St-Takla.org  >   pub_Bible-Interpretations  >   Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament  >   Father-Tadros-Yacoub-Malaty  >   01-Sefr-El-Takween
 

تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب

سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"

التكوين 4 - تفسير سفر التكوين

 هابيل وقايين

 

محتويات:

(إظهار/إخفاء)

* تأملات في كتاب تكوين:
تفسير سفر التكوين: مقدمة سفر التكوين | التكوين 1 | التكوين 2 | التكوين 3 | التكوين 4 | التكوين 5 | التكوين 6 | التكوين 7 | التكوين 8 | التكوين 9 | التكوين 10 | التكوين 11 | التكوين 12 | التكوين 13 | التكوين 14 | التكوين 15 | التكوين 16 | التكوين 17 | التكوين 18 | التكوين 19 | التكوين 20 | التكوين 21 | التكوين 22 | التكوين 23 | التكوين 24 | التكوين 25 | التكوين 26 | التكوين 27 | التكوين 28 | التكوين 29 | التكوين 30 | التكوين 31 | التكوين 32 | التكوين 33 | التكوين 34 | التكوين 35 | التكوين 36 | التكوين 37 | التكوين 38 | التكوين 39 | التكوين 40 | التكوين 41 | التكوين 42 | التكوين 43 | التكوين 44 | التكوين 45 | التكوين 46 | التكوين 47 | التكوين 48 | التكوين 49 | التكوين 50

نص سفر التكوين: التكوين 1 | التكوين 2 | التكوين 3 | التكوين 4 | التكوين 5 | التكوين 6 | التكوين 7 | التكوين 8 | التكوين 9 | التكوين 10 | التكوين 11 | التكوين 12 | التكوين 13 | التكوين 14 | التكوين 15 | التكوين 16 | التكوين 17 | التكوين 18 | التكوين 19 | التكوين 20 | التكوين 21 | التكوين 22 | التكوين 23 | التكوين 24 | التكوين 25 | التكوين 26 | التكوين 27 | التكوين 28 | التكوين 29 | التكوين 30 | التكوين 31 | التكوين 32 | التكوين 33 | التكوين 34 | التكوين 35 | التكوين 36 | التكوين 37 | التكوين 38 | التكوين 39 | التكوين 40 | التكوين 41 | التكوين 42 | التكوين 43 | التكوين 44 | التكوين 45 | التكوين 46 | التكوين 47 | التكوين 48 | التكوين 49 | التكوين 50 | التكوين كامل

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

إن كانت الخطية قد انطلقت من حواء إلى آدم خلال غواية الحية فقد جاء النسل كله يحمل ميكروبها في طبيعتهم، وكما يقول الرسول: "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع" (رو 5: 12). وقد ظهر ذلك بقوة في قايين الذي لم يحتمل قبول الله ذبيحة أخيه فارتكب أول حالة قتل في تاريخ البشرية. وقد اهتم كثير من الآباء بقصة هابيل وقايين بكونها قصة البشرية الساقطة التي حملت البغضة لبعضها البعض.

 

1. قبول تقدمة هابيل

 

1 -7.

2. قتل هابيل

 

8 -16.

3. أولاد قايين

 

17 -24.

4. ميلاد شيث

 

25 -26.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

1. قبول تقدمة هابيل:

1 وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ قَايِينَ. وَقَالَتِ: «اقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». 2 ثُمَّ عَادَتْ فَوَلَدَتْ أَخَاهُ هَابِيلَ. وَكَانَ هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ، وَكَانَ قَايِينُ عَامِلًا فِي الأَرْضِ. 3 وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، 4 وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، 5 وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. 6 فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ 7 إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا».

 

St-Takla.org Image: Adam, Eve, Cain, Abel (Genesis 4:1, 2) صورة في موقع الأنبا تكلا: آدم وحواء وقايين وهابيل (تكوين 4: 1، 2)

St-Takla.org Image: Adam, Eve, Cain, Abel (Genesis 4:1, 2)

صورة في موقع الأنبا تكلا: آدم وحواء وقايين وهابيل (تكوين 4: 1، 2)

"وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقال: اقتنيت رجلًا من عند الرب" [1].

يرى فيلون اليهودي الإسكندري بأن قايين وهابيل توأمان، لكن هذا الرأي لم يجد قبولًا لدى آباء الكنيسة الأولى.

اعتمد بعض الأوريجانيين على هذا النص الذي بين أيدينا ليعلنوا أن آدم عرف حواء كزوجة له بعد السقوط، وكأن العلاقة الزوجية الجسدية في نظرهم هي ثمرة السقوط؛ بل وبالغ البعض بالقول أن السقوط نفسه لم يكن إلاَّ ممارسة هذه العلاقة. هذا الرأي المتطرف رفضته الكنيسة بشدة منذ ظهوره، بل وهاجمته، فقد أكد آباء الكنيسة أن الله هو مؤسس الحياة الزوجية في صورتها الكاملة، وأنه بالسقوط أو بدونه كانت تتم العلاقة الجسدية بين أبوينا ويتحقق إنجاب الأطفال، لكن لا يتم ذلك خلال شهوة شريرة بل كثمرة حب زوجي طاهر. كما رفض الآباء فكرة أن سقوط أبوينا هو اتحادهم الجسدي، إذ يدنس هذا الرأي النظرة نحو الحياة الزوجية.

على أي الأحوال أدركت حواء أن طفلها هو عطية إلهية لذا دعته "قايين"، أي (مُقتنى) وقالت: "اقتنيت رجلًا من عند الرب" [1]. ولعل سر فرحها به أنها ظنت مجيء المخلص الموعود به من نسلها قد اقترب جدًا، وربما انتظرت أن يتحقق ذلك في أيامها.

شعرت حواء أن ابنها مُقتنى من عند الرب، وكما يقول القديس أمبروسيوس في كتابه "قايين وهابيل": [يليق بنا أن ندرك أن الله هو المُوجِد والخالق، لذا نسبت حواء العمل لله، وعندما قالت: "اقتنيت رجلًا (a man child) من عند الرب"، إنما قالت هذا لكي نتمثل نحن بها في المواقف المتشابهة، فلا نحسب أن النجاح هو من عندياتنا بل ننسبه بكامله لله(131)].

[ثم عادت فولدت هابيل] [2]. وقد رأى القديس أمبروسيوس أن قايين يمثل الفكر العقلاني البحت أو المدرسة العقلية، وربما قصد الغنوسيين الذين وضعوا المعرفة العقلية وحدها كطريق للخلاص عوض الإيمان، حاسبين أن الإنسان قادر بعقله دون عون إلهي أن يبلغ معرفة الله ويدرك أسراره، مبدعًا في الفكر والإحساس والعواطف والمشاعر والانفعالات. أما هابيل فيرمز لمدرسة الإيمان التي تستنِد على نعمة الله لكي تتمتع بأسرار الله خلال الإيمان المُعْطَى للإنسان دون تجاهل لعقله. فالإيمان لا يناقض العقل إنما يرفعه خلال إعلانات الله له، ويسمو به؛ وإن المدرستين بالرغم من تناقضهما إلاَّ انهما متصلتان معًا، وكأنهما أخوان صدرا عن رحم واحد، وإن كانا لا يستطيعان السُّكْنَى معًا لزمان طويل.

St-Takla.org Image: Cain and Abel give offerings (Gen. 4:4). Wandsbeker Art Insitute - from "The Bible and its Story" book, authored by Charles Horne, 1909 صورة في موقع الأنبا تكلا: ذبيحة كلٍ من هابيل وقايين (التكوين 4: 4)، من معهد واندزبيكير الفني - من كتاب "الإنجيل وقصته"، إصدار تشارلز هورن، 1909

St-Takla.org Image: Cain and Abel give offerings (Gen. 4:4). Wandsbeker Art Insitute - from "The Bible and its Story" book, authored by Charles Horne, 1909

صورة في موقع الأنبا تكلا: ذبيحة كلٍ من هابيل وقايين (التكوين 4: 4)، من معهد واندزبيكير الفني - من كتاب "الإنجيل وقصته"، إصدار تشارلز هورن، 1909

هذا وتقدم لنا قصة هابيل وقايين صورة حيَّة لقصة بكورية الروح وبكورية الجسد، فإذ كان قايين بكرًا لآدم وحواء حسب الجسد لكنه فقد بكوريته خلال شره وظهرت بكورية هابيل الروحية بقبول ذبيحته بل وحياته كلها موضع سرور الله دون أخيه. هكذا يرى القديس أغسطينوس في قايين رمزًا لآدم الأول، بكر البشرية جسديًا، وقد فقد باكوريته ليظهر هابيل الحقيقي، السيد المسيح، آدم الثاني بكرًا حقًا للبشرية، فيه يتقبلنا الآب رائحة سرور ورضى. فمن كلمات القديس أغسطينوس: [من هذه الأبوين الأولين للجنس البشري، كان قايين بكرًا منتسبًا لمدينة الناس، ووُلده بعده، هابيل منتسبًا لمدينة الله فصار هو بالحقيقة البكر أيضًا. وكما في حالة الفرد (هكذا يكون على مستوى الجنس البشري) قيل بعبارة رسولية مميزة للحق: "لكن ليس الروحاني أولًا بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني" (1 كو 15: 46)، هكذا يحدث أن كل إنسان يُنزع عن اصله المُدان يولد أولًا من آدم الجسداني الشرير وبعد ذلك يصير صالحًا وروحانيًا عندما يُطعم في المسيح بالتجديد (بالمعمودية)، هكذا بالنسبة للجنس البشري ككل... إذ نجد سكان هذا العالم يولدون أولًا وبعد ذلك الغرباء عنه أي سكان مدينة الله الذين بالنعمة تعينوا، وبالنعمة اُختيروا، وبالنعمة عاشوا غرباء هنا أسفل، وبالنعمة عاشوا كمواطنين في الأعالي... الله كفخاري صنع من الطينة عينها إناءً للكرامة وآخر للهوان (رو 9: 21)، لكنه صنع إناء الهوان أولًا وبعد ذلك إناء الكرامة(132)].

لأننا كما أخذنا صورة الترابي أولًا بعدها حملنا أيضًا صورة السماوي إي المسيح فصرنا فيه خليقة جديدة مستحقين أن نكون إناء للكرامة.

[والعجيب أن قصة باكورية الجسد وباكورية الروح امتدت عبر الدهور، فنجد الله يختار إبراهيم أبًا لجميع الأمم ولم يكن بكرًا بين أخوته حسب الجسد، واختار إسحق الذي يصغر جسديًا عن إسماعيل، ويعقوب الذي يصغر عن أخيه عيسو. وجاء السيد المسيح من نسل فارص الذي ولدته ثامار وقد اقتحم فارص أخاه زارح وهو بعد في أحشاء أمه لينزع عنه البكورية (تك 38: 27-30)، وجاءت سلسلة نسب السيد المسيح تقدم مجموعة كبيرة من الآباء لم يكونوا أبكارًا  حسب الجسد... هذا وقد سبق لنا الحديث عن مفهوم البكورية وارتباطها بشخص السيد المسيح البكر خلال دراستنا لسفر العدد(133)].

يرى القديس أمبروسيوس في قايين رمزًا لجماعة اليهود الذين حملوا بكورية معرفة الله لكنهم جحدوا الإيمان بالمخلص وتلطخ مجمعهم بسفك دم بريء، ليأتي هابيل ممثلًا لكنيسة العهد الجديد تضم أعضاء من الأمم، فتحتل البكورية الروحية وتحسب كنيسة أبكار (عب 12: 23) خلال التصاقها أو اتحادها بالرب البكر. يقول القديس أمبروسيوس: [نرى في قايين الشعب اليهودي الملطخ بدم ربهم وخالقهم وأخيهم أيضًا، وفي هابيل نفهم الإنسان المسيحي الملتصق بالله كقول داود: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 73: 28)، أي ترتبط نفسه بالسمائيات وتتجنب الأرضيات. وفي موضع آخر يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك" (مز 119: 81)، مما يدل على أن شريعة حياته كانت متجهة للتأمل في الكلمة (المسيح) وليس في ملذات العالم(134)].

عندما تحدث الكتاب عن الولادة الجسدية بدأ بقايين البكر جسديًا ثم هابيل، أما وقد تسلم كل منهما عمله المحبوب لديه احتل هابيل مركز الصدارة وكأنه يغتصب من قايين بكوريته، إذ قيل: "وكان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين عاملًا في الأرض" [2]. وكما يقول القديس أمبروسيوس إن الكتاب المقدس لم يذكر هابيل أولًا بلا هدف بالرغم من مولده بعد قايين وإنما: [ذكر الأصغر أولًا عندما أشار إلى العمل والكفاءة والموهبة لكي ندرك الفارق بين مهنتيهما. فبحسب خبرتنا تأتي فلاحة الأرض وحرثها أولًا لكنها أقل في المركز من رعاية الغنم(135)]. لعل العمل في الأرض يشير إلى الإنسان الجسداني الذي يركز عينيه وكل طاقاته نحو الأرض والزمنيات، أما رعي الغنم فيشير إلى الإنسان المهتم بالرعاية والتدبير وقيادة الجسد بكل طاقاته (الغنم). لهذا يليق بنا ألا نكون عاملين في الأرض لحساب الجسد وشهواته بل رعاة ندبر الجسد ونرعاه روحيًا لحساب ملكوت الله.

St-Takla.org Image: Cain and Abel present their sacrifices to the Lord (Genesis 4:3, 4) صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين وهابيل يقدمان ذبائح للرب (تكوين 4: 3، 4)

St-Takla.org Image: Cain and Abel present their sacrifices to the Lord (Genesis 4:3, 4)

صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين وهابيل يقدمان ذبائح للرب (تكوين 4: 3، 4)

يميز القديس ديديموس الضرير بين عمل هابيل وقايين، فيرى في هابيل كراع للغنم إنه مدبر لحواس جسده وضابط لها، أما قايين فكان عاملًا في الأرض وليس كنوح فلاحًا (تك 9: 20)؛ مميزًا بين العامل في الأرض والفلاح. فالفلاح هو الذي يدبر العمل الزراعي يعرف متى يحرث ومتى يبذر ومتى يحصد بحكمة وتدبير حسن، أما العامل في الأرض فيعمل بلا حكمة ولا تدبير (يقوم بعمل جسدي لا تدبيري). يقول القديس ديديموس: [لم يقل الكتاب عن قايين أنه فلاح بل عامل في الأرض. إذ لم يكن له دور قيادي كما كان لنوح الذي دُعي فلاحًا وليس عاملًا في الأرض (تك 9: 20)... كان هابيل راعيًا للغنم أي مدبرًا للحواس التي يقودها. هذا هو الراعي الممتاز الذي يُخضع لعصاه علمه ويضبط غضبه والشهوة، ويحمل فهمًا كقائد ومدبر. أما قايين فكان يدور في الأرض والأرضيات لا كفلاح بل كعامل في الأرض، كصديق للجسد يسلك بلا تعقل ولا تدبير... يمكن أن ينطبق عليه القول: "لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (إش 22: 13؛ 1 كو 15: 32)، أما الذي يعمل هذه الأمور بتدبير إلهي فيطبق المبدأ القائل: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31)(136)].

"وحدث بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقدم هابيل أيضًا من أبكار غنمه من سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [3- 5].

 

لماذا لم ينظر الله إلى قايين وقربانه؟

 أولًا: يرى القديسان ديديموس الضرير وأمبروسيوس أن تعبير: "وحدث بعد أيام" يشير إلى تراخي قايين في تقدمته أو ممارستها بدافع غير الحب. إذ يقول الأول: [قدم قايين تقدمته بإهمال، أما هابيل فقدمها بإخلاص(137)]، ويقول الثاني: [جاءت تقدمة قايين بعد أيام... وليست بسرعة واشتياق، لذا جاءت الوصية: "إذا نذرت نذرًا للرب إلهك فلا تؤخر وفاءه" (تث 23: 21)، "إذ نذرت نذرًا لله فلا تتأخر عن الوفاء به... أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ" (جا 5: 4، 5)(138)].

 

ثانيًا: لعل الله رفض تقدمة قايين لأنها كانت من ثمار الأرض، ولم يقل من [بكور الثمار]، فلم يقدم أفضل ما لديه، أما هابيل فقدم: "مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا"... أعطَى الله الأولوية‍!

 

St-Takla.org Image: God talks to Cain (Genesis 4:5-7) صورة في موقع الأنبا تكلا: الله يتحدث إلى قايين (تكوين 4: 5- 7)

St-Takla.org Image: God talks to Cain (Genesis 4:5-7)

صورة في موقع الأنبا تكلا: الله يتحدث إلى قايين (تكوين 4: 5- 7)

ثالثًا: كانت تقدمة قايين من ثمار الأرض غير القادرة على المصالحة بين الله والإنسان، أما تقدمة هابيل فكانت ذبيحة دموية تحمل رمزًا لذبيحة السيد المسيح القادر وحده على مصالحتنا مع الآب خلال بذل دمه عنا.

 

رابعًا: يرى القديس چيروم في حديث الرب مع قايين (الترجمة السبعينية): "إذ لم تقسم بالصواب" أن قايين قدم لله ثمار الأرض ولم يقدم قلبه، أي قدم تقدمة خارجية دون الداخل، فكان التقسيم غير مصيب.

أما كيف عرف قايين أن الله قبل تقدمة هابيل دون تقدمته، فكما يقول القديس ديديموس الضرير: [ربما نزلت نار أكلت التقدمة، كما حدث مع هرون وبنيه، إذ "خرجت نار من عند الرب وأحرقت على المذبح المحرقة والشحم، فرأي جميع الشعب وهتفوا وسقطوا على وجوههم" (لا 9: 24)، وكما حدث مع إيليا النبي (1 مل 18: 38-40)](139).

أما أول ثمار رفض التقدمة فهو: "اغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه" [5]، إذ تفسد الخطية سلام الإنسان وتحطمه ليعيش في غيظ وضيق، كما تنحدر بوجهه ليسقط إلى التراب عوض أن يرتفع نحو السماء، وكما يقول الحكيم: "حكمة الإنسان تنير وجهه" (جا 8: 1)، "اَلْقَلْبُ الْفَرْحَانُ يَجْعَلُ الْوَجْهَ طَلِقًا، وَبِحُزْنِ الْقَلْبِ تَنْسَحِقُ الرُّوحُ" (أم 15: 13). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). بالخطية يسقط وجه الإنسان مغمومًا، وبالمسيح يسوع يرتفع متهللًا ليقول: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف" (2 كو 3: 18).

الآن إذ سقط وجه قايين لم يتركه الله هكذا منهارًا بل تقدم إليه يسأله: "لماذا اغتظت؟ ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا رفع؟‍‍! وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها" [6-7].

 حقًا لم يقبل تقدمته لأنها من قلب غير نقي، لكنه لا يتركه في سقوطه بل يتقدم إليه بالحب يحدثه في صراحة ووضوح: "إن أحسنت أفلا رفع؟‍" ، وكأنه يعاتبه، قائلًا: "إن أحسنت ما بداخلك أفلا أرفع وجهك من جديد؟‍ لماذا تستسلم للغيط، ولماذا تترك وجهك ساقطًا؟!‍" وفي تحذير يقول له: "إن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها"، وكأنه يقول له" "إني أرى خطية القتل رابضة عند الباب تود أن تتسلل إلى أعماقك مع أنك أنت تسود عليها، أي صاحب السيادة والإرادة، لك أن تقبلها ولك أن ترفضها. أنت لا تزال سيدًا عليها، لكنك إن قبلتها تسود عليك وتحدرك إلى عبوديتها. ما دامت عند الباب رابضة فهي ضعيفة، لكن إن تسللت تضعف أنت أمامها وتنحني لها بروح العبودية.     

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

قايين يقتل هابيل: "صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض" (تكوين 4: 10)

St-Takla.org Image: Cain killed Abel: "The voice of thy brother's blood crieth unto me from the ground" (Genesis 4:10) صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين يقتل هابيل: "صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض" (تكوين 4: 10)

2. قتل هابيل:

8 وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. 9 فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» 10 فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. 11 فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. 12 مَتَى عَمِلْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ». 13 فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. 14 إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي». 15 فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَةَ أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلاَمَةً لِكَيْ لاَ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. 16 فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ.

 

"وكلم قايين هابيل أخاه، وحدث إذ كان في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقايين: أين هابيل أخيك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟‍  فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض" [ 8-10].

ظن قايين أنه قتل واستراح، ولكن الله جاء ليسأله كي يثير فيه التوبة، فهو لا يريد أن يستر على خطايانا بغلاف خارجي بينما يبقى الفساد يدب في الأعماق، إنما كطبيب روحي يريد أن يكشف الجراحات ويفضحها لأجل العلاج. هذا ومن جانب آخر أراد الله أن يؤكد لقايين أنه إله هابيل لا ينساه حتى وإن مدّ أخاه يديه عليه ليتخلص منه، وكما يقول القديس ديديموس الضرير على لسان الرب: [لا تظن أن جريمتك هربت من عيني، ومن رعايتي التي لا تغفل(140)]. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تخلص منه إذ رآه محبوبًا، متوقعًا أن ينزعه عن الحب، لكن ما فعله جعله بالأكثر مثبتًا في الحب، إذ بحث الله عنه، قائلًا: أين هابيل أخوك؟(141)].

 أخفَى قايين جسد أخيه، لكنه لم يقدر أن يكتم صوت النفس الصارخة إلى الله، والتي عبّر عنها الرب بقوله: "صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض"، إذ يشير الدم إلى النفس بكونه علامة لحياة. فإن سُفْكَ الدم تبقى النفس صارخة خلال الدم المسفوك ظُلمًا على الأرض. هذا الصوت الصارخ هو صوت كل إنسان يُظلم من أجل الحق فيُحسب شاهدًا للحق أو شهيدًا، تبقى صرخاته تدوي فوق حدود الأرض (المكان) والموت (الزمان). عن هذا الصوت يقول القديس أمبروسيوس: [للدم صوت عال يصل من الأرض إلى السماء(142)]. فالظلم أو الضيق لا يكتم النفس ولا يلجم لسانها بل بالعكس يجعلها بالأكثر متحدة مع كلمة الله الحيّ المصلوب، فيصير لها الصوت الذي لا يغلبه الموت ولا يحبسه القبر. وكأن سر قوة صوت الدم المسفوك ظلمًا هو اتحاد الإنسان بالمصلوب الحيّ. وقد رأى القديس إكليمنضس الإسكندري في دم هابيل رمزًا لدم المسيح الذي لا يتوقف صوته الكفاري وعمله، إذ يقول: [لم يكن ممكنًا للدم أن ينطق بصوت ما لم تراه خاص بالكلمة المتجسد، فالرجل البار القديم (هابيل) كان رمزًا للبار الجديد (السيد المسيح كلمة الله)؛ وما يشفع به الدم القديم إنما يتحقق خلال مركز الدم الجديد. الدم الذي هو الكلمة يصرخ إلى الله معلنًا أن الكلمة يتألم(143)].

إن كان قايين قد حَطَّم جسد هابيل بجسده فصمت لسانه تمامًا، لكنه لم يكن ممكنًا أن يلجم لسان قلبه وصرخاته الداخلية التي يستجيب لها الله سامع التنهدات الخفية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان موسى متألمًا وصلَّى هكذا (بقلبه) وسُمع له، إذ يقول له الله: [لماذا تصرخ إليَّ؟] (خر 14: 15) ومع أنه لم يصرخ بفمه؛ وحنة أيضًا لم يكن صوتها مسموعًا، وحققت كل ما تريده، إذ كان قلبها يصرخ (1 صم 1: 13). وهابيل لم يصلِ فقط وهو صامت وإنما حتى عندما مات أرسل دمه صرخة كانت أكثر وضوحًا من صوت بوق(144)].

 استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذ به يستهين بالله نفسه في حديثه معه، فإن كل خطية تصوب نحو أخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. فبالحقيقة إن ازدرى أحد بالأخر إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير... لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله(145)].

St-Takla.org Image: Cain kills Abel (Genesis 4:8) صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين يقتل هابيل (تكوين 4: 8)

St-Takla.org Image: Cain kills Abel (Genesis 4:8)

صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين يقتل هابيل (تكوين 4: 8)

إن كان عصيان آدم وحواء قد حمل تأديبًا ملموسًا يذّكر البشرية مرارة عدم الطاعة، فإن جريمة القتل الأولى قدمت لقايين تأديبًا ماديًا ملموسًا يكشف له عما حلّ به في أعماقه، إذ قيل له: [متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها] [12]. بسبب جريمته حلّ بالأرض نوع من القفر لتكشف عن أرض الإنسان أي جسده الذي صار بالخطية قفرًا، لا يقدم ثمرًا روحيًا لائقًا. ويعلق القديس ديديموس الضرير على هذا التأديب الإلهي بقوله: [يحدث أحيانًا أنه بسبب خطايا الإنسان تصير الأرض قفرًا ولا تعطي ثمرًا، كالقول: [تنوح الأرض بسبب الساكنين فيها] (هو 4: 3). لقد وهبت الأرض لكي تثمر للذين يحتفظون بفهمهم بغير فساد... لكن الثمر يتناقص بأمر الرب (بسبب فساد الإنسان) حتى يتغير الناس عن حالهم(146)].

إن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذي يفقد عمله الأصيل فيصير بلا ثمر روحي، فإن النفس أيضًا تفقد سلامها الداخلي، إذ قيل له: "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" [12]. وكأن النفس التي خضعت للجسد الترابي الأرضي تجده قفرًا، فتعيش فيه بلا راحة ولا سلام، إنما في حالة تيه وفزع. هذا ما أكده الكتاب المقدس بقوله: "خَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ" [16]. أي تخرج النفس من حضن ربها مصدر سلامها لتسكن في "نود" التي تعني "التيه" أو "الاضطراب". وكما يقول القديس ديديموس الضرير: ["نود" تعني "اضطراب". هناك كان يجب أن يسكن من ترك الفضيلة الهادئة ودخل إلى الاضطراب(147)]. ويقول القديس چيروم: [ترجمة "نود" هو "تيه"، فإذ اُستبعد قايين من حضرة الله سكن بالطبيعة في نود وصار تائهًا. هكذا اليهود إذ صلبوا الله ربهم تاهوا هنا وهناك وصاروا يلتمسون خبزهم. لقد تفرقوا في العالم ولم يبقوا في أرضهم. أنهم يشحذون الغنى الروحي إذ ليس لهم أنبياء، وصاروا بلا ناموس ولا كهنة ولا ذبيحة، صاروا شحاذين بمعنى الكلمة(148)]. أما سر التيه فهو الخروج من لدن الرب [16]؛ ليس خروجًا مكانيًا إنما هو خروج عن الشركة معه والتمتع به. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لا نفهم أن قايين خرج بعيدًا عن الرب مكانيًا، إنما نقول أن كل خاطئ هو خارج الرب بنفس المعنى الذي يحمله التعبير "أدخل نحو الرب" عندما يقول المزمور: "ادخلوا إلى حضرته بترنم" (مز 100: 2). فعندما ندخل إلى حضرته نترك عنا كل ما هو خارجي أي الخطايا وكل الملموسات، حتى ننعم بأمور أخرى ليست من هذا العالم، لنشترك في معرفة الله... الله ليس بخاضع لمكان بالرغم من إقامة هيكل له... لقد خرج قايين لأنه حسب نفسه غير مستحق لمعاينة وجه الرب، بمعنى أنه لم يعد له فكر الرب(149)]. ويرى القديس باسيليوس الكبير أن أقسى عقوبة يسقط تحتها الإنسان حرمانه من حضرة الرب: [أقسى أنواع العقوبة التي تفرض على ذوي القلوب الصالحة هي التغرب عن الله(150)].

St-Takla.org Image: God curses Cain (Genesis 4:9-15) صورة في موقع الأنبا تكلا: الله يلعن قايين (تكوين 4: 9- 15)

St-Takla.org Image: God curses Cain (Genesis 4:9-15)

صورة في موقع الأنبا تكلا: الله يلعن قايين (تكوين 4: 9- 15)

أدرك قايين خطورة ما بلغ إليه حاله، فاعترف للرب: "ذنبي أعظم من أن يحتمل. إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض من وجهك اختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" [13- 15].

واضح من اعتراف قايين أنه شعر بالندم ليس كراهية في الخطية وإنما خوفًا من العقاب الأرضي، ومع هذا فقد فتح الرب باب الرجاء إذ لم يعده بألا يُقتل وإنما من يقتله يعاقب بمرارة شديدة كمن يُنتقم منه سبعة أضعاف، مقدمًا له علامة حتى لا يقتله كل من وجده، هكذا يبدأ الرب مع قايين بالحب لعل قايين يرتمي من جديد في حضن الله بالتوبة الصادقة والرجوع إليه.

يرى القديس باسيليوس الكبير(151) أن قايين أخطأ، واستحق أيضًا سبعة تأديبات، أم خطاياه السبع فهي: [حسده لأخيه هابيل، كذبه على الله، خداعه لهابيل إذ استدرجه إلى الحقل، ما هو أبشع من قتل أخاه، قدم قدوة سيئة للبشرية في بدء تاريخها، أخطأ في حق والديه بقتل إبنهما]. أما التأديبات السبعة فهي: [بسببه لُعنت الأرض، صارت الأرض عدوة له يعيش عليها كمن مع عدوه، لا تعطيه الأرض قوتها، يعيش في تنهد، يصير في رعب، يُطرد تائهًا، يتغرب عن وجه الرب].

أما العلامة التي قدمها الله لقايين حتى لا يقتله كل من وجده فربما تشير إلى علامة الصليب التي فيها يختفي الخاطئ ليجد أمانًا وسلامًا خلال مصالحته مع الله. هذه هي العلامة التي يوسم بها أولاد الله الذين لا يطيقون الرجاسات فتحفظهم من الهلاك المهلك كما رأى حزقيال النبي (حز 9: 6). ويرى القديس أغسطينوس أنها علامة العهد الذي وُهب لرجال العهد القديم كظل للصليب، معلنًا في ناموسهم وطقوسهم، إذ يقول: [هذه العلامة لليهود إذ أمسكوا بناموسهم واختتنوا وحفظوا السبوت وذبحوا الفصح وأكلوا خبزًا غير مختمر(152)].

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

3. أولاد قايين:

17 وَعَرَفَ قَايِينُ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَنُوكَ. وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ. 18 وَوُلِدَ لِحَنُوكَ عِيرَادُ. وَعِيرَادُ وَلَدَ مَحُويَائِيلَ. وَمَحُويَائِيلُ وَلَدَ مَتُوشَائِيلَ. وَمَتُوشَائِيلُ وَلَدَ لاَمَكَ. 19 وَاتَّخَذَ لاَمَكُ لِنَفْسِهِ امْرَأَتَيْنِ: اسْمُ الْوَاحِدَةِ عَادَةُ، وَاسْمُ الأُخْرَى صِلَّةُ. 20 فَوَلَدَتْ عَادَةُ يَابَالَ الَّذِي كَانَ أَبًا لِسَاكِنِي الْخِيَامِ وَرُعَاةِ الْمَوَاشِي. 21 وَاسْمُ أَخِيهِ يُوبَالُ الَّذِي كَانَ أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ. 22 وَصِلَّةُ أَيْضًا وَلَدَتْ تُوبَالَ قَايِينَ الضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ. وَأُخْتُ تُوبَالَ قَايِينَ نَعْمَةُ. 23 وَقَالَ لاَمَكُ لامْرَأَتَيْهِ عَادَةَ وَصِلَّةَ: «اسْمَعَا قَوْلِي يَا امْرَأَتَيْ لاَمَكَ، وَأَصْغِيَا لِكَلاَمِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا لِجُرْحِي، وَفَتىً لِشَدْخِي. 24 إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلاَمَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ».

 

إن كان الله قد فتح باب الرجاء أمام قايين بالرغم من بشاعة ما ارتكبه من شر ضد الله والناس، عوض الرجوع إليه بالتوبة ليسترد سلامه أقام مدينة دعاها باسم ابنه "حنوك" [17]، حتى لا يعيش أولاده مثله تائهين. وكأنه يكرر ما فعله والداه من قبله إذ خاطا لنفسيهما مآزر من أوراق التين (تك 3: 7). تستر عريهما مع بقاء الفساد الداخلي بلا علاج.

هذه هي أول مدينة بناها الإنسان لنفسه ليحتمي فيها من قرارات الله وتأديباته، بل بالحري يحتمي من التيه الذي جلبه لنفسه بنفسه لهذا يقول القديس چيروم: [المدينة العظيمة التي بناها قايين أولًا ودعاها باسم ابنه تؤخذ رمزًا لهذا العالم الذي بناه الشيطان بالرذيلة ودعمه بالجريمة وملأه بالشر(153)]. ويقول القديس أغسطينوس: [لقد سُجل أن قايين بَنَى مدينة، أما هابيل فكعابر لم يبن شيئا، لأن مدينة القديسين فوق، وإن كانت تنجب لها مواطنين هنا أسفل لكي يرحلوا في الوقت المناسب ويملكوا، عندما يجتمعون في يوم القيامة ويُعطَى لهم الملكوت الموعود به، الذي فيه يملكون مع رئيسهم وملك كل الدهور، آمين(154)].

St-Takla.org Image: Cain and his wife (Genesis 4:16-18) صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين وزوجته (تكوين 4: 16- 18)

St-Takla.org Image: Cain and his wife (Genesis 4:16-18)

صورة في موقع الأنبا تكلا: قايين وزوجته (تكوين 4: 16- 18)

إن كان قايين قد أنجب "حنوك" مقدمًا له مدينة ترابية تحميه من التيه، عوض البركة الروحية، فإن الكتاب يسجل لنا سلسلة مواليد قايين حتى يصل إلى لامك ليقدمه لنا كزوج لامرأتين هما عادة وصلة. أنجب من الأولى يابال ويوبال، ومن الثانية توبال وأخته نعمة. ويرى القديس چيروم أن لامك لم تكن له حواء واحدة بل أول من تزوج بامرأتين إشارة إلى عمل الهراطقة الذين يقسمون الكنيسة إلى كنائس منحرفة عن الإيمان(155) على أي الأحوال إن كان قايين قد قدم أبشع مثل للجريمة في بدء تاريخ البشرية بقتله أخيه ظلمًا، فإن ثمرة الشر هي الهرطقة التي تفسد كنيسة الله وتحرف الإيمان، بل وتدفع إلى الإحاد، وكما يقول القديس أغسطينوس: [وراء كل إلحاد شهوة].

يرى البعض(156) في حياة لامك مع هاتين المرأتين أنها تمثل الحياة الوثنية أو البعد عن الله، فإن كانت "عادة" في العبرية تعني "جمال" أو "زينة"، و"صلة" تعني "ظل"، فإن الأولى تشير إلى شهوة العين، والثانية تشير إلى "شهوة الجسد". الأولى بجمالها أو زينتها تغوي العين عن التطلع إلى السمويات، والثانية كظل تسحب النفس للعبودية لشهوات الجسد الذي لا يمثل إلاّ ظلًا يختفي، أي تسحبها للأمور الجسدانية الزمنية المؤقتة.

في اللغة الأشورية "عادة" مأخوذة من "عدهاتو" وتعني "ظلام"، وأما "صلة" فمشتقة من "ظلاتو" وتعني "ظلال الليل"، وكأن لامك اختار في شره أن يتحد مع الظلام وظلال الليل خلال حياته الشريرة.

قبل أن نتحدث عن المثل الذي نطق به لامك لامرأتيه نذكر معاني الأسماء الواردة في هذا الأصحاح:

أ. عيراد بن حنوك؛ كلمة "عيراد" مشتقة من الكلمة العبرية "عير" وتعني "مدينة"، ربما لأن قايين كان يبني المدينة الأولى في العالم التي دعاها باسم ابنه حنوك. ويرى البعض أن كلمة "عير" في العبرية تعني "جحش" أو "حذر".

ب. محويائيل بن عيراد، اسمه يعني "مضروب من الله".

ج. متوشائيل بن محويائيل، اسمه عينه "بطل الله" أو "رجل الله".

د. لامك، يعني "قوي".

St-Takla.org Image: Plate 9: Lamech and his two wives. Landscape with Lamech at centre, talking to his two wives Adah and Zillah seated in front of a farm-house at left, two children playing music at far left, two other children in foreground, Lamech again beyond standing next to a dead man, a wide landscape with mountains in background. - The Story of the First Men Collection, Flemish engraving on paper, 1583, used under (CC BY-NC-SA 4.0) license, British Museum (Department of Prints & Drawings) صورة في موقع الأنبا تكلا: لوحة رقم 9: لامك مع زوجتيه عادة وصلة. لامك في الوسط يتحدث معهن أمام منزل ريفي على اليسار، وطفلان يلعبان الموسيقى على أقصى اليسار، وطفلين على الناحية الأخرى. وفي الخلفية نرى مشهد للامك وهو يقف أمام جثة إنسان ميت، مع جبال في الخلفية - مجموعة صور الرجال الأوائل، نقوش فلمنكية على الورق، 1583 م.، محفوظة في المتحف البريطاني، قسم المطبوعات والرسومات

St-Takla.org Image: Plate 9: Lamech and his two wives. Landscape with Lamech at centre, talking to his two wives Adah and Zillah seated in front of a farm-house at left, two children playing music at far left, two other children in foreground, Lamech again beyond standing next to a dead man, a wide landscape with mountains in background. - The Story of the First Men Collection, Flemish engraving on paper, 1583, used under (CC BY-NC-SA 4.0) license, British Museum (Department of Prints & Drawings)

صورة في موقع الأنبا تكلا: لوحة رقم 9: لامك مع زوجتيه عادة وصلة. لامك في الوسط يتحدث معهن أمام منزل ريفي على اليسار، وطفلان يلعبان الموسيقى على أقصى اليسار، وطفلين على الناحية الأخرى. وفي الخلفية نرى مشهد للامك وهو يقف أمام جثة إنسان ميت، مع جبال في الخلفية - مجموعة صور الرجال الأوائل، نقوش فلمنكية على الورق، 1583 م.، محفوظة في المتحف البريطاني، قسم المطبوعات والرسومات

قدم لامك لامرأتيه أول قطعة شعرية في الأدب العبري، تسمى "أغنية السيف للامك"، جاء فيها "أسمعا لقولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي، فإني قتلت رجلًا لجرحي وفتى لشدخي. إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف وأمّا للامك فسبعة وسبعين" [23، 24]. خلال هذه الأغنية نشتم روح الافتخار والاعتداد بالذات بالدفاع عن النفس والثقة في قوة الإنسان وعنفه، إذ يرى البعض أن لامك يعلن لامرأتيه أنه يستخدم السيف الذي اخترعه ابنه توبال والذي قيل عنه "الضارب كل آلة من نحاس وحديد" [22]، يستخدمه في دفاعه عن نفسه؛ لهذا فيحسب نفسه بريئا إن قتل إنسانًا ما دام ليس بقصد القتل وإنما دفاعًا عن نفسه. إن كان قايين كقاتل أخيه ينتقم له سبعة إضعاف فإن لامك كمدافع عن نفسه ينتقم له سبعة وسبعين.

توجد تفاسير كثيرة لهذه الأغنية فالبعض يرى أن لامك شاخ جدًا وصار ضعيف البصر وإذ كان حفيده يقوده وكان محبًا للصيد أشار له حفيده عن صيد فضرب بالسهم فإذا به يقتل جده قايين عن غير قصد، وإذ صرخ الحفيد معلنًا قتل قايين ضرب لامك الفتى فقتله، لذلك قال "قتلت رجلًا (قايين) لجرحي، وفتى لشدخي". وأدرك إنه كقاتل لا بُد أن يُقتل، لكنه إذ قتل بغير عمد ينتقم له الرب سبعة وسبعين.

يرى البعض أن رقم 77 يذكرنا بنسب السيد المسيح كما ورد في إنجيل لوقا (لو 3: 23- 38) فإنه ينتقم للخطية أو يُقتص العدل بمجيء المخلص الذي يدفع الثمن كاملًا على الصليب.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

4. ميلاد شيث:

25 وَعَرَفَ آدَمُ امْرَأَتَهُ أَيْضًا، فَوَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثًا، قَائِلَةً: «لأَنَّ اللهَ قَدْ وَضَعَ لِي نَسْلًا آخَرَ عِوَضًا عَنْ هَابِيلَ». لأَنَّ قَايِينَ كَانَ قَدْ قَتَلَهُ. 26 وَلِشِيثَ أَيْضًا وُلِدَ ابْنٌ فَدَعَا اسْمَهُ أَنُوشَ. حِينَئِذٍ ابْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ.

 

عندما اقتنت حواء "قايين" ظنت فيه بركة للأجيال كلها، لكن سرعان ما فسدت حياته وقتل أخاه البار... فلم يترك الله حواء منكسرة الخاطر، بل وهبها بداية جديدة بإنجاب "شيث" عوض "هابيل". معنى "شيث" في العبرية "عوض" أو "معيّن" وكأن الله جبله عوض هابيل وعينه رأسًا لجيل مقدس. وبالفعل أنجب شيث "أنوش" الذي يعني "إنسانًا"، "حِينَئِذٍ ابْتُدِئَ أَنْ يُدْعَى بِاسْمِ الرَّبِّ" [26].

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(131) قامت بترجمة هذه المقال الابنة المباركة.... نبيل (1: 1).

(132) City of God 15: 1.

(134) قايين وهابيل 1: 2.

(135) قايين وهابيل 1: 3.

(136) In Gen. 119, 120.

(137) Ibid 121.

(138) Cain & Abel 1: 7.

(139) In Gen. 121.

(140) In Gen. 129.

(141) In Rom. hom 8.

(142) Ep. 22: 23.

(143) Instr. 1: 6.

(144) In Matt. Hom 19: 4.

(145) In 2 Tim. hom 7.

(146) In Gen. 129.

(147) In Gen. 136.

(148) On Ps. hom 35.

(149) In Gen. 135.

(150) Ep. 260: 4.

(151) Ep. 260.

(152) On Ps. 49.

(153) Ep. 46: 7.

(154) City of God 15: 1.

(155) 123: 2.

(156) Edersheim: The Bible History, V.I. P. 30. adv.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات التكوين: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/01-Sefr-El-Takween/Tafseer-Sefr-El-Takwin__01-Chapter-04.html

تقصير الرابط:
tak.la/bpkcjf9