أكد المسيح أنه جاء طوعًا، "ليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت 28:20؛ مرقس 45:10)، فلم يجبره أحد ولا الآب على أن يبذل نفسه، فقد قال:"أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو 11:10)، "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 17:10، 18).
(ب) ويؤكد لنا الرسول بولس أن المسيح قد أسلم نفسه طوعًا:"ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه من أجلي" (غل 20:2)، فالذي أسلم نفسه هو "ابن الله" مما يسمو إلى أبعد حد بقيمة الذبيحة، وقد تبرهن ذلك بقيامته من الأموات (رو4:1)، فهو لم يكن مجرد إنسان بل "الابن الكامل القدوس"، وبموته وقيامته ضمن "تبريرنا" (رو25:4؛ 1كو 3:15، 4، 17). كما يؤكد لنا أيضًا أن الذي مات وقام "لم يعرف خطية" (2كو 21:5).
(ج) أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين، فيوضح أسس كفاية ذبيحة المسيح:
(1) إنها لم تكن ذبيحة حيوانية، بل"بدم نفسه" (عب 12:9-14، 26؛ 4:10، 12).
(2) إنها ذبيحة "ابن الله" (عب 5:3) الذي هو "بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب 3:1).
(3) الذي بذل نفسه هو ملك وكاهن على رتبة ملكي صادق ملك ساليم (عب 20:6؛ 1:7).
(4) وهو "قدوس بلا شر ولا دنس" (عب26:7، 27؛ 14:9؛ 10:10، 12).
(5) وهو "السرمدي، الأزلي الأبدي، بحسب قوة حياة لا تزول... إلى الأبد" (عب 20:6؛ 16:7، 17).
(6) كما يبلغ كاتب الرسالة إلى العبرانيين الذروة في بيان كفاية ذبيحة المسيح، عندما يتكلم عنه داخلًا إلى قدس الأقداس السماوية، إلى حضرة الله بعد أن أكمل عمل الفداء (عب1:8، 2؛ 11:9، 12، 24).
(د) يؤكد كل من الرسولين بطرس ويوحنا عظمة المسيح ومجده (1بط 19:1؛ 22:2، 23؛ يو1:1-4؛ 1يو 7:1؛ 2:2).
رابعًا: كيف يستفيد منها البشر:
(1) ذبيحة المسيح هي للجميع، فقد مات المسيح عن كل العالم: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3). وقد أمر الرب تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل "لجميع الأمم" (مت19:28؛ لو47:24)، و"للعالم أجمع... والخليقة كلها" (مر15:16؛ انظر أيضًا رومية 5:1؛ 18:5؛ 32:11؛ 2كو 14:5، 15؛ غل14:3). ويقول كاتب الرسالة للعبرانيين:"لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد" (عب9:2)، كما يقول يوحنا الرسول: "وهو كفارة لخطايانا... بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1يو 2:2).
(2) يجب أن يقرر كل فرد موقفه منها: إن دم المسيح هو العلاج الوحيد الناجح الكافي لجميع الخطاة، ولكن على كل إنسان أن يطبقه على نفسه وذلك بالتوبة والإيمان والطاعة:
(أ) التوبة: لقد نادى يوحنا المعمدان والرب يسوع نفسه بضرورة التوبة للدخول إلى الملكوت (مت 2:3؛ 17:4؛ مرقس15:1). كما كرز الرسول بطرس بالتوبة في يوم الخمسين وما بعده (أع 28:2؛ 19:3... إلخ.). كما نادى الرسول بولس بالتوبة إلى الله والإيمان بربنا يسوع المسيح (أع 21:20؛ رو 4:2... إلخ.).
(ب) الإيمان: لقد جمع الرب يسوع بين التوبة والإيمان: "توبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس15:1). كما أن الرسول بولس يجعل الإيمان الوسيلة الجامعة المانعة لنوال الخلاص، فالإنجيل هو "قوة الله للخلاص لكل من يؤمن" (رو16:1). ويقول عن المسيح:"الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (رو25:3)، وأن كل من "يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له برًا" (رو5:4)، "إذ قد تبررنا بالإيمان" (رو1:5). ويؤكد نفس الشيء في رسالته إلى غلاطية كما في سائر رسائله، فالإيمان هو الشرط الوحيد لنوال الخلاص، ليس الإيمان التاريخي أو العقلي، بل الإيمان القلبي "لأن القلب يؤمن به للبر"(رو 10:10)، الإيمان هو أن يسلم الإنسان نفسه تمامًا للمسيح مخلصًا وربًّا (2كو 15:5). كما يؤكد كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن الإيمان هو القوة الغالبة وطريق الدخول للراحة والشركة (عب 3، 4). كما يؤكد الرسولان بطرس ويوحنا أن الإيمان هو وسيلة لنوال الخلاص والتمتع بسائر بركات موت المسيح (1بط 8:1، 9؛ 1يو23:3؛ 15:4، 16؛ 1:5، 5... إلخ.).
(ج) الطاعة في خدمة مضحية: فقد قال الرب يسوع:"من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مرقس34:8؛ انظر أيضًا مت 38:10؛ 24:16؛ لو23:9)، وهو يضع هنا شرطين للتلمذة: إنكار الذات وحمل الصليب. وإنكار الذات معناه أن لا تكون الذات هي مركز الفكر والإيمان والرجاء والحياة. أما حمل الصليب فمعناه حياة التضحية. وكان الرب يسوع يؤكد على هذا المعنى في قوله: "لأن ابن الإنسان لم يأتي ليخدَم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مرقس45:10؛ مت28:20). ويؤكد الرسول بولس هذه المسئولية من جانب الإنسان، بقوله إن ما ينفع إنما هو "الإيمان العامل بالمحبة" (غل 6:5). كما يؤكد ذلك كاتب الرسالة إلى العبرانيين:"صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي" (عب 9:5). إن الخلاص في لحظة حقيقة من جانب الله، ولكنه عملية مستمرة في حياة الإنسان، حياة الطاعة والخدمة حيث يظهر التطبيق العملي لقوة ذبيحة المسيح.
وحيث أن ذبيحة المسيح هي للجميع، أصبح من الواجب على المؤمنين أن يكرزوا بالإنجيل للجميع تنفيذًا لوصية الرب:"اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مرقس 15:16).
خامسًا - الخلاصة: وهي أن:
(1) الرب يسوع المسيح وكتبة أسفار العهد الجديد يعتبرون أن ذبائح العهد القديم كانت مجرد رموز للذبيحة العظمى الوحيدة التي قدمها الرب يسوع بموته على صليب العار.
(2)إن ذبيحة المسيح هي الذبيحة الواحدة الوحيدة التي تكفر عن خطايا العالم.
(3) إن ذبيحة المسيح هي الوسيلة الوحيدة لخلاص الإنسان.
(4) إن الإنسان صار تحت لعنة الله وغضبه، وأن ذبيحة المسيح هي الوسيلة الوحيدة لمصالحة الإنسان مع الله الذي أظهر بره في إدانة الخطية على الصليب، كما أظهر محبته ونعمته في خلاص الخاطئ.
(5) إن كفاية ذبيحة المسيح تقوم على أساس أنه ابن الله الأزلي، وملك الدهور الأبدي، وأنه الطاهر القدوس الذي بلا عيب ولا شر ولا دنس، لم يعرف خطية ولم تكن فيه خطية.
(6) للاستفادة من ذبيحة المسيح، تلزم التوبة والإيمان الذي يظهر ويثمر طاعة وحياة مضحية.
(7) إن موت المسيح هو السبب والدافع والقوة العاملة في حياة المؤمن للتضحية، كما أن المسيح هو المثال الكامل الذي يجب أن نتمثل به.
* انظر أيضًا: الذبيحة الروحية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/bg2hw74