لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها ذلك "الإنسان" فقد سبق أن رأيته قبل سنوات حينما كان يسخر منه العديد من أطفال الكنيسة حينما كان طفلًا وقتذاك، وكنت أحزن عليه، ولكن عندما رأيته هذه المرة سعدت للغاية..!
وذلك "الإنسان" قد أتضح لي بعد دراستي الجامعية لعلم النفس انه طفل مصاب بالتخلف العقلي، كنت قبل دراستي الجامعية لا أعرف ما السبب في ذلك الشكل الغريب الذي يتخذه ذلك الطفل، لم أكن اعرف أي شيء سوى إنه طفل غريب الشكل يسخر منه الأطفال الآخرون لا اعلم سبب السخرية والاستهزاء.
وكنت أتعجب لماذا يدفع به والديه إلى الكنيسة رغم كل ما يحدث له من إهانات وسخرية من الآخرين من شيء لا ذنب له فيه وحتى أن كان مذنب فليس من حقنا أن ندينه، أليس من الأفضل أن يغلقوا عليه في بيتهم حتى يحفظوا له ما تبقى من كرامة... هكذا كنت أفكر عندما كنت طفلًا ؟!
ومرت سنوات ودخلت الجامعة، ثم تحدث لي مفاجأة حينما أرى ذلك الفتى شماسًا في الكنيسة عندما كنت أحضر أحدى القداسات، سعدت وحزنت، فمظهره مفرح بملابس الشمامسة ولكن كانت خدمته مجرد تنظيف المقاعد أو الوقوف فقط دون اشتراك في أي خدمة، كنت لا أزال اجهل المعنى الحقيقي لمفهوم الخدمة، وعندما كان يقوم بالتناول كنت أخاف جدًا خشية أن يقع من فمه جسد الرب أو دمه أو يبصق بعد التناول.
قلت في نفسي حينذاك هل ذلك الفتى يعي ما يقوم به وان كان لا يعي فلماذا توافق الكنيسة على أن يكون خادمًا، هل لا زلنا نعامل هذه الفئات على إنها "بركة" بعيدًا عن أدنى اعتبار للعلم، وكنت اعتقد انه من المفروض أن مثل تلك الفئات تكون في اجتماعها فقط الخاص بالمعاقين عقليًا في الكنيسة لدينا... هكذا كنت أفكر عندما كنت لا أزال منبهر بالعلم وقاعات المحاضرات دون أدنى تعمق في الدراسات والأبحاث؟!
ثم أذهب إلى الكنيسة -بعد تخرجي من الجامعة ومروري بخبرات عملية- في صوم العذراء لحضور النهضة يوم 13 /8 /2006 وإذ بي أجد صوت في صلاة عشية يرج جدران الكنيسة ويرد وراء الكاهن العديد من المردات، صوت ليس بالعذب جدًا وكلام من الشفتين واضح إلى حد ما، ولكنه صوت خادم ناري..!
نعم لقد أصبح الطفل فتى والفتى أصبح شابًا يافعًا .. خادمًا ناريًا .. يقول المردات بحماس لم أراه من قبل في شماس سواه.. يثق بأنه لن يخطئ فيما يقول.
بدأت أبتسم إلا إنني وجدت أن الرؤية غير واضحة، قلت ربما تكون عدسات النظارة تحتاج إلى تنظيف حاولت تنظيفها ولكنها كانت نظيفة جدًا واكتشفت الحقيقة في هذه اللحظة وجدت عينيّ تُدمِع.. أنني أبكي وأبتسم في نفس الوقت، قلت في نفسي هل جننت؟!
ولكن تم حل اللغز عندما عرفت أن البكاء يرجع إلى حالي فتذكرت كم مرة أخطأت في الحكم على الأمور في ذلك الموقف، أما الابتسامة فهي لأنني أعجبت بذلك الشاب الذي دائمًا كنت أراه بغير وضوح إلى أن أتت اللحظة التي فيها عرفت معنى الخدمة والخادم الناري وعرفتها من موقف كان بطله طفل معاق عقليًا تدرج في الخدمة منذ طفولته ليعلمني كيف تكون الخدمة، كيف يكون نكران الذات، كيف أن حفظ المردات القبطية والعربية ليس مستحيلًا لأي إنسان يريد أن يحفظ، كيف يكون الصدق فيما أقوله من مردات، كيف أؤمن بقلبي دون دخل من عقلي في أي شيء...؟!
1. الخدمة بالتدريج والصعود فيها صعب، ولكن له مذاق خاص، ولكن فقط علينا أن نضع يدينا على المحراث ولا ننظر إلى الوراء.
2. عظمة الخدمة ليست بحجم المهمة، ولكن بكيفية أداء ما يطلب منك من مهام، فهذا الخادم الناري كان يؤدي تنظيف المقاعد أو الوقوف مع الشمامسة بمنتهى الكفاءة.
3. لابد أن اخدم دون أن انظر إلى الآخر، فالخادم الناري لا يهتم بمن قرأ الإنجيل من شمامسة ولماذا لم يقرأه هو أو لماذا لا يقل هذا المرد أو ذاك..؟ إلخ.. فالمهم هو الاستماع إلى الإنجيل والعمل بما يقال.
4. أين أنا من الخدمة في القداس وعشية.. ألست شماسًا، أين الأطفال الذين كانوا يومًا يسخروا من ذلك الطفل بالتأكيد أصبحوا شباب مثله .. أين خدمتهم.. أم أنهم اكتفوا بالسخرية دون العمل...؟!
وربما يتساءل قارئ الآن: ما علاقتنا نحن في خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة بموقع الأنبا تكلا بهذه القصة، ما المشكلة في شماس يقول مردات...؟!
والجواب إن علاقتنا بهذه القصة وثيقة للغاية فنحن من خلال ذلك الخادم الناري أو هذا الطفل - الفتى - الشاب المعاق عقليًا نتعلم دروسًا أخرى غير تلك التي تعلمتها أنا عن الخدمة، وهى:
1. ليس من العار علىّ إن أعطاني الرب طفلًا معاقًا أن أدفع به إلى المجتمع.. صحيح سوف يتعرض لبعض المضايقات، ولكن لا بُد أن أقاوم وأصر على انه مثل أي طفل سوي وازرع فيه روح ذلك الإصرار، فهذا الإصرار سوف يجعله يقوم بأعمال الأسوياء وربما يقوم بما يعجز عنه الأسوياء، ولا يشترط أن يكون المجتمع هو الكنيسة فحسب، وإنما في كل مجالات المجتمع، فوجوده في المجتمع سيكون بمرور الوقت أمرًا حتميًا ومن ثم يحصل لنفسه على مكان فيه.
2. لا زلنا فعلًا في مجتمعنا ننظر في كثير من الأحيان إلى تلك الفئات على إنها "بركة".. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لا يشترط بالطبع أن يكون كل معاق عقليًا غير مدركًا أو أن كل من يكون غير مدرك "بركة" ومن هنا علينا أن نُعمل روح العلم قليلًا، وفعلًا لقد بدأ ذلك بشدة في كنائسنا القبطية الأرثوذكسية فلا تكاد تخلو كنيسة من اجتماع أو مركز لخدمة فئة أو أكثر من فئات المعوقين، ولكن للآسف بعض تلك المراكز والاجتماعات تعامل تلك الفئات -رغم اختلافها- كفئة واحدة، وطبعًا ذلك خطأ شديد أن أضع فئات من المعاقين عقليًا وبصريًا وسمعيًا وجسميًا... إلخ. في اجتماع واحد... فالفئة الواحدة تشتمل على العديد من الفئات الفرعية فما بالنا بفئات مختلفة في الأساس فلكل فئة من فئات الإعاقة أسلوب خاص في التعامل معها.
3. علينا كأسر أعطاها الله أطفالًا أسوياء أن نربي أطفالنا على تقبل الآخر المعاق المختلف عنا وألا يكون جزاء الاختلاف هو السخرية ولا نعني بذلك أن تكون العلاقة مجرد الشفقة ولكن التفاعل البناء بمعنى التقبل التام والمعاملة كأي إنسان عادي، وحبذا لو استطعنا في كنائسنا أن ننظم لقاءات أو رحلات أو أيام روحية تجمع الأسوياء والمعوقين جنبًا إلى جنب، فهذا يقرب من الفجوة بين أطفالنا الأسوياء والمعوقين ليدرك كل منهما الآخر كما ينبغي.
خلاصة القول.. أود أن أؤكد بشيء من الثقة أن وجود معاق عقليًا يسهم في المجتمع وبنائه مثله كمثل أي إنسان عادي لم يعد بالأمر المستحيل.. خاصة في ظل وجود مراكز ترعى هذه الفئات سواء داخل كنائسنا أو خارجها.. المهم هو تنمية قدراته والبحث عن مواهبه من خلال المراكز المتخصصة لأننا أصبحنا شئنا أو أبينا في عصر العلم، وعلينا أن نسرع بأطفالنا إلى تلك المراكز ولا نخجل منهم لأنهم بالتدريج سوف يحققوا ما قد يعجز الأسوياء عن تحقيقه.
طلعت حكيم - معيد بقسم علم النفس - كلية الآداب - جامعة عين شمس
________________
* يمكن أن نقول عن الخادم الناري انه كل خادم يعمل فيه الروح القدس ويُعمِله في الآخرين، وليس كل معوق خادم ناري، ولا يشترط أن كل خادم.. خادم ناري.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/Coptic-Service-Corner/Serving-Disabled/18-Story-of-a-disabled-servant.html
تقصير الرابط:
tak.la/4phxsjq