محتويات
اللاهوتي اللوثري John Gerhard من رجال القرن السابع عشر هو أول من استخدم كلمة Patrologia كعنوان لعمله الذي نشرّه عام 1653، إلاَّ أن فكرة نشر أقوال الآباء تمتد إلى القرون الأولى عينها، ويمكننا -إن جاز لنا ذلك- أن نقسم تاريخ علم الباترولوچي إلى عدة مراحل، وإن كانت هذه المراحل ليست محدّدة تمامًا.
كانت أقوال الآباء في هذه الفترة تمثّل نصيبًا من التقليد الكنسي، يتقبّله كل جيل ويودعه لدى جيل آخر. وهكذا انتشرت أقوال الآباء لا لغرض دراسي ولا كهدف في ذاتّها، وإنّما كوديعة تحمل داخلها إيمان الكنيسة الحيّ.
بمعنى آخر، لم تكن أقوال الآباء وسيرهم ورسائلهم وفكرهم يمثّل تراثًا ثمينًا يودع في بطون الكتب أو يُحفظ في خزائن المتاحف والجامعات ليكون مادة لدراسات فلسفيّة نظريّة، إنّما كانت إنجيلًا عمليًا حيًّا تخطه الأجيال بالروح القدس، شهادة لديمومة عمل الله الخلاصي المستمر في كل جيل.
هكذا اعتزّ الآباء بتراث السابقين لهم لا بكونه أدبًا روحيًا لأجيال ماضية، وإنّما بكونه ممثلًا لحاضر حيّ وحياة واقعيّة صادقّة عاملة في الكنيسة.
أ. أقوال الآباء وكتاباتهم بكونها جزءًا لا يتجزّأ من وديعة الإيمان التي تسلّمها لكي يسلّمها بغير انحراف. ونستطيع أن نُدرك حرص آباء الكنيسة الأولى على ذلك من قول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يليق بنا أن نحفظ التقليد الذي تسلّمناه بالتتابع من الآباء ثابتًا بغير تغيّر]، وقول القدّيس كيرلس الإسكندري: [إنني محب للتعليم الصحيح، مقتفيًا آثار آبائي الروحيّة [21].]
أما كيف حفظ التقليد -الذي يحمل في طياتهم أقوال الآباء- فإن ذلك لم يتحقّق تسجيله بحبر وقلم، وإنّما أُودع في الكنيسة خلال روح التلمذة، حيث يتتلمذ كل جيل على آباء من الجيل السابق، لا ليُودعوهم أمورًا قديمة جامدة، وإنّما يسقونهم روح الإيمان الحيّ العملي. وظهرت التلمذة بصورتها القويّة في الحياة الرهبانيّة -سواء في الأديرة أو المغائر المتباعدة- حيث يعيش التلميذ (أو التلاميذ) مع أبيه، يأكل معه ويشرب ويتعبّد ويسهر ويجاهد ويعمل، ليقتبس روحه الإيماني العملي، كما ينصت إليه ويكشف له أفكاره الداخليّة، مسترشدًا بنصائحه. وبين الحين والآخر كثيرًا ما يقوم التلميذ بتسجيل ما يراه أو يسمعه من أبيه، كمذكرات يسترشد بها في حياتهم المقبلة... وجاء الكثير من هذه المذكرات تحمل إلينا تراث الكنيسة الأولى.
وفي دفعات كثيرة كان التلميذ عند نياحة أبيه يقوم بنسخ سيرة أبيه، وكل ما سمعه منه أو عنه لينتفع به هو واخوته.
ب. وفي الكنائس كان البعض يشغف بتسجيل عظات آبائهم اليوميّة أو الأسبوعيّة أو النصف أسبوعيّة، وجاءت هذه العظات كتفاسير وشروح للكتب المقدّسة أو لعلاج مواضيع روحيّة أو عقائديّة... الخ، مثل عظات القديس يوحنا الذهبي الفم، وعظات القديس أغسطينوس.
ج. امتدّت التلمذة -خاصة في مصر- فاحتضنت الكثير من رجال الشرق والغرب. فقد وفد إلى مصر كثير من القادة يتتلمذون على أيدي متوحّدي مصر أو داخل الأديرة أو بمدرسة الإسكندريّة، ويدوّنون أقوال الآباء وسيرهم وأفكارهم ويثبّتونها بلغاتهم من يونانيّة وسريانيّة ولاتينيّة.
نذكر على سبيل المثال القديس يوحنا كاسيان (حوالي 360-435 م.) الذي تتلمذ على آباء مصر العظام وسجّل خبراتهم في كتابين مشهورين: المناظرات Conferences مع آباء البريّة، وقد جعله بندكت كتاب القراءة اليوميّة للرهبان الخاضعين له، والمؤسّسات أو الدساتير Institutions حيث عالج قوانين الرهبنة وناقش كيفيّة نصرة الراهب في الحرب الروحيّة...
كما جاء المؤرّخ الرهباني المشهور "بالاديوس" (حوالي 365-425 م.) إلى مصر يتعرّف على حياة نساكها والتقى بالقديس ديديموس الضرير مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتيّة أكثر من مرّة، وسجّل لنا الكثير من التراث الرهباني في كتابه "التاريخ اللوزياكي" أو "فردوس الآباء".
وسجّل لنا روفينوس Rufinus (حوالي 345-410 م.) في كتابه "تاريخ الرهبنة (في مصر) هستوريا موناخوم" أحاديث عن آباء مصر الرهبان، وقد زار مصر عام 372 م. والتقى بالقدّيسة ميلانيّا الكبيرة وزار رهبان البرّيّة. درس لعدة سنوات في مصر، متتلمذًا على يدي القديس ديديموس الضرير.
هذا وقد جذبت مدرسة الإسكندريّة الكثير من قادة الكنيسة في العالم فجاءوا إليها أو نقلوا إليهم تراثها يتتلمذون عليه. فالقدّيسان باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي اعتبروا أوريجين المصري معلّمًا لهم، حتى جمعا مقتطفات من كتابه "المبادئ Principles" في مؤلف له أسماه "فيلوكاليا" أي حب الصلاح.
وبلغ شغف أوسابيوس أسقف فرسيل (بإيطاليا) بكتابات أوريجين أنّه لم يرى فلسفة حقيقيّة في غيرها.
أ. حفظ تراث الآباء عن طريق حركات الترجمة المستمرّة خاصة من اليونانيّة إلى اللاتينيّة أو السريانيّة أو الأثيوبيّة، نذكر منها على سبيل المثال ما حدث للتراث القبطي:
* كتاب "حياة أنطونيوس" بقلم أثناسيوس الرسولي.
* "أقوال الآباء المصريّين" التي نسخها بعض زوار مصر وحملوها إلى الخارج وتُرجمت إلى اللاتينيّة والأسبانيّة...
* قام روفينوس Rufinus بترجمة كتاب المبادئ للعلاّمة أورجين، وبعض كتبه في التفسير، وكتاب "المعارف" لإكليمنضس الإسكندري...
نُقل الكثير من تراثنا إلى النوبة وترجم بعضه، حتى كان أهل النوبة يكتبون القبطيّة بجانب لغتهم النوبيّة بحروف قبطيّة.
** نُقل الكثير من تراثنا إلى الأثيوبيّة -بعد قبول إثيوبيا المسيحيّة- حتى إذ فُقد البعض من تراثنا وجدناه بالأثيوبيّة.
ب. خرج الكثير من الرهبان ومديرو مدرسة الإسكندرية إلى العالم بروح الكرازة أو تأسيس أديرة في الخارج حاملين معهم بعضًا من تراثنا.
يعتبر يوسابيوس القيصري (حوالي 260-340 م.) أبًا لعلم الباترولوچي ومؤسّسًا لفكر نشر أقوال الآباء وكتاباتهم [22]، حيث أشار في كتابه "التاريخ الكنسي Ecclesiastical History" الذي نُشر عام 326 م.: [هذا هو هدفي أن أكتب تقريرًا عن خلافات الرسل القدّيسين... وأن أشير إلى أولئك الذين -في كل جيل- نادوا بالكلمة الإلهيّة سواء كان شفاهًا أو كتابةً [23].] وبالفعل قدّم يوسابيوس قائمة بكل الكُتَّاب وكتاباتهم حسب قدرته، كما سجّل لنا مقتطفات لأغلبهم، وبهذا اعتبر كتابه أهم مرجع لعلم الباترولوچي، خاصة وأن بعض الكتابات التي اقتطف منها فُقدت تمامًا. وبالرغم من كثرة أخطائه لكنّه لا يزال يعتبر المصدر الوحيد لبعض الكتَّاب المسيحيّين الأوائل.
لقد خلق هذا الكتاب "المؤرّخين الكنسيّين" في الشرق والغرب، إذ حاول كثيرون تكملة هذا العمل. نذكر منهم سقراط Socrates وسوزومين Sozomen وثيؤدرت Theodert الذين جاءت أعمالهم متقاربة إلى حدٍ ما، لكنّهم تجاهلوا الكنيسة الغربيّة اللهم إلاَّ فيما يخص علاقتها بالكنيسة الشرقيّة. وفي الغرب قام روفينوس Rufinus بترجمة يوسابيوس إلى اللاتينيّة وأضاف إليه بعض الأحداث حتى عصر ثيؤدوسيوس الكبير سنة 392م، غير أن إضافته ليست بذات قدر يذكر.
إن كان يوسابيوس بكتابه قد وجّه الأنظار إلى تاريخ الكتابات الكنسيّة، حيث قدّم عملًا ذات قيمة في هذا الشأن، فإن الكتاب التالي له في تاريخ كتابات الآباء وهو "مشاهير الرجال Illustrious Men" الذي جمعه القدّيس چيروم (حوالي 343-420 م.) في السنة الرابعة عشر من حكم ثيؤدوسيوس، أي عام 293 م.، لطلبّ صدّيقه Dexter. حيث أراد بعمله هذا أن يجيب على صيلسس Celsys وبروفري Prophyry ويوليان Juluan وغيرهم من الوثنيّين في اتّهاماتهم المستمرّة بأن المسيحيّين قليلوا الذكاء، فسجّل چيروم الكتَّاب الذين يعتزّ بهم الأدب المسيحي (حتى عام 379 م.) في 135 فصلًا، حيث بدأ بالعصر الرسولي وانتهى بنفسه في السنة التي وضع فها هذا العمل، مقدّمًا في كل فصل عرضًا لسيرة الكاتب وتقييمًا لأعماله.
ربما أراد القدّيس چيروم أن يخدم الأدب المسيحي مظهرًا غنى التراث الأدبي المسيحي، مقتديًا بسيتونيوس Suetonius الذي نشر مجموعة دعاها "مشاهير الآباء" في حوالي عام 100 م.، لخدمة الأدب اللاتيني الكلاسيكي، تضم في اختصار حياة "مشاهير الكتاب اللاتين [24]".
ويلاحظ في هذا الكتاب:
أ. اعتمد چيروم في الثمانية وسبعين فصلًا الأولى على تاريخ يوسابيوس اعتمادًا كبيرًا بالرغم من ذكره أنّه لم يعتمد على كتابات سابقة له. وقد ردّد نفس أخطائه، ومع هذا يعتبر عمله مصدرًا أساسيًا في المؤلفّات الكنسيّة الأولى، إذ هو المصدر الوحيد الذي بين أيدينا -إلى الآن- عن بعض الكتاب القدامى مثل مارقيوس فيلكس Marcuis Felix ونوفاتيان وترتليان وغيرهم.
ب. في مقدّمته حدّد چيروم مجال عمله وهو "أولئك الذين كتبوا عن الكتاب المقدس"، لكنّه إذ بدأ عمله شمل الكتَّاب في الأمور اللاهوتيّة.
ج. ما أن نشعه حتى عبر القديس أغسطينوس [25] عن أسفه أن چيروم لم يفصل بين الكتَّاب الأرثوذكس والهراطقة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فقد حمل بين المؤلفين أسماء هراطقة مثل تاتيان Tatian وبريسكيليان Priscilian وBasdesanes والأريوسي المتطرف أونوميوس وفلاسفة وثنيّين مثل سينيكا Seneca ويهودًا مثل فيلا الإسكندري ويوسيفوس.
د. يرى E. C. Richadson أن چيروم لم يقم بهذا العمل لأغراض علميّة بل لتحقيق أغراض عمليّة، لهذا قدّم تعريفًا مختصرًا عن بعض الكتَّاب غير المعروفين، وفي نفس الوقت جاءت كتاباته مقتضبة جدًا وتافة بالنسبة لبعض الكتَّاب المشهورين مثل القدّيسين أثناسيوس الرسولي وباسيليوس القيصري وكبريانوس وغريغوريوس أسقف نيصص وأبيفانيوس وأمبروسيوس.
هـ. تجاهل چيروم كتابات أغسطينوس التي ظهرت في ذلك الوقت، ولعلّ سرّ هذا اختلافهما في بعض وجهات النظر.
على أي الأحوال بقي كتاب چيروم خلال أكثر من ألف عام موضع اعتبار مؤرّخي المؤلفّات المسيحيّة الأولى في الغرب، ناظرين إليه كأساس لكل دراستهم، مشتاقين إلى تكميل هذا العمل، فقد قام Prosper Aquitanus صدّيق أغسطينوس بتكملة عمل چيروم حتى عام 449م. إلاَّ أن عمل چيروم بقي مقترنًا بالتكملة التي قام بها جيناديوس Gennadius، وهو كاهن مرسيليا (تنيّح عام 496م) الذي إتبع نفس الروح في كتابته، ويلاحظ عليه:
أ. عمل جيناديوس كما يقول Richadson ضئيل وغير منظم، فمعله ككل يعتبر أقل أهميّة من عمل چيروم، لكننا لا نقدر أن ننكر أن له إضافات غاية في الأهميّة، حتى يمكننا أن نحسبه جزءًا ثانيًا لعمل چيروم.
ب. شمل عمله 99 فصلًا حيث استمرّ إلى عام 495م، خاتمًا كتابه بفصل آخر عن كتاباته هو.
ج. كان جيناديوس نصف بيلاجي، وقد ظهر ذلك في انطباعاته على وصفه وتعليقاته بصورة أو أخرى، ومع ذلك فإنّه يُعتبر رجلًا واسع الإطلاع.
قام بعد جيناديوس كثيرون يقدّمون أعمالًا تحمل ذات المنهج، نذكر منهم ايسيذورس Isidore of Serville (تنيّح عام 636) الذي أعطى اهتمامًا خاصًا بالكتَّاب الأسبان [26]، والأسقف Ildephonsus of Toledo (تنيّح عام 667م).
وفي أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر قام مؤرّخ سيَر الآباء البندكي Sigebert of Gembloux ببلچيكا بمحاولة جديدة لتقديم المؤلفّات المسيحيّة بصورة معاصرة لزماته، فعالج في كتابه De Viris Illustribus الكتَّاب المسيحيّين القُدامى الذين جاءوا بعد چيروم وجيناديوس مباشرة، ونسق سيَر الآباء، ووضع ملاحظات على مؤلفّات اللاهوتيّين اللاتين في بدء العصور الوسطى، دون أن يشير إلى الآباء الشرقيّين.
وفي عام 1122م قام هونوريوس Honorius Ausgusodunum بعمل مشابه تحت اسم "الكنيسة المنيرة De Luminaribus Ecclesaie".
وحوالي عام 1494م أمدنا الأب ترثيموس John Trithemius بسير 963م من الآباء والكتاب مع تفصيل لكتاباته، منهم من هم غير لاهوتيّين. وقد تقبّل معلوماته عن الآباء الأولين من چيروم وجيناديوس.
كان ترثيموس أبًا لدير بندكتي في Sponheim، حصل على شهرة فائقة إذ جمع مكتبة من حوالي 2000 مجلّدا، وكان بعض النبلاء يزوّرونه لقراءة الآباء اليونان واللاتين [27]. وقد احتضن الشماس Myraus هذا العمل وهذّبه. ثم جاء بعد ذلك الكاردينال R. Bellarmine الذي أعطى اهتمامًا خاصًا للأدب الكنسي القديم بطريقة عمليّة.
هذا عن الغرب، أمّا بالنسبة للشرق فقد قام البطريرك فوتيس Photius الذي تنيّح عام 891م (بطريرك القسطنطينيّة) بعمل مماثل تحت عنوان Photil Bibliotheca يمتاز بالدقّة كما يحوي أعمال بعض المؤلفين الوثنيّين.
أما في الكنيسة القبطية فبرز كتاب "السنكسار" cuna[arion الذي يركّز بالأكثر على سير القديسين، هذا مع قيام بعض المؤرّخين مثل يوحنا النقيوسي وغيره، كما اهتم الأقباط بنسخ كتابات الأولين...
وفي القرن الخامس عشر قام في القسطنطينيّة نسيفورس كالستي بن كالستوس يلخص الأعمال السابقة لأسلافه ويضع تاريخًا للكنيسة منذ نشأتها حتى عام 911م. استخدم كتابات يوسابيوس وأضاف سير بعض الرهبان، وقد عبر عبورًا سريعًا في حديثه عن الكنيسة اللاتينيّة بعد القرن الخامس الميلادي.
على أي الأحوال سنتعرّض -بمشيئة الله- في كل جيل من الأجيال لأهم الكتابات التي ظهرت فيه بأكثر تفصيل.
انطلقت مرحلة جديدة في علم الباترولوچي في القرنين السادس عشر والسابع عشر بظهور أول تجمّعات للمؤلفّات الكنسيّة القديمة ونشرّها في طبعات ممتازة.
وجاء القرن التاسع عشر بفيض من الاكتشافات الجديدة في نصوص الآباء الشرقيّين، وبدأ ظهور إحساس بضرورة وجود طبعات مدروسة ومضبوطة علميًا. وقد افتتحت أكاديميات فيينّا وبرلين هذا العمل بطبع مجموعات محكمة للآباء الشرقيّين والغربيّين. كما قام الدارسون الفرنسيّون بنشر طبعات لأعظم مجموعتين للمؤلفّات المسيحيّة الكنسيّة الشرقيّة، وأنشأت كثير من جامعات الغرب كراسي خاصة بعلم الباترولوچي.
وكان من ثمر هذا كلّه أنّه بدأ يظهر في كنيسة الغرب، في القرن العشرين اتجاهًا لدراسة فكر الآباء ومفاهيمهم وإصطلاحاته وعقائدهم...
في هذه المرحلة العلميّة، صار على الكنيسة التزام بتنقية كتابات الآباء، حيث نُسبت بعض الأعمال إلى آباء عظام لكي يضمن واضعوها قبولًا وسرعة انشارها. كما نسب بعض النساخ أعمالًا إلى بعض الآباء مع أن هؤلاء الآباء لم يقوموا إلاَّ بوضع جزء منه.
هذه التنقية تحتاج إلى التأكّد من أي عمل مشكوك فيه إن كان أصيلًا أم لا، بدراسته خلال ال اقتباسات التي وردت عن الأب خلال كتابات غيره من الآباء المعاصرين له أو اللآحقين له، ودراسة أسلوب الكتابة وطريقتها. والتأكّد من انسجام العمل مع غيره من كتابات نفس الأب خاصة من جهة أفكاره اللاهوتيّة والروحيّة والاجتماعيّة. كما يحتاج الأمر إلى المقارنة بين المخطوطات المتباينة للعمل الواحد بلغات متعدّدة لتنقية ما أضافه أو حذفه المترجمون والنسّاخ... الخ.
عندما يتحدّث الغربيّون عن تاريخ علم الباترولوچي وما توصلّوا إليه في أبحاثهم ودراساته ونشرّهم للنصوص الآبائيّة، يتطلّعون إلى كنيسة مصر وكرسي الإسكندريّة كينبوع حيّ يفيض على العالم المسيحي بالكثير من التراث الآبائي، نصوصًا وروحًا.
ففي أواخر العصور الوسطى وبداية العصر الحديث حمل علماء الغرب كنوز أديرتنا إلى متاحفهم وجامعاته، وصارت مادة أساسيّة في قيام علم الباترولوچي.
وإلى اليوم لا تزال مخطوطات مصر وأوراق البردي المصريّة تفتح آفاقًا جديدة في علم الباترولوچي، وكما قال Quasten الأستاذ بجامعة أمريكا الكاثوليكيّة بواشنطون إنّنا نشكر مصر التي قدّمت لنا الكثير من أوراق البردي تحمل إلينا مقالات كنّا مجرّد نسمع عنها في كتابات القديس إيريناؤس وغيره. وقد ختم حديثه عن تاريخ علم الباترولوچي بقوله: [علاوة على هذا فإن أوراق البردي المصريّة المكتشفة حديثًا قد أعادت للدارسين أعمال آبائيّة مفقودة [28].]
وما قاله Quasten ذكره بصورة أخري الأب Jungmann في كتابه The Early Liturgy عن بركات رمال مصر في الكشف عن الليتورچيات والكتابات الآبائيّة القديمة.
بقي لنا أن ندرك أن كنيسة الإسكندريّة -حسب شهادة الغرب ذاته- لا تزال تحيا بالروح الآبائيّة الأصيلة، تستطيع أن تنتفع بالأبحاث العلميّة التي قام بها الغرب في هذا المجال، بكونها دعوة لاسترجاع الكنيسة في المسكونة كلّها إلى فكرها الأول.
ظهور "علم الباترولوچي" وانتشار كتابات الآباء ما هو في الحقيقة إلاَّ نوعًا من "الحركة الأرثوذكسيّة" في بيئة غير أرثوذكسيّة، تحتاج منا إلى الاهتمام بها والانتفاع منها بطريقة روحيّة كرازيّة.
أقول مع الأب شميمان عميد معهد فِلاديمير للروس الأرثوذكس سابقًا أن ما كدّسته الحركات الغربيّة من مادة وخبرة في هذا المجال (الأبحاث الآبائيّة عن الأسرار) ليس بالغريب عنّا، إنّما له قيمته، إذ هو سند للاهوت الأرثوذكسي في إعلان أرثوذكسيّة الكنيسة في الغرب... ولكن هذا لا يعني قبولنا -بغير وعي- كل ما أثمره هذا الحقل في الغرب [29].
[21] المؤلف: مفاهيم إيمانية (2): الكنيسة والتقليد، ص9.
[22] J. Quasten: Patrology, vol 1.
The Oxford Dictionary of the Christian Church, 1974, p. 481.
[23] Eccl. Hist. 1:1:1.
[25] Ep. 40:9 written in 397.
[26] F. Arvalo: S. Isidore.., Rome 1797 to 1803, vol. 5, p. 138 - 178, PL 83: 1018 - 1106: 96: 195 - 206.
[27] يذكر Questen وجود طبعة تشمل أغلب المؤلفين ومؤلفاتهم الكنسيّة من چيروم إلى تريثموس (بالطبع تجاهل الكتاب الشرقيّين خاصة غير الخلقدونيين):
J. A. Fabricius: Biblotheca Ecclesiastics, Hamburg, 1718.
كما ذكر وجود عملين آخرين لمؤلفين كنسيّين هما:
L. S. Nain de Tillemont: Memoires pour server a Phistoure ecclesiastique des six premiers siècles, Paris 1693 - 1713.
R. Ceillier: Histoire generale des autears sacre’s et ecclesiastiques, Paris
وهو يقع في 23 مجلدًا، يعالج الكتّاب المسيحيّين قبل 125م.
[28] Quasten: Patrology, vol 1, p. 5.
[29] راجع للمؤلف: المسيح في سرّ الأفخارستيا Christ in the Eucharist طبعة 1973م، ص 217، 128.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/apostolic/history.html
تقصير الرابط:
tak.la/zcakwc6