أدى ظهور الطبقة الوسطى التجارية وسكان المدن في أوروبا إلى تغيير وجه الحياة فيها، فتغيرت نظرة الناس إلى عادات وتقاليد العصور الوسطى في أوربا، فأخذت هذه العادات والتقاليد تتزعزع أسسها مع انهيار المجتمع الإقطاعي وبناء المتجمع البرجوازي نتيجة انتعاش التجارة واكتشاف الطرق التجارية برًا وجوًا وإنشاء المدن التجارية نتيجة تجمع التجار لتبادل التجارة، وانتعاش رؤوس الأموال التي أظهرت شخصية هذه الطبقة في مواجهة الإقطاع والرأسمالية ومنها الكنيسة الكاثوليكية نفسها، مما أخذ معه البناء السياسي والفكري والديني والقانوني والفلسفي في الانهيار أمام هذا البناء الجديد في نفس المسارات.
فكانت الكنيسة الكاثوليكية في ظل العلاقات الإقطاعية قد استطاعت أن تصوغ الدين في شكل يتفق مع هذه العلاقات فعملت على تمجيد حياه الزهد والتقشف والنهي عن التمتع بجمال الحياة ونعيمها بالنسبة للشعب فقط دون رجالها ودعت هؤلاء الناس إلى تعذيب النفس وحرمانها استعدادا لنعيم الآخرة وذلك بغرض حمل الشعب على قبول الاستغلال الإقطاعي في إذعان واستسلام.
Bourgeoisie |
وكانت الكنيسة تطلب إلى الناس اتباع تعاليمها دون مناقشة الأمر الذي أمات فيهم روح البحث والابتكار بل والتعليم على أساس أن الجهل يسهل قياده الشعب، وأعمى إنسان العصور الوسطي عن رؤية جمال العالم وفكره وثقافته. فقد كان الجمال في نظره رجسًا من عمل الشيطان ولم تصبح الدنيا في رأيه إلا مضيفه إلى الدار الآخرة، وحببوا إليه الجهل ليكون مقبولا لدي الله لأنه في نظرهم – دليل على صدق العقيدة وقوة الإيمان.
وفي الوقت الذي كانت فيه الكنيسة تقوم بهذا إزاء الجماهير الكادحة كانت تمارس الاستقلال المادي لهذه الجماهير، بأشد مما كانت تمارسه طبقة النبلاء والإقطاعيين، وكان الباباوات في روما يعيشون عيشة الترف، وانغمس بعضهم في حمأة الرذيلة كما تمتع بعض رجال الكنيسة بالكثير من الحقوق الامتيازات الدينية والمدنية التي لم يكن يتمتع بها سائر أفراد المجتمع آنذاك وكانت الكنيسة إلى جانب امتلاكها إقطاعيات واسعة معفاة من الضرائب لها الحق في جمع نوع من الضرائب في شكل العشور.
وفي الوقت نفسه لم تكتفي الكنيسة بما كانت تتمتع به من مركز هام في المجتمع الإقطاعي بحكم دورها الديني، بل أراد الباباوات إخضاع الأباطرة لسلطتهم وبمعني آخر إخضاع السلطة المدنية للسلطة الدينية رغم أن المسيحية تؤكد أن الكنيسة والدولة تستمدان سلطتهما من الله الذي أوكل لواحدة حكم الروح والأخرى سلطه الإدارة (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) الأمر الذي أدى إلى النزاع بين البابوية والإمبراطورية كما مر بنا هنا في قسم التاريخ بموقع الأنبا تكلاهيمانوت.
وقد كان من الطبيعي مع انهيار المجتمع الإقطاعي وظهور طبقه جديدة على أنقاض هذا المجتمع وهي البورجوازية بمفاهيم ومُثَل جديدة وبأسلوب في الحياة والتفكير يختلف عن أسلوب العصور الوسطي، أن تصحوا أذهان الناس على مساوئ الكنيسة ومفاسدها وان تتمرد نفوسهم على قيودها ونظرياتها فوقعت سلسله من ردود الفعل -رأيناها في الأوراق السابقة- وبناء هيكل كنسي جديد يتفق مع علاقات الإنتاج الجديدة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وما ترتب على هذه العلاقات من قيام بناء علوي جديد.
ولقد لعبت الطبقة البرجوازية bourgeoisie الدور الرئيسي في تحطيم سلطة الكنيسة الكاثوليكية في عصورها الوسطي هي الطبقة الثورية كما رأينا وكان قد سبق لها أن بلغت مركزًا مرموقًا في المجتمع بفضل ثرائها القائم على رأس المال ولكن هذا المركز مع ذلك كان لا يتلاءم مع قوتها وقدرتها على التوسع والامتداد وبالتالي لما كان النظام الإقطاعي هو الذي يقف حائلًا دون نموها وتطورها فقد كان عليها، تحطم هذا النظام.
ولكن الكنيسة الكاثوليكية كانت المركز الدولي العظيم للإقطاع وهي التي وحدت أوروبا الغربية الإقطاعية وجعلت فيها برغم كل الحروب الداخلية نظامًا سياسيًا موحدًا يقف إزاء الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية المنشقة عليها (هذا في رأي الكاثوليك) والممالك الإسلامية على حد سواء أحاطت الأنظمة الإقطاعية بهالة من القداسة ونظمت طبقاتها دفعه النموذج الإقطاعي وأخيرًا كانت الكنيسة أقوى سيد إقطاعي وتملكت ثلث أرض العالم الكاثوليكي ولهذا كان لابد قبل توجيه هجوم ناجح إلى النظام الإقطاعي الفاسد في كل بلد لابد من تحطيم نظامه المركزي المقدس وفضلًا عن هذا فقد صاحب نمو البرجوازية عملية إحياء العلوم العظيمة من فلك وميكانيكا وطبيعة وتشريح وفسيولوجيا في حين كان العلم في العصر الإقطاعي هو الخادم المطيع للكنيسة ولم تكن تسمح له بأن يتخطى الحدود التي رسمتها العقيدة رغم أن المسيحية دين انفتاح على الثقافة والعلوم والتعليم ما دامت لا تبعد الإنسان عن الحياة مع الله.
يتبين من كل ذلك أن البورجوازية كانت هي الطبقة التي يعنيها أكثر من غيرها النضال ضد دعاوى الكنيسة الكاثوليكية. ذلك أن كل صراع في ذلك الوقت ضد الإقطاع كان لابد أن يجري تحت ستار ديني؛ أي يجب أن يكون موجها ضد الكنيسة أولًا.
ولكن إذا كانت البداية بدأت من البرجوازية فقد كان من المحقق أن يتردد صداها في طبقات أخرى. فقد تردد صداها في جماهير الفلاحين الذين كان عليهم أن يكافحوا من أجل وجودهم ضد سادتهم الإقطاعيين، كما تردد صداها في طبقة الفرسان الذين كان عليهم أن يكافحوا ضد سيطرة كبار النبلاء.
53- الإصلاح الديني في ألمانيا |
تاريخ كنيسة الغرب د. يواقيم رزق مرقص |
51- أحوال الكنيسة الكنيسة الغربية في نهاية العصور الوسطى |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jgqp2d3