لقد استخدمت كلمة "اخلاء" منذ عهد الآباء مرادفًا "للتجسد"، فهي ترتبط باتضاع المسيح وتنازله العجيب، وسندهم في ذلك أساسًا هو ما جاء في الرسالة إلى فيلبي:"فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 5:2-8)، وبعض الأقوال الشبيهة بذلك، مثل: "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 9:8).
وكلمة "أخلى" في اليونانية هي "اكينوزن" (ekenosen) والمصدر منها "كيوزس" (kenosis) أي "إخلاء"، ومنها جاء اسم النظرية التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر، وترجع إلى "تومازيوس" (Thomasius) من "إرلانجتن" في ألمانيا.
وخلاصتها كما يقول "كريد" (J.M.Creed) أن "اللوجوس" (الكلمة) السماوي في تجسده جرَّد نفسه من خصائصه الإلهية المتعلقة بالعلم بكل شيء والقدرة على كل شيء. ففي حياة تجسده، لم يعلن الأقنوم الإلهي سوى معرفته البشرية، وهو فكر يتعارض تمامًا مع مضمون كلمة الله.
وقد يساعدنا على فهم العبارة أن نفس الفعل اليوناني المترجم "أخلى" في الرسالة إلى فيلبي، يترجم إلى "يعطل" في أربعة مواضع أخرى في رسائل الرسول بولس (رو 14:4؛ 1كو 17:1؛ 15:9؛ 2 كو 3:9). وهو في جميع هذه المواضع يستخدم كما نفهم من القرينة مجازيًا وليس حرفيًا، كما يريد أصحاب نظرية "الإخلاء" أن يعتبروه في الأصحاح الثاني من الرسالة لفيلبي. ويرفض المؤمنون القويمو العقيدة هذه النظرية عن "الإخلاء" لأنها تعني أن الله عندما صار إنسانًا لم يعد إلهًا، لقد تحول الله عند تجسده إلى مجرد إنسان. ولكن إذا صح هذا فلا يكون ثمة تجسد، ليس هناك إله مستتر في الجسد البشري، مما يؤدي إلى تلك النتيجة التي لا بُد منها أن قيامة المسيح وتمجيده معناهما أنه قد عاد إلهًا مرة أخرى. وإذا كان لكي يصير إنسانًا محدودًا لم يكن في قدرته أن يمارس خصائصه الإلهية المميزة، فكيف يستطيع إذًا أن يتعظَّم كالله فوق "الكل المبارك إلى الأبد" دون أن يظل خاضعًا للمحدوديات البشرية؟
إن هذه النظرية عن "الإخلاء" لا تتضمن الاتحاد بين الأقنوم الإلهي والطبيعة البشرية التي أخذها المسيح عند تجسده، ولكنها تعني أنه كان إلهًا في البداية ثم أصبح بشرًا ثم صار إلهًا مرة أخرى.
وقد جحد أثناسيوس الرسولي كما يقول "بركوفر" (Berkhowver) هذا الفكر الذي تتضمنه نظرية الإخلاء، بتأكيده أن التجسد لا يعني أن يتحول اللاهوت إلى جسد، بل أن يتخذ اللاهوت جسدًا.
ولكن ماذا يعني الرسول بولس بما جاء في رسالته إلى الكنيسة في فيلبي (في 7:2) الذي يثير كل هذا الحوار؟ إن الرسول بولس كما يقول وارفليد (Warfield) وآخرون لا يذكر ما أخلى المسيح نفسه منه. فهو لا يقول أنه أخلى نفسه من مجده الجوهري، أو من حق ممارسة خصائصه الإلهية المميزة، ولكنه يقول إنه "أخلى نفسه". وإذا حملناها على المحمل الحرفي كما يريد أصحاب نظرية الإخلاء فكيف يمكنه أن يخلي نفسه؟ إن عبارة مثل هذه، يجب أن تفهم مجازيًا حسب القرينة التي توضحها العبارات التي سبقتها والتي تليها. إنها إنما تستخدم هنا للدلالة على اتضاع الرب العجيب الذي "إذ كان في صورة الله... جعل نفسه بلا شهرة". (كما في الكثير من المترجمات) آخذًا صورة عبد". وهذه الصيغة هي الصيغة التي تتفق مع المعنى الذي قصده الرسول في مناشدته المؤمنين أن يكونوا بفكر واحد "مفتكرين شيئًا واحدًا لا شيئًا بتحزب أو بعجب بل بتواضع..." ليكون فيهم "فكر المسيح" وهو فكر التنازل والتواضع بلا حدود.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/77zn6nm