محتويات |
كلمة "Patrologia" مأخوذة من الكلمة اللاتينيّة Pater أي "أب" فعلم الباترولوچي هو العلم الذي يبحث في حياة الآباء الأولين وأعمالهم (أقوالهم وكتاباتهم) وأفكارهم [2].
1. دراسة سيرة الآباء أو حياتهم أمر حيوي، يسندنا في تفهّم شخصياتهم ومعرفة الظروف المحيطة بهم، والتي من خلالها سجّلوا لنا كتاباتهم [3].
2. أما أعمالهم سواء كانت أقوالهم سواء كانت أقوالهم أو كتاباتهم أو رسائلهم فهي جزء لا يتجزّأ من تاريخ حياتهم. دور علم الباترولوچي هو التأكّد من أصالة هذه الأعمال بتحقيقها علميًا مع نشرّها وترجمتها إلى اللغات الحديثة الحيّة.
3. أما الجانب الرئيسي في هذا العلم فهو الكشف عن فكر الآباء وعقائدهم وتعاليمهم، لا ببتر بعض فقرات من أعمالهم لتأكيد فكرة معيّنة أو عقيدة ما، بل بالحري بالدخول إلى روح الآباء والتعرّف على النقاط التي ركّز عليها كل أب، ودراسة آرائه على ضوء الصراعات المعاصرة له. يلزم دراسة تعاليم كل أب وشروحاته وتعليقاته على ضوء صوت الكنيسة الجامعة، بكونه عضوًا في الجسد الواحد.
بمعنى آخر، علم الباترولوچي ليس تعرّفا على الآباء وكتاباتهم فحسب وإنّما هو تفهّم عميق وحقيقي للحياة المسيحيّة والإيمان الجامع والتدبير الكنسي خلال آباء الشرق والغرب.
علم الباترولوچي ليس عرضًا مجرّدا لتاريخ الأدب المسيحي الأول، بل إدراك التعليم الكنسي والنسك المسيحي والعمل الكرازي والرعوي وتفهّم الوحدة المسيحيّة... الخ، كما عاشتها الكنيسة الأولى [4].
يلقَّب إبراهيم وإسحق ويعقوب بطاركة "آباء" إسرائيل [5]، وكان اللقب الرسمي للكتبة في التقليد اليهودي هو "آباء".
وفي كنيسة العهد الجديد نسمع في استشهاد القدّيس بوليكاربوس جماعات اليهود والوثنيّين يصرخون: "هذا هو أب المسيحيّين" [6]. وحين دافع القديس أثناسيوس عن استخدام تعبير (أمؤسيوس) ذكر أن الآباء استخدموها، قاصدًا بتعبير "الآباء" القدّيسين ديونسيوس السكندري وديونسيوس الروماني وغيرهما [7].
ماذا نعني بكلمة "الآباء" في علم الباترولوچي؟
كان التعليم في الأصل عملًا أسقفيًا، أو قل عملًا أبويًا، إذ لم يكن التعليم في الكنيسة الأولى عرضًا لأفكار نظريّة أو عقائد فكريّة وفلسفات، لكنّه أولًا وقبل كل شيء هو تقديم خبرة حياة إيمانيّة يعيشها التلاميذ مع آبائهم؛ بهذا يمتزج التعليم بالتلمذة، أو بالأبوة الروحيّة، لهذا كان التعليم قاصرًا على الأساقفة والكهنة، والشمامسة الذين يُسمح لهم بذلك. لم يكن هذا بقصد احتكار التعليم ووقفه على جماعة معيّنة، وإنّما كان التعليم الإنجيلي الكنسي عملًا أبويًا، فيه يبذل الكاهن لا عصارة فكره وإنّما كل حياته من أجل الدخول بكل إنسان من فساد العالم إلى مجد أولاد الله. هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: "أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1كو4: 15).
* عندما يتعلّم إنسان من فم آخر يُقال عنه أنّه ابن ذاك الذي يعلّمه، ويُحسب الأخير أباه [8].
* الكلام ابن النفس، لهذا ندعو الذين يعلّموننا آباء لنا... ويُحسب الذي يتعلّم في خضوع الابن [9].
في علم الآباء لا يُحصر تعبير "آباء" على الأساقفة والكهنة والشمامسة الذين لهم تراث أدبي روحي أو لاهوتي، وإنّما يضم المدافعين عن الإيمان المسيحي في القرون الأولى، كما يضم الرهبان الذين هربوا من الكهنوت لكنّهم تلمذوا كثيرين بفكر نسكي إنجيلي.
يُشترط في الأب الآتي:
1. أن يكون له مقالات أو كتب أو رسائل أو أقوال سجّلها له أبناؤه الروحيّون أو بعض الرحالة خلال مناظرتهم معه.
2. أن يكون أرثوذكسي -مستقيم- المعتقد، يعيش بروح الكنيسة في غير انحراف إيماني. لهذا غالبًا ما كانت كتابات الآباء تفتتح بالعبارة: "مقال أو رسالة لأبينا القدّيس..." تأكيدًا لأرثوذكسيّة واضع المقال [10]؛ وكأن الأرثوذكسيّة والأبوة مع الحياة القدسيّة قد امتزج الكل معًا. هذا والكنيسة الأولى لا تؤمن بعصمة الآباء بصفتهم الشخصيّة، ولا تقبل آراءهم الذاتيّة، إنّما تعرفهم خلال عضويّتهم معًا في جسد المسيح الواحد، يحملون روح الكنيسة الجامعة.
هذا وتستفيد الكنيسة بتراث بعض الشخصيّات التي عُرفت بخصوبة إنتاجها مع ارتباطهم بالكنيسة، وإن كانوا قد سقطوا في بعض الانحرافات مثل العلامة ترتليان وتاتيان وأوريجينوس... الخ.
يعطي علم الباترولوچي اهتمامًا بكتابات الهراطقة أيضًا والكتب الأبوكريفا (المزوّرة) لنتفهّم جو الكنيسة الأولى، ونتعرّف كيف شهدت الكنيسة للحق بالرغم من مقاومة الهراطقة.
3. قداسة الحياة: فنحن ندرس هذا العلم من أجل التمتّع بالحياة الكنسيّة الإنجيليّة الأصيلة، نتقبّل فكر الكنيسة الأولى خلال قدّيسيها الذين قدّموا حياتهم مع كتاباتهم سجّلًا حيًّا للشهادة للحق العملي.
4. يضع بعض علماء الباترولوچي شرط "الزمن" بمعنى أن يكون الأب منتميًا إلى الكنيسة حتى زمن معين، حدّدها البعض بالقرن السادس وآخرون بالقرن الثامن، ويرى آخرون أن عصر الآباء ممتد ما دام روح الرب يرافق الكنيسة ويعمل فيها، لهذا لا ينقطع عنها آباء قدّيسون معلّمون [11].
5. يضع الكاثوليك شرط القبول الكنسي للأب، لكننا بروح الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تقوم الكنيسة بتقنين "اللاهوت ألآبائي" في كل كلمة، ولا تقدّم فهرسًا إلزاميًا عن الآباء وتراثهم، إنّما تكتفي في مجامعها بفرز الكتابات والآراء المنحرفة إيمانيًا وتحذر منها كما تحرّم الهراطقة من شركتها حتى يرجعوا عن ضلالهم؛ هذا والكنيسة تحدّد الآباء الذين يذكرون في "المجمع" سواء في القداس الإلهي أو التسبحة لتطلب صلّواتهم عنا.
ما هو مدى التزامنا بما ورد في تراث الآباء؟
يمثّل الآباء القديسون فكر الكنيسة الجامعة الذي تسلّمته من الرسل بفعل الروح القدس الذي يعمل بلا انقطاع في حياة الكنيسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. يتحدّث عنهم القديس أغسطينوس، قائلًا: [تمسّكوا بما وجدوه في الكنيسة، عملوا بما تعلّموه، وما تسلّموه من الآباء أو دعوه في أيدي الأبناء [12]]، [من يحتقر الآباء القديسين إنّما يعرف أنّه يحتقر الكنيسة كلّها [13].]
يقوم هذا السلطان على عاملين: عامل طبيعي إذ اتّسم الآباء بالحياة القدسيّة والأمانة في استلام وديعة الإيمان الحيّ من أيدي الرسل لذلك هم أقدر على الشهادة للحياة الكنسيّة من كل جوانبها، خاصة واته يحملون الفكر الواحد، بالرغم من اختلاف الثقافات والمواهب والظروف، مع بُعد المسافات بين الكراسي الرسوليّة وصعوبة الاتصالات في ذلك الحين. والعامل الثاني إلهي حيث عاش الآباء منحصرين بالروح القدس قائد الكنيسة ومرشدها إلى كل الحق، يحفظها داخل دائرة صليب المسيح.
هذا لا يعني عصمة الآباء كأفراد وإنّما تعيش الكنيسة الجامعة ككل محفوظة بروح الرب.
1. لا يقدر أحد من الآباء بمفرده أن يتعرّف على "الحق" كلّه كما تعرِّفه الكنيسة في كليّتها، لهذا يليق بنا ألاَّ نقبل رأي أب ما بطريقة مطلقة بغير تحفّظ، إنّما يجب أن يكون رأيه إنجيليًا يحمل روح الكتاب المقدس ومطابقًا لفكر الكنيسة الجامعة.
2. يلزمنا ألاَّ نبتر بعض فقرات من تراث الآباء لتأكيد فكرة مسبّقة في أذهاننا... هذا يتطلّب دراسة شاملة جامعة للفكر الآبائي ولفكر كل أب مع مراعاة ظروف الكتابة حتى ندرك ما يعنيه الأب من كل عبارة.
3. دراسة معاني بعض التعبيرات التي يستخدمها الأب، إذ توجد عبارات أو كلمات كانت تحمل مفاهيم فلسفيّة أو شعبيّة في ذلك الحين. توجد كلمات يستخدمها الأب بمعنى يناسب أفكار بعض الوثنيّين أو الهراطقة في ذلك الوقت، خاصة حين يكتب إلى فئة معيّنة للرد عليها أو لتوضيح الحق بلغتهم ومفاهيمهم الخاصة. هذا يستلزم منّا دراسة الفلسفات القديمة المعاصرة للآباء والهرطقات وأفكار الشعوب وأيضًا دراسة الحياة الكنسيّة ونموّها... الخ.
4. يمكننا فهم بعض العبارات الصعبة الواردة في كتابات أحد الآباء بمقارنتها بما ورد في كتابات وأعمال الآباء المعاصرين له.
يجب التعرّف على تاريخ وضع العمل، وإدراك المرحلة التي كان فيها واضع هذا العمل، فما ينطق به أب في مرحلة ما يعني غير ما ينطق به في مرحلة أخرى من حياتهم، لاختلاف الظروف التي يعيش فيها الأب من مرحلة إلى أخرى.
احتل تراث الآباء مركزا مرموقًا في حياة الكنيسة وإيمانها، اعتمد عليه القديس أثناسيوس في دفاعه [14]، كما اعتمد القدّيس باسيليوس على كثير من التقاليد الكنسيّة خلال أقوال الآباء السابقين له.
تزايد هذا الاتجاه، إي الالتجاء إلى أقوال الآباء السابقين، في القرن الرابع، ونما جدًا في القرن الخامس [15]. فالقدّيس كيرلس الإسكندري كمثال، في كتاباته إلى الرهبان المصريّين [16] دفاعًا عن لقب القدّيسة مريم ثيؤتوكوس qeotokoc -لتأكيد أن المولود هو كلمة الله المتأنّس دون انفصال اللاهوت عن الناسوت- أشار إليهم أن يقتفوا آثار القدّيسين. إذ حفظوا الإيمان المسلم إليهم من الرسل، وعلّموا المسيحيّين باستقامة. مرّة أخرى يؤكّد أن التعليم الصحيح الخاص بالثالوث القدوس قد وضح [بحكمة الآباء القديسين [17].] وفي حديثه ضدّ نسطور [18] التجأ إلى تعليم الكنيسة المقدّسة الممتدّة في كل العالم وإلى الآباء المكرّمين أنفسهم، معلنًا أن الروح القدس تحدّث فيه. ولتدعيم حديثه عن السيد المسيح استند إلى بعض متقتطفات آبائيّة في كتاباتهم الجدليّة [19]، قدّمها إلى مجمع أفسس [20].
كان الأقباط منذ نشأة الكنيسة في مصر على صلة وثيقة بالفكر الآبائي للكنيسة الجامعة، فقد قاموا بترجمته إلى لغة الشعب حتى في صعيد مصر، والدليل على ذلك وجود مخطوطات قبطيّة قديمة لكتابات الآباء الرسوليّين، بكر الكتابات الآبائيّة، نذكر منها على سبيل المثال:
1. برديّة محفوظة في المكتبة الوطنيّة ببرلين تحوي ترجمة قبطيّة بلهجة إخميميّة لرسالة إكليمنضس الروماني إلى كورنثوس، ترجع إلى القرن الرابع، مأخوذة عن دير القدّيس ابنا شنودة بسوهاج "الدير الأبيض".
2. برديّة من القرن السابع بستراسبورج تحوي مقتطفات من ترجمة لذات الرسالة السابقة.
3. ترجمة قبطيّة لرسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي؛ أشار إليها العالم Joseph Lightfoot في كتابه: "الآباء الرسوليّون"، وقام بنشرّها العالم چون بابتست بترا J.B.Petra توجد نسخ منها في المكتبة الأهليّة بفيّينا وبالمتحف البريطاني.
4. مخطوطات لترجمة كتاب الراعي لهرماس بالقبطيّة الصعيديّة، قام بنشرّها العالم ديلابورت Delaport، ومخطوطات لترجمة نفس الكتاب اشتراها العالم Lefort من القاهرة مكتوبة على ورق الغزال.
هذه المخطوطات مع المخطوطات الأخرى القبطيّة التي تحمل ترجمة لنصوص الآباء تكتظ بها متاحف العالم ومكتباته العامة تؤكد مدى اهتمام الأقباط بفكر الآباء منذ عصر مبكر جدًا.
[2] See F. Cayé: Patrologie et Histoire de la Theologie, Paris 1945, t. 1, p. ??
[4] cf. B. Schmid: Manuel of Patrology, 1903, p. 19, 20.
[5] انظر تك1: 24 (الترجمة السبعينيّة)؛ خر3: 13، 15؛ تث1: 8؛ أع3: 13؛ 7: 2، 12؛ رو4: 13، 16؛ 2بط3: 4.
[6] Marty. Polyc. 12:3.
[7] Athanasuis: Ep. ad Afros 6.
[8] Against Haer 4:41:2.
[9] Stromata 1:1:2.
[10] H. B. Swete: Patristic Study, Lonodn, 1904, p. 6.
[11] Timothy Ware: The Orthodox Church, Maryland 1969, p. 212.
[12] St. Ausgustine: Contra Julian, II 9.
[13] Ibid 37.
[14] Athanasius: Ep. ad Afros 6.
[15] Kelly: Early Chrisian Doctrines, p. 48-49.
[16] Ad Monach PG 77:12,13.
[17] In Joan. evang. 4 11: PG 74:216.
[18] Adv. Nest. 4:2.
[19] De recta Fide ad regin; apol. contr. Orient PG 76:1212 For; 316.
[20] E. Shwartz: acta conciliorum oecumenicorum 1:1, 7:89 F.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/apostolic/concept.html
تقصير الرابط:
tak.la/hr6mpfv