يَدَّعي نقاد المسيحية بدون سند أو دليل إلا مجرد افتراضات مسبقة مبنية فكرهم الخاص وعقائدهم الدينية التي لا تتفق مع المسيحية في عقائدها الجوهرية، أن الكنيسة الأولى كانت تمتلك عشرات الأناجيل والأسفار المقدسة، وقد رفضتها جميعًا، ولم تبق منها إلا على أربعة فقط، هي التي كانت تتلاءم مع أفكارها وعقائدها التي تقررت في مجمع نيقية!! يقول أحدهم، جامعًا لمعظم من يقولون بهذه الأفكار:
"والحقيقة أن معظم الدارسين يؤكدون وجود عدد كبير من الأناجيل كتبها أتباع أو حواريون المسيح ورغم وجود هذا العدد الكبير من النصوص ذات الأهمية التاريخية والقداسة فان الكنيسة اعتمدت أربعة فقط من هذه الأناجيل كتبها متى ومرقص ولوقا ويوحنا تمثل فيها بينها ما اصطلح على تسميته " العهد الجديد " والأعجب أن الإنجيل كما نعرفه اليوم تم جمعه على يد الإمبراطور الروماني الوثني قسطنطين العظيم الذي اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت، ومنحها الاعتراف الرسمي في الإمبراطورية الرومانية، وفي هذه الأيام الأولى لتشكيل المسيحية في صورتها الرسمية تم اقتراح فكرة المسيح ابن الرب والتصويت عليها بين أعضاء المجلس النيقاوي لتسود فكرة ألوهية المسيح وان أتباعه لا يمكنهم التحرر من خطاياهم إلا عبر طريق وحيد يمر بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية".
والحقيقة أننا لا نعرف ما الذي يجعله يجزم ويقول قوله الغريب هذا وخاصة وقوله: " والحقيقة أن معظم الدارسين يؤكدون وجود عدد كبير من الأناجيل كتبها أتباع أو حواريون المسيح "!! فمن هم معظم الدارسين الذين يتكلم عنهم؟!
ونقول لهؤلاء جميعًا أن الكنيسة كانت مؤسسة على تسليم رسولي غير منقطع، بل ومنظم، من خلال التلاميذ والرسل ثم خلفائهم، تلاميذهم الذين تتلمذوا على أيديهم، واستلموا الإنجيل الشفوي والمكتوب منهم مباشرة وسلموه لمن بعدهم في سلسلة متصلة وغير منقطعة. أم الكتب الأبوكريفية فلم يكتبها أحد تلاميذ أو حتى بعض خلفائهم بل كتبها هراطقة من خارج التسليم الرسولي، من خارج دائرة التلاميذ وخلفائهم، ولم يكن واحد منهم في يوم من الأيام داخل هذه الدائرة الرسولية. ولما حاولوا تقليد التسليم الرسولي كتب بعض الكتب التي أسموها أناجيل وأعمال ورؤى ونسبوا بعضها للرسل لتقلى رواج بين عامة الناس، ونسبوا بعضها لمن كتبها من قادة الهراطقة.
وكان على الكنيسة أن تفصل بين الحنطة والزوان، فعرفت المؤمنين بالكتب الموحى بها بالروح القدس، والمسلمة من الرسل إلى تلاميذهم وخلفائهم وأسمتها بالأسفار القانونية، ورفضت كل ما كتب خارج دائرة التسليم الرسولي وأسمته بالأبوكريفي، أي المزيف. والسؤال كيف تم تقرير ذلك؟ وقبل أن نبدأ دراستنا في هذا الموضوع يجب أن نذكر بعض الأسئلة التي لابد منها وهي؛
(1) من الذي قرر صحة ووحي وقانونية كل من أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد وكونها كلمة الله الموحى بها والمكتوبة بالروح القدس؟
(2) ولماذا رفضت الكنيسة الكتب الأخرى التي انتشرت في أوساط الهراطقة، والتي لم يُقبل، آباء الكنيسة، أي كتاب منها في يوم من الأيام كسفر قانوني؟
(3) وهل الكنيسة هي التي قدمت للمؤمنين هذه الأسفار بعينها دون غيرها، أو بمعنى آخر؛ هل الكنيسة هي أم القانونية وحاكمتها وقاضيتها ومنظمتها وسيدتها، كما يتصور البعض من النقاد؟
(4) هل حافظت الكنيسة على ما تسلمته من الرسل دون زيادة أو نقصان؟
(5) ولماذا رفضت الكتب الأبوكريفية ولم تقبل أي منها ككتاب قانوني في أي وقت من الأوقات؟ ما هي الأسباب والدوافع التي أدت إلى رفضها؟
(6) هل اختارت الكنيسة أسفارًا ورفضت أخرى بصورة عشوائية، أو بحسب ما يتناسب معها ويرضي قادتها، كما يزعم البعض؟
(7) هل اختارت عددًا محددًا من كم كبير من الكتب والأسفار التي كانت موجودة أمامها، أم تسلمت من رسل المسيح ورسله أسفارًا محددة ورفضت ما جاء من خارج دائرة الرسل والكنيسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية؟
1 – الأسفار القانونية:
كلمة قانون (Canon – kanon - kanώn) هي كلمة يونانية وتعني "قصبة القياس"، "عصا مستقيمة"، "قاعدة للقياس أو للحكم"، ويقابلها في العبرية קנה "كانيه - kaneh". وقد استخدمتها الكنيسة في القرون الأولى وبصفة خاصة منذ أن أستخدمها القديس أثناسيوس الرسولي في رسالته الفصحية سنة 367م للتعبير عن "الأسفار المقدسة الموحى بها من الله؛ التي نطق بها الله"، "كل الكتاب هو ما تنفس به الله" (2تي3:16)، سواء أسفار العهد القديم أو أسفار العهد الجديد، وتمييزها، كأسفار مكتوبة بالروح القدس وكلمة الله، عن غيرها من الكتب الدينية الأخرى غير الموحى بها، مثل التلمود وكتب آباء الكنيسة الأولى.
والسؤال الآن هو: ما الفرق بين أن نقول أن هذا السفر كلمة الله المكتوبة بالروح القدس وأن هذا السفر قانوني؟ والإجابة هي:
(1) " موحى به – مكتوب بالروح القدس "؛ يعني أن السفر وما جاء به أعلنه الله بروحه وأوحى به لأنبيائه ورسله، بالروح القدس، شفاهه كما أوحى لهم بكتابته في كتب مسوقين بالروح القدس، أي كلام الله الذي كلمنا به من خلال الأنبياء شفاهه وكتابة.. الوحي.. كلمة الله.
(2) أما تعبير " سفر قانوني " فيعني معرفة وتحقق شعب الله المعاصر للنبي أو الرسل في العهد القديم، ومعرفة الكنيسة الأولى التي عاصرت الرسل، تلاميذ المسيح، أن هذا السفر هو نفسه كلمة الله التي سبق أن أعطيت لهم بواسطة هؤلاء الأنبياء والرسل أنفسهم سواء شفاهه أو مكتوبة وكانوا يحفظونها.. أي قبول السفر ككلمة الله وحييه الإلهي، المكتوب بالروح القدس.. تحقق الشعب المعاصر للأنبياء والرسل من حقيقة كون السفر إلهيًا وقبولهم له ككلمة الله.
وعند النظر إلى الأسئلة التي وضعناها أعلاه نؤكد على أن الإجابة التي يؤكدها التاريخ والتقليد والأسفار المقدسة نفسها، لهذه الأسئلة وغيرها، هي؛ أن الكنيسة كانت مبنية على أساس كلمة الله في هذه الأسفار المقدسة التي تسلمتها من الرسل وليست مقررة للقانونية، كما يقول الكتاب نفسه " مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف20:2). فقد أقرت الكنيسة الأولى بصحة ووحي هذه الأسفار، التي تسلمتها من الرسل، وأنها مكتوبة بالروح القدس، وأدركتها وشهدت لها وبشرت بها وحفظتها بالروح القدس وسلمتها للأجيال التالية كما تسلمتها هي من الرب يسوع المسيح ورسله ولم تقررها.
كما أن كلمة قانون أو قانونية لم تستخدم للتعبير عن وحي وتدوين أسفار العهد الجديد بالروح القدس، الأناجيل الأربعة، الإنجيل بأوجهه الأربعة، وسفر أعمال الرسل ورسائل الرسل، بولس ويعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا أخو يعقوب، وسفر الرؤيا، وقبولها ككلمة الله ذات السلطان الإلهي حتى القرن الرابع الميلادي، وإنما قبلت هذه الأسفار حتى قبل أن تكتب باعتبارها كلمة الله ووحيه الإلهي. وكان لهذا القبول الذي سمي بعد ذلك بالقانونية، أسبابه ومبرراته:
(1) رسوليه الرسل، شهود العيان، وعمل الله معهم: فقد كُتب هذه الأسفار ودونها بالروح القدس رسل المسيح وشهوده الذين سلموا للكنيسة نفس ما بشر به الرسل من قبل شفاهه مؤيدين بالعجائب والمعجزات التي تدل على عمل الروح القدس فيهم وكلامه على لسانهم وبأفواههم أو كما يقول الكتاب " شاهدًا الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس" (عب4:2). "وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ" (أع43:2). " وجرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب" (أع12:5؛ 8:6؛3:14؛12:15). والتي تؤكد رسوليتهم كرسل الرب يسوع المسيح وأن كل ما ينادون به ويعلمونه هو كلام الله بالروح القدس. يقول القديس بولس بالروح " بقوة آيات وعجائب بقوة روح الله حتى أني من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح" (رو19:15)، " أن علامات الرسول صنعت بينكم في كل صبر بآيات وعجائب وقوات" (2كو12:12)، " انتم شهود والله كيف بطهارة وببر وبلا لوم كنا بينكم انتم المؤمنين كما تعلمون كيف كنا نعظ كل واحد منكم كالأب لأولاده ونشجعكم ونشهدكم لكي تسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده. من أجل ذلك نحن أيضًا نشكر الله بلا انقطاع لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله التي تعمل أيضًا فيكم انتم المؤمنين" (1تس10:2-13).
(2) التقليد الرسولي المسلم من رسل المسيح: فقد كان الذين قبلوا هذه الأسفار في البداية هم أنفسهم الذين تسلموا ما جاء فيها من قبل شفويًا وكانوا يحفظون كل ما كتب فيها ككلمة الله ووحيه الإلهي بل وأكثر مما كتب فيها، حيث كرز رسل المسيح ونادوا لهم بالإنجيل وحفظوه لهم بأسلوب التعليم والتسليم الشفوي كما يقول الكتاب " أمدحكم أيها الأخوة على إنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم" (1كو2:11)، " لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا" (1كو23:11) (انظر نص السفر هنا في موقع الأنبا تكلا)، " فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا" (1كو3:15)، " وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا" (في 9:4)، " لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها لا ككلمة أناس بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله التي تعمل أيضًا فيكم انتم المؤمنين" (1تس2: 13).
يقول القديس أكليمندس الإسكندري (150-215) المعروف بخليفة خلفاء الرسل والذي حفظ عنهم التقليد، والذي يقول عنه المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري أنه كان " متمرسًا في الأسفار المقدسة "(1): " وقد حافظ هؤلاء الأشخاص على التقليد الحقيقي للتعليم المبارك، المسلم مباشرة من الرسل القديسين بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس، إذ كان الابن يتسلمه عن أبيه.. حتى وصل إلينا بإرادة الله لنحافظ على هذه البذار الرسولية"(2).
هذا التعليم أو التسليم كان يسلم من الرسل إلى تلاميذهم وتلاميذهم يسلمونه لآخرين وهكذا " وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناسا أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا "(2تي 2:2). فلما دونت الأناجيل كان هؤلاء يحفظون كل ما دون فيها بل وأكثر مما دون فيها.
(3) تسليم الأسفار للكنيسة الأولى: كما أن الذين استلموا هذه الأسفار وقبلوها هم الذين طلبوا من الرسل أن يدونوا لهم ما سبق أن تسلموه شفويًا، ومن ثم فقد دونت بالروح القدس لهم وأمامهم وبمعرفتهم ومن ثم قبلوها بكل قداسة ووقار ككلمة الله الموحى بها من الروح القدس.
يقول أكليمندس الإسكندري: "لما كرز بطرس بالكلمة جهارًا في روما. وأعلن الإنجيل بالروح طلب كثيرون من الحاضرين إلى مرقس أن يدون أقواله لأنه لازمه وقتًا طويلًا وكان يتذكرها. وبعد أن دون الإنجيل سلمه لمن طلبوه".
وتقول الوثيقة الموراتورية " الإنجيل الرابع هو بواسطة يوحنا أحد التلاميذ, إذ عندما توسل إليه زملاؤه (التلاميذ) والأساقفة في ذلك قال: صوموا معي ثلاثة أيام ونحن نتفاوض مع بعضنا بكل ما يوحي الله به إلينا. ففي هذه الليلة عينها أعلن لأندراوس أحد الرسل أن يوحنا عليه أن يكتب كل شيء تحت اسمه والكل يصدق على ذلك".
وهنا يتبين لنا أن الأناجيل كتبت بناء على طلب المؤمنين الذين تسلموها من الرسل، الذين سبق أن سلموها لهم شفويًا، كتبت بناء على طلبهم وتحت سمعهم وبصرهم وكانوا من قبل يحفظونها شفويًا.
وفي النصف الثاني من القرن الثاني وفي أوج وذروة وجود الهرطقة الغنوسية كان هناك القديس إيريناؤس (120-202 م.)، أسقف ليون، بفرنسا حاليًا، وأحد الذين تتلمذوا على أيدي تلاميذ الرسل، خاصة القديس بوليكاربوس، كما أكد هو نفسه، كما بينا أعلاه، وخلفائهم، ويضيف القديس جيروم "من المؤكد أنه كان تلميذًا لبوليكاربوس"(29). وكان حلقة وصل بين الآباء الرسوليين تلاميذ الرسل ومن جاءوا بعده. وقد كتب مجموعة من الكتب بعنوان " ضد الهراطقة " دافع فيها عن المسيحية وأسفارها المقدسة وأقتبس منها حوالي 1064 اقتباسا منها 626 من الأناجيل الأربعة وحدها و325 من رسائل القديس بولس الرسول الأربع عشرة و112 من بقية أسفار العهد الجديد، منها 29 من سفر الرؤيا. وأكد على حقيقة انتشار الأناجيل الأربعة في كل مكان بقوله " لقد تعلمنا خطة خلاصنا من أولئك الذين سلموا لنا الإنجيل الذي سبق أن نادوا به للبشرية عامة، ثم سلموه لنا بعد ذلك، حسب إرادة الله، في أسفار مقدسة ليكون أساس وعامود إيماننا.. فقد كانوا يمتلكون إنجيل الله، كل بمفرده، فقد نشر متى إنجيلًا مكتوبًا بين العبرانيين بلهجتهم عندما كان بطرس وبولس يكرزان ويؤسسان الكنائس في روما. وبعد رحيلهما سلم لنا مرقس تلميذ بطرس ومترجمه، كتابة ما بشر به بطرس. ودون لوقا، رفيق بولس في سفر الإنجيل الذي بشر به (بولس)، وبعد ذلك نشر يوحنا نفسه، تلميذ الرب والذي اتكأ على صدره إنجيلًا أثناء أقامته في أفسس في آسيا الصغرى "(30).
وقال عن وحدة الإنجيل " لا يمكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل مما هي عليه الآن حيث يوجد أربعة أركان في العالم الذي نعيش فيه أو أربعة رياح جامعة حيث انتشرت الكنيسة في كل أنحاء العالم وأن "عامود الحق وقاعدة " الكنيسة هو الإنجيل روح الحياة، فمن اللائق أن يكون لها أربعة أعمدة تنفس الخلود وتحي البشر من جديد، وذلك يوضح أن الكلمة صانع الكل، الجالس على الشاروبيم والذي يحتوي كل شيء والذي ظهر للبشر أعطانا الإنجيل في أربعة أوجه ولكن مرتبطة بروح واحد.. ولأن الإنجيل بحسب يوحنا يقدم ميلاده الأزلي القدير والمجيد من الآب، يقول " في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله" و"كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان .. ولكن الذي بحسب لوقا يركز على شخصيته (المسيح) الكهنوتية فقد بدأ بزكريا الكاهن وهو يقدم البخور لله. لأن العجل المسمن (انظر لوقا 23:15)، الذي كان سيقدم ذبيحة بسبب الابن الأصغر الذي وُجد، كان يعُد حالًا.. ويركز متى على ميلاده الإنساني قائلًا " كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم " و"وكان ميلاد يسوع المسيح هكذا". فهو إذا إنجيل الإنسانية، ولذا يظهر [ المسيح ] خلال كل الإنجيل كإنسان وديع ومتواضع. ويبدأ مرقس من جهة أخرى بروح النبوة الآتي على الناس من الأعالي قائلًا " بدء إنجيل يسوع المسيح، كما هو مكتوب في اشعياء النبي " مشيرًا إلى المدخل المجنح للإنجيل. لذلك صارت رسالته وجيزة ومختصره لمثل هذه الشخصية النبوية "(31).
وأكد على وجود الإنجيل بأوجهه الأربعة وانتشاره في كل مكان حتى الهراطقة، فقال " الأرض التي تقف عليها هذه الأناجيل أرض صلبة حتى أن الهراطقة أنفسهم يشهدون لها ويبدأون من هذه الوثائق وكل منهم يسعى لتأييد عقيدته الخاصة منها "(§).
2 – لماذا رفضت الكنيسة الكتب الأبوكريفية؟
كما بينا أعلاه، كان للكنيسة، منذ البدء، تعليمها الذي تسلمته من الرسل والذي تسلموه بدورهم من الرب يسوع المسيح، كقول الرسول: " لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا" (1كو13:11). فكان تعليمهم، والذي تسلمته الكنيسة منهم، هو تعليم الرب نفسه " وصيتنا نحن الرسل وصية الرب والمخلص" (2بط3:2). سلم الرسل التعليم أولًا شفاهة، وقبل رحيلهم تركوا للكنيسة الأناجيل الأربعة وبقية كتب العهد الجديد، وذلك بيد تلاميذهم وخلفائهم من الذين أقاموهم وعينوهم كأساقفة وقسوس، وهؤلاء سلموها بدورهم لمن تسلم منهم هذه الأمانة، فصلوا محافظين عليها في موضعها في كل كنيسة في العالم. أما هذه الكتب، الأبوكريفية، فلم يتسلمها أحد لا من الرسل ولا من غيرهم ممن خلفوهم. وإنما خرجت من دوائر أخرى خارج حظيرة الكنيسة، وهي دوائر الهراطقة التي، كما يقول العلامة ترتليان (145-220 م.)، لا تمت للرسل أو من خلفوهم بصلة(94)، والتي كانت شديدة الخصوبة في إصدار مثل هذه الكتب. وبرغم معرفة علماء الكنيسة، وفي القرون الأولى، بمصدر هذه الكتب وأهدافها إلا أنهم درسوها وفحصوها ولم يترددوا، بعد ذلك، في رفضها ووصفها بأنها كاذبة ومزورة ولا تستحق مجرد الاهتمام بها.
قال القديس إيريناؤس (120-202 م.) "إن الهراطقة الماركونيين أصدروا عددًا لا يحصَى من الكتابات الأبوكريفية والمزورة والتي زيفوها بأنفسهم ليذهلوا عقول الحمقى(95).
وقال المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري (264-240 م.): " أنها معروفه عند معظم الكتاب الكنسيين، وأنه في مقدورنا أن نميز بين هذه الكتب القانونية وتلك يصدرها الهراطقة بأسماء الرسل مثل إنجيل بطرس وإنجيل متى (المنحول) وغيرها، أو مثل أعمال أندراوس، ويوحنا، وغيرهما من الرسل، التي لم يحسب أي واحد من كتاب الكنيسة أنها تستحق الإشارة إليها في كتاباتهم. وفي الحقيقة أن أسلوبها يختلف اختلافا بينا عن أسلوب الرسل، كما أن أفكارها ومفاهيمها بعيدة جدًا عن الأفكار القويمة الصحيحة، وهذا دليل على أنها من صنع خيال الهراطقة، ومن ثم وجب ألا تحسب بين الكتابات المزيفة فحسب، بل يجب أن ترفض كلية باعتبارها سخيفة ونجسة "(96).
وقال فوتيوس " بطريرك القسطنطينية في النصف الثاني من ق 9(97) " أن لغتها خالية تمامًا من النعمة التي تتميز بها الأناجيل وكتابات الرسل، وغاصة بالحماقات والمتناقضات". ثم يختم بقوله أنها تحوي "عشرات الآلاف من الأشياء الصبيانية التي لا تصدق، السقيمة الخيال، الكاذبة، الحمقاء، المتضاربة، الخالية من التقوى والورع، ولا يجافي الحقيقة من ينعتها بأنها نبع وأم الهرطقات "(97).
3 – صفات الكتب الأبوكريفية:
وعلى عكس ما يشتهي نقاد المسيحية، والذين تصوروا أن الكتب الأبوكريفية تؤيد مزاعمهم، فهي تقدم العكس تمامًا. ففضلا عن امتلائها بالفكر الغنوسي الصوفي الوثني والخرافات والفكر الأسطوري، تمتلئ بالأفكار التي (1) لا تؤيد وجهة نظرهم في القول بإنسانية المسيح البحتة وإمكانية أن يتزوج وينجب. (2) والتي لا يمكن أن تتفق مع أفكارهم وعقائدهم.
(1) التعاليم الغنوسية التي تركز على لاهوت المسيح وتنكر ناسوته:
فهي تمتلئ بالأفكار الهرطوقية الأسطورية؛ يقول إنجيل العبرانيين أن مريم أم المسيح هي الملاك ميخائيل " عندما أراد المسيح أن ينزل على الأرض، استدعى الآب الصالح قوة قديرة من السماء كانت تدعى الملاك ميخائيل، وعهد له من ذلك الوقت بالعناية بالمسيح وجاءت القوة إلى العالم ودعيت مريم وكان المسيح في رحمها سبعة أشهر "(103). كما يقول إنجيل العبرانيين أيضًا، أن الروح القدس أم المسيح. قال أورجانوس في تفسيره لإنجيل يوحنا: " إذا كان هناك من يقبل الإنجيل بحسب العبرانيين حيث المخلص نفسه يقول: أمي الروح القدس أخذتني بواسطة شعرة من شعري وحملتني إلى جبل تابور" (104).
وتصور الأبوكريفا الغنوسية الرب يسوع المسيح كواحد من سلسلة الآلهة المولودين من البليروما (ملء اللاهوت) وأنه عقل الآب غير المولود، كما تصور المسيح الإله وقد حل على يسوع الإنسان، أو المسيح والحكمة وقد حلًّا على يسوع، وتصور بعضها الآب والابن، أو الآب والابن والروح القدس كأقنوم واحد وشخص واحد، كإنجيل المصريين اليوناني. أما غالبية الأعمال -عدا أعمال بولس- وإنجيل بطرس، وبصفة خاصة أعمال يوحنا، فتصور الرب يسوع بصورة دوسيتية، خيالية، فهو بلا ميلاد! بلا جسد وبدون شكل ويُرى افتراضا! وعندما كان يسير لم يكن يترك أثرا لقدميه! وعندما كان يوحنا يحاول الإمساك به كانت يد يوحنا تخترق جسده بلا أي مقاومة! إذ لم يكن له جسد حقيقي! وكانت طبيعة جسده متغيرة عند الملمس فمرة يكون جامدا وتارة لينا وأخرى خاليا تمامًا! كما أن آلامه وصلبه وموته كانت مجرد مظاهر وهمية! فبينما كان معلقا على الصليب والجموع محتشدة حوله كان هو نفسه في نفس الوقت يتقابل مع يوحنا على جبل الزيتون! لقد كان مجرد شبح وحياته على الأرض لم تكنٍ إلا خيالا! وكان يظهر بأشكال متعددة ويغير شكله كيفما يشاء ووقتما يشاء!
(2) الزهد الجنسي والامتناع عن الزواج: تركز هذه الكتب، خاصة الأعمال الأبوكريفية، على الزهد الجنسي والامتناع عن الزواج وذلك كرد فعل للإباحية الجنسية التي كانت سائدة في الديانات الوثنية وتصور هذه الكتب كفاح الرسل من أجل طهارة الحياة الزوجية وإقناع الزوجات بالامتناع عن معاشرة أزواجهن جنسيا، وتذكر أعمال أندراوس أن المسيح ظهر لعريسين، في هيئة توما، وربحهما لحياة الامتناع عن الجنس، وكان عدم الزواج هو الشرط الأسمَى لدخول السماء، جاء في إنجيل المصريين، أنه عندما سألت سالومي الرب: " إلى متى يسود الموت ؟ " قال لها الرب " إلى أن تكفوا أنتن النساء عن ولادة الأطفال لأني جئت لأقضي على وظيفة المرأة "(100). بل وتركز أعمال توما على العفة ومحاولة أقناع العرسان أن يتعففوا عن العلاقات الزواجية. فهل من ينادي بهذه الأفكار يمكن أن يتخيل أو حتى يتصور أن المسيح يمكن أن يتزوج.
(3) التعليم السرية: وعلى عكس ما يدعيه نقاد المسيحية فقد زعمت معظم هذه الكتب الأبوكريفية أنها أقوال المسيح السرية التي أختص بها أحد أو بعض أو كل تلاميذه، والغريب أن أكثر من إنجيل منها يزعم أن كتابه، والذي يزعم أنه أحد الرسل، قد خصه المسيح وحده بتعاليمه وأقواله السرية. وهذه الأقوال السرية موجهة للخاصة فقط، وهذا عكس تعليم الرب يسوع المسيح الذي قال " لأن ليس مكتوم لن يستعلن ولا خفي لن يعرف، الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور. والذي تسمعونه في الآذن نادوا به على السطوح" (مت26:10و27).
والى جانب ذلك فقد تأثرت هذه الكتب، بالروح الأسطورية النابعة من البيئة الهيلينية التي كتبت وانتشرت فيها، فقد ساد بعضها روح أدب الرحلات التي كانت سائدة في القرن الثاني كأعمال توما، وحوى إنجيل الطفولة العربي عددا من القصص الشرقية. وكانت أغلب الأعمال المنسوبة للرسل من اختراع الروح الهيلينية التي كانت تجد لذتها في الخوارق والكتابات الرومانسية عن الرحلات. كما احتوت هذه الأعمال على تقاليد كثيرة لها أساس تاريخي صحيح، احتفظت بها الجماعات المسيحية، وكتبوا هذه الأعمال، الأبوكريفية، لتقديم هذه التقاليد بكل تفصيل، ولكن هذه البذور القليلة من الحقيقة تاهت ودفعت في أكوام من الأساطير.
4 – موقف العلماء من هذه الكتب الأبوكريفية:
درس علماء النقد النصي والمتخصصين في الأدب الأبوكريفي هذه الكتب، وكانت أخصب فترات بحثهم ودراستهم هي الفترة من 1886 –1945م والتي تم فيها اكتشاف كميات ضخمة من المخطوطات، في أخيم والبهنسا والفيوم ونجع حمادي، والتي تحوي هذه الكتب والتي ترجع إلى ما بين القرن الثاني والقرن الرابع الميلادي. وبعد الدراسة التحليلية الدقيقة، أقر هؤلاء العلماء بزيف هذه الكتب وأيدوا آباء الكنيسة الذين رفضوا إقرارها أو قبولها في القرون الأولى، كما أقروا بصحة الأناجيل القانونية الأربعة وبقية أسفار العهد الجديد القانونية لسموها وبساطتها وعظمتها. كما أقروا بأن المصدر الأول لهذه الكتب الأبوكريفية هي الكتب القانونية.
قال د. سويت، في تعليقه على إنجيل بطرس (لندن 1893) "إنه حتى التفاصيل التي تبدو جديدة تمامًا أو التي تتعارض مع الأناجيل القانونية، يمكن أن تكون مأخوذة عنها. وختم بقوله " أنه بالرغم من الجديد فيها فليس هناك ما يضطرنا لاستخدام مصادر خارجية عن الأناجيل القانونية "(106).
وقال بروفيسور أور عن إنجيل بطرس، أيضًا، أن الأصل الغنوسي لهذا الإنجيل يبدو واضحًا في قصة القيامة والمعالم الدوسيتية فيها(107).
وقال ر. هو فمانR. Hofmann عن كيفية كتابة هذه الكتب الأبوكريفية " أن الطريقة المستخدمة هي نفسها دائمًا، سواء كان قصد الكاتب أن يجمع ويرتب ما كان طافيا في التقليد العام، أو كان قصده أن يوجد أثرا عقيديًا محدد، لقد أنهمك في عمله حقيقة، وبصفة عامة فقد صور ما ألمحت إليه الأناجيل القانونية، أو حول كلمات يسوع إلى أعمال، أو صور إتمام توقعات اليهود الحرفية عن المسيا، أو كرر عجائب العهد القديم في شكل آخر..الخ. لقد أتم العمل وحرص على أن يخفي اسمه ويدمغ كتابه باسم أحد الرسل أو التلاميذ ليعطيه سند رسولي "(108).
أخيرًا يقول أ. روبرتس و. ج. دونالدسن أحد محرري موسوعة "ما قبل نيقية" أنه بينما تقدم لنا الأناجيل الأبوكريفية لمحات غريبة عن حالة الضمير المسيحي وأساليب التفكير في القرون الأولى من العصر المسيحي، فان الانطباع الدائم الذي تتركه في أذهاننا، هو شعور عميق للسمو الذي لا يقاس والبساطة التي لا يمكن بلوغها والعظة التي للكتابات القانونية "(109).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/cjdc8pj